|
رحلة العدد اثنا عشر بين الحضارات والأديان
ثائر البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 6343 - 2019 / 9 / 6 - 10:04
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
9-5-2019 للعدد 12 حضور بارز في حياة البشر وحضاراته المختلفة. إنه عدد ساعات النهار، وعدد ساعات الليل، وعدد شهور السنة، وعدد أبراج السماء، وعدد آلهة السومريين وعدد آلهة الأغريق والرومان، وعدد بنود قانون حمورابي، وعدد ألواح القانون الروماني، وعدد المحلفيين الأمريكان، هذا قليل من كثير. أما ظهور العدد 12 في أديان الشرق الأوسط ، قديمها وحديثها، فذلك أمر مثير للغاية، إنه عدد تلاميذ زرادشت وعدد أسباط اليهود وعدد حواريي المسيح، وعدد أئمة الشيعة في الإسلام وأمور أخرى كثيرة. كل ذلك، يجعل متابعة رحلة العدد 12 بين الحضارات والأديان المختلفة، شيقة ومهمة. مهمة، لأنها تكشف عن خفايا هذا العدد، التي بقتْ غامضة وخافية عن المدارك والأذهان لفترات طويلة، وشيقة، لأنها تنزع القدسية عنه، بإعتباره جاء نتيجة تطور فكر الإنسان. متابعة الرحلة، تدعونا العودة إلى الحضارات الأولى في تاريخ البشر، كحضارات وادي الرافدين ووادي النيل والهند والصين وغيرها. الريادة كانت لحضارة وادي الرافدين التي أحرزتْ تقدماً كبيراً في مختلف ميادين الحياة والمعرفة، خاصة الرياضيات والهندسة والفلك. للمزيد من المعلومات يمكن العودة إلى مصادر كثيرة، منها كتاب: "سكنة وادي الرافدين رواد الرياضيات"، المنشور عام 2011 ، لمؤلفه أستاذنا الدكتور ريمون شكوري، تجدون رابطه في نهاية المقال. تبدأ رحلتنا مع العدد 12 بوقفة قصيرة مع مفهوم الأعداد عموماً لنتعرف عليها بشكل مختصر، خاصة العدد 12، والغاية إعطاء فكرة مبسطة عن الأعداد ونظمها، كي يكون واضحاً، انها لم تأت من فراغ، أو من أكوان أخرى، بل جاءت نتيجة تطورات فكر الإنسان وحاجاته اليومية، على مدى آلاف السنين، وستكون محطتنا الأولى في بلاد الرافدين، بداية رحلة العدد المبارك 12، قبل أكثر من 5000 سنة، ثم نعرج على بلاد أخرى، كمصر وإيران والصين والهند واليونان، لنرى كيف دخل هذا العدد في ثقافاتها وأساطيرها وعلومها وفلسفتها وأنغام موسيقاها ومعتقدات أديانها، وستكون محطتنا الأخيرة، قبل الختامية، في عَالم الأديان الإبراهيمية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلامية ، لنتعرف على فنونها وابداعاتها في استخدامات العدد 12 الذي أصبح مقدساً في قصهها ومعتبراً في أساطيرها ورواياتها. الأعداد إعتبارات رياضياتية مجردة، موجودة في فكر الإنسان، تطورتْ بتطوره الفكري، ساهمتْ في تقدمه الحضاري، تـُمـَثـّل بترتيبِ عددٍ من رموزٍ محددة، كالحروف اللاتينية السبعة، I، V، X،L،C ،D، M، تقابلها بالترتيب الأعداد 1،5،10،50،100،500،100، أو تـُمـَثـّل بالأعداد الطبيعية العشرة الأولى: 0 ،1، 2 ،...