|
كيف عشتُ طقسَ -الحلول- مع فرجينيا؟
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 6379 - 2019 / 10 / 14 - 00:55
المحور:
الادب والفن
في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2005، فاجأني الكاتب المصري السويسري "جميل عطية إبراهيم" بأن طلبَ رقم هاتف والدتي! هاتَفها وقال لها بالحرف: (مدام سهير، أنا مَدين لكِ بالشكر، لأنك أنجبتِ التي فتحت لي عالَم مغلق. عالم فرجينيا وولف. أنا قرأت رواياتها بالإنجليزية، لغتها الأصلية، وقرأت ترجمة رواياتها للفرنسية وبرضو مفهمتهاش؛ رغم إتقاني للغتين! فـ كرهتها. وقفلت بابها للأبد لأننا مش بنحب اللي مش بنقدر نفهمه. ولكن لما قرأت شغلها بالعربية بترجمة بنتك، اكتشفت قد ايه عالم ڤرچينيا وولف ساحر وبدأت أعشق أدبها. أنا مَدين لابنتك بدخولي عالم فرجينيا وولف لأول مرة من خلال ترجمات فاطمة ناعوت. أشكرك أيتها الأم العظيمة.) وصارت تلك المحادثةُ الجميلة طُرفةً تحكيها أمي لصديقاتها، ويحكيها الأديبُ الكبير "جميل عطية إبراهيم" كلما زار القاهرة من چنيف، والتقينا. وصارت شهادةُ ذلك الرجل الجميل إكليلاً فوق هامتي، أزهو به فرحًا وخُيلاءً. وبالفعل فإن صعوبة "ڤرچينيا وولف" الأدبية حقيقةٌ يعرفها كلُّ ضالع في الشأن الأدبي. أولا: لأنها تكتب وفق مدرسة "تيار الوعي" stream of conscious، التي تجعل الكاتبَ يستسلم تمامًا لصوتِ مونولوجه الداخلي، ثم يرسمُ كل ما يَرِدُ إلى عقله من أفكار ومشاعر دون ترتيب أو تشذيب أو إخضاع للمنطق. وهو ما أسماه النقادُ "التداعي الحرّ للأفكار". حيث شلالُ الأفكار والأحاسيس يتساقط داخل أذهاننا دون ترابط ولا نظام، بكل عشوائية المشاعر وتنافرها وفوضويتها وارتجالها ونزقها وعجائبيتها…. يهيمُ معها الأديبُ ويرسمها بالكلمات. قد تبدأ وولف جُملةً في صفحة؛ ثم تُنهيها بعد عدة صفحات، بسبب انهمار الأفكار كالسَّيل الجامح دون توقف. وأما السبب الأهم لصعوبة كتابتها، فهو إصابتها بمرض عقلي سأتحدث عنه بعد برهة. حين أنهيتُ مخطوطةَ ترجمتي لأحد كتبها، ذهبتُ إلى شيخ المترجمين العرب، أ.د. محمد عناني، في مكتبه بجامعة القاهرة، أطلبُ منه المراجعة وكتابة مقدمة. وبمجرد أن سمع اسم "ڤرچينيا وولف" هتف قائلا: (ليه اخترتِ وولف يا حبّوبة؟ دي حيطة سدّ.) قلتُ له: (أحببتُها، وعشتُ أوجاعَها!) وكتب د. عناني مقدمةً رائعة أشادَ فيها بدقّة ترجمتي وبراعتي في القبض على مفاتيح أسلوبية ڤرچينيا وولف. وصدر الكتاب عن (المركز القومي للترجمة) قبل عشر سنوات، ومازال يُطبَعُ في طبعات عديدة كل عام، مُتوَّجًا بمقدمة د. عناني التي أعتبرها تاجًا فوق هامتي أزهو به، إضافةً إلى كتابي الأول عنها عام 2004: "جيوبٌ مُثقلةٌ بالحجارة"، بتقديم د. ماهر شفيق فريد. في مقالي الخميس الماضي (أيها الخائنُ.. أيها النبيل)، تكلمتُ عن "الخيانة الأمينة"، و"اللصوصية الشريفة" التي يمارسُها الأديبُ في ترجمة الأدب والشِّعر. وألمحتُ إلى وجوب "حلول" المترجِم في روح وشخص وجسد المُترجَم عنه، حتى يُنتج نصًّا فاتنًا لا يقلُّ عذوبةً وإبداعًا عن النص