،9 ، تقابلها بالترتيب الأعداد: 0،1،2،3،4،5،6،7،8،9. ولتسهيل التعامل مع الأعداد وكتابتها، مهما كبرتْ، باستخدام رموز قليلة، اكتشفتْ حضارات مختلفة، نظم عددية مختلفة، يكون للرقم فيها، قيمة بحسب مكانه في العدد، منها: نظام العد العـُشري، أساسه العدد 10، يُستخدم فيه الأرقام العشرة الأولى لكتابة الأعداد، ونظام العد الأثنا عشري( النظام الدرزني)، أساسه العدد 12، يُستخدم فيه رموز النظام العـُشري، إضافة الى رمزين آخرين، فيـُرمز للعدد 10 بالرمز A، وللعدد 11 بالرمز B، ويكتب العدد 12 بالشكل 10 ، حيت ان الواحد يشير الى درزن واحد، والصفر يشير الى عدم وجود أي وحدة. ونظام العد الستيني، أساسه العدد 60، ابتدعه السومريون وأستخدموه في الألفية الثالثة قبل الميلاد، لا زال مستخدماً في جميع أنحاء العالم في قياسات الزمن والزوايا الهندسية ونظام الأحداثيات الجغرافية التي تـُستخدم في تحديد مواقع الأجسام على سطح الأرض. ونظام العد الثنائي، يُستخدم فيه رمزين فقط، (0،1)، يناسب برمجة الحاسبات الأليكترونية، بموجبه يتمّ تحويل اللغة الدارجة والأعداد المتداولة والصور والموسيقى، وأي أمور أخرى، إلى دلالة الـ (1،0)، التي تفهمها أجهزة الحاسبات الأليكترونية بأرتباطها مع فتح وغلق الدائرة الكهربائية. ومن الممكن أن تكون هناك أنظمة عددية أخرى بأي رموزٍ مناسبة. ورغم ان النظام العـُشري، أصبح أكثر الأنظمة العددية شيوعاً وتداولاً في العالم، ربما بسبب ان عدد أصابع يد الإنسان هي عشرة، إلا أن كثيراً من الرياضياتيين يرون أفضلية نظام العد الأثنا عشري، لخصوصية العدد 12. يتميز العدد 12، عن غيره من الأعداد بما لديه من قواسم كثيرة، قياساً لصغره، فعدد قواسمه 6، وهي: (1،2،3،4،6،12)، تـُقسم العدد 12 إلى أعداد صحيحة، غير كسرية، الأمر الذي يجعل إتخاذه، كأصغر عدد صحيح، أساساً لنظام عددي يتميز بكفاءة أعلى من غيره من الأعداد، فكتابة الكسور في النظام الأثني عشري أسهل من كتابتها في نظام العد العـُشري مثلاً. إن ثلث وربع وسدس العدد 12، هي أعداد صحيحة، تـُكتب على الشكل: 0.4 ، 0.3 ، 0.2 بالتوالي. لكن ثلث وربع وسدس العدد 10، هي أعداد غير صحيحة، لا بل إن بعضها أعداد غير منتهية، كالعددين 3 /10 ، 6 /10، وهي ...3.3333333 ، ...1.666666 على التوالي ، ما تسبب مشاكل كثير في التعاملات الحياتية. رحلة العدد 12 في بلاد ما بين النهرين يبدو أن إدراك السومرين المبكر، مرونة العدد 12 وسهولة إستخداماته، جعل له إيقاعاً سحرياً خاصاً في عقول الناس، تعّمقَ ذلك الإيقاع بمرور الزمن ليصبح العدد 12 مباركاً. فالسومريون، أول من قسَّموا: السنة الى 12 قِسماً، سَّموا كل قسمٍ منها شهراً، والسنة الى أربعة فصول، الربيع والصيف والخريف والشتاء، كل فصل من ثلاثة أشهر، وقسَّموا السنة الى 360 يوماَ، وهي الفترة التقريبية لدوران الأرض حول الشمس، والشهر الى 30 يوماً، واليوم إلى 24 ساعة، وهي ساعات دوران الأرض حول نفسها التي ينجم عنها حدوث الليل والنهار، إذ إن نصف اليوم، الليل، 12 ساعة، ونصفها الأخر، النهار، 12 ساعة، وقسَّموا الساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة إلى 60 ثانية، والدائرة إلى 360 درجة، كلها من مضاعفات العدد 12. وزاد من سِحرِ العدد 12 أقترابه من عدد دورات القمر حول الأرض خلال السنة، وهي تقترب من 13 دورة، وتناغماً مع عدد أشهر السنة، اتخذَ السومريون إثنا عشر إلهاً رئيسياً، جاعلين لكل شهر إلهاً، فاستمرعيدهم السنوي 12 يوماً، بدءاً من الأول من نيسان وإنتهاءاً في الثاني عشر منه. وتكونتْ حكومتهم من 12 عضواً يديرون شؤون البلاد. إن الإعتقاد العميق بأهمية العدد 12، جعل البابليين يـُقـَسمون القبة السماوية الى 12 قسمٍ، سَّموا كل قسمٍ برجاً، ذلك دفعهم منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، إلى تأسيس ما سُمـِّي بعلم التنجيم. علم التنجيم، هو العلم الذي يهتم بدراسة حركة الأجرام السماوية ومواقعها، مع الإعتقاد أن لتلك المواقع علاقة مع ميلاد الأشخاص وحظوظهم، وحوادث الحياة ومكنوناتها، وقيام الحروب ونتائجها ووقوع الجفاف والفيضانات وكوارثها، ذلك جعلَ المنجمين البابليين يراقبون حركة الكواكب والنجوم بحرص شديد، وعناية فائقة، ليس لغرض علمي، بل لمحاولة تنبؤات بحوادث المستقبل، لكن بعملهم هذا، تركوا للحضارة البشرية إرثاً كبيراً وخزيناً وفيراً من المدونات الفلكية المتواصلة لقرون طويلة، أفادتْ المراصد الفلكية، ومكنتْ الفلكيون اللاحقون، خاصة الأغريق، من تشكيل صورة عن المجموعة الشمسية وتوزيع النجوم في السماء. تعدى ظهور العدد 12 في مفاصل الحياة السومرية وأبراجها السماوية، ليتجلى إيقاعه في قصص الموت والحياة والفناء والخلود، كظهوره في ملحمة كلكامش الأسطورية، التي تركتْ أثراً كبيراً في ثقافات الشعوب الشرقية والغربية على السواء الى يومنا هذا. كـُتبتْ ملحمة كلكامش على إثني عشر لوحاً طينياً، وَصَّور فيها مرض أحد أبطالها أنكيدوا، تصويراً حزيناً، لحين موته في اليوم الثاني عشر. الأمر الذي يؤكد أهمية العدد 12 منذ فترات سابقة القـِدم لكتابة الملحمة الأقدم والأكمل في تاريخ الإنسان، التي تضمنتْ قصة الطوفان كاملة وقصة الخلق مفصلة. وبعد ألف عام من كتابة ملحمة كلكامش، ظهرتْ قوانين حمورابي، أول القوانين التي كـُتبتْ في تاريخ الإنسان، منقوشة بأثني عشر بنداً. ولم تتحددْ أهمية ظهور العدد 12 في بلاد الرافدين، بل تـَعدى ظهوره الى بلاد أخرى. رحلة العدد 12 في مصر وايران والصين والهند في مصر القديمة، بنحو 1500 ق.م، لاحظ المصريون ان متوسط فيضان النيل يأتي كل 365 يوماً، فقسّمَوا السنة، كما فعلَ السومريون قبلهم بأكثر من الف عامٍ، الى 12 شهراً أيضاً، في كل شهرٍ 30 يوماً، لتكون السنة 360 يوماً، من مضاعفات العدد 12، ثم ألحقوا بها خمسة أيام، لتصبح السنة 365 يوماً. في إيران، جاءتْ وصايا الديانة الزرادشتية التي ظهرتْ بنحو 500 سنة ق