الأصلي. ووعدتُ في نهاية المقال بأن أحكي لكم كيف "حَلَلْتُ" في شخص ڤرچينيا وولف لكي أترجم أعمالها. والحلولُ الذي أقصده، استعرتُه من طقس "الحلول الصوفي" الذي تكلّم عنه المتصوفة؛ وأجلى مثال عليه قصيدة "الحلاج" إذ يقول: “أنا مَن أهوَى، ومَن أهوى أنا/ نحنُ روحانِِ حَلَلْنا بَدَنا/ فإذا أبصرتَني أبصرتَهُ/ وإذا أبصرتَهُ أبصرتَنا/ رُوحُهُ روحي ورُوحي رُوحُه/ مَن رأى روحينِ حَلَّا بدَنا.” سنواتٍ طوالاً "توحّدتُ" فيها مع البريطانية الجميلة ڤرچينيا لكي أؤلف عنها، وأترجمَ لها. كانت مصابة بـBiPolar Disorder. وهو اضطرابٌ عقليّ يجعل الإنسان َمتأرجحَ الِمزاج بين أعلى درجات البهجة وأحطِّ درجات الإحباط. ولكن ڤرچينيا العظيمة روَّضت المرضَ وساسته وسَخَّرته في إبداعها على نحو عبقريّ فريد. جدلت ضفيرةً من خيالاتها (التي تضربها في نوبات مرضها) مع واقعها (الذي تعيشه في لحظات وعيها) ثم قدّمت من تلك الجديلة أرفعَ ألوان الأدب، وأصعبَه، في النصف الأول من القرن الماضي. لكن المرضَ انتصر عليها في الأخير وانتحرت غرقًا في نهر "أوز" بانجلترا عام 1941، لكي تهرب من هلاوسِها وتُخفِّف عن زوجها عبء رعايتها. عشتُ حياتَها وانصهرتُ في هلاوسِها وبكيتُ لأحزانِها، وفرحتُ لبهجاتِها، وارتعبتُ من هتلر؛ كما ارتعتبت هي وزوجها، ودخلتُ معهما غرفة الغاز التي صنعاها في جراچ بيتهما؛ لينتحرا بالغاز إن غزا هتلر بريطانيا. كنتُ أقرأ نهارًا، وأترجمُ ليلاً، وأنامُ فأرى في أحلامي وجه ڤرچينيا الحزين. أمسحُ دموعَها وأهدئ من روعها وأخبرُها أن مخاوفها انتهت مع موات النازية التي هدّدت الحلفاء. فتتركني إلى غرفة الغاز لتطمئن أن الضخَّ جاهزٌ. وذات نهار، ذهبتُ معها إلى النهر وأثقلتُ جيوبَ فستاني الفيكتوري بالأحجار مثلها، لكنها غافلتني وأغرقت نفسَها وماتت؛ قبل أن تعرف أن النازيَّ هُزم وفشل في اجتياح وطنها في الحرب العالمية الثانية. وجلستُ على ضفاف النهر أبكيهاسنواتٍ. تحيةً لروحها. ودائمًا "الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن”.
***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سانت كاترين: متخافوش على مصر
-
اللواء باقي زكي يوسف… كاسر أنف صهيون
-
أيها الخائنُ … أيها النبيل!
-
يوم من أيام مصر الجميلة... تحيا مصر يسقط كل عدو لمصر!
-
مهرجان الجونة … الرقصُ داخل الأغلال
-
أن نكون شوكةً في ظهر مصر!
-
خالد جلال … يستعيدُ ذاكرةَ (نادية)
-
صَهٍ … إن مصرَ تتكلّم!
-
اعترافات أجدادي العِظام … السَّلفُ الصالح
-
ماعت التي ما ماعت ... في صالوني
-
جهادُ المصريين ضد الجهل والطائفية والإخوان
-
كانوا وسيمين … كنّ جميلات!
-
عنصريةُ اليد اليسرى!
-
ابحث عن نسختك الأجمل
-
الراهبُ … البون بون … الأخلاق
-
فولتير على القومي… يحاربُ العنفَ بالبهجة والتفاؤلتي
-
فولتير على القومي… يحاربُ العنفَ بالبهجة والتفاؤل
-
بناءُ الإنسان في مصر
-
المهرجان القومي لأبي العظماء السبعة
-
مصرُ يليقُ بكِ الفرح … الوزيراتُ يليقُ بكنّ الأبيض
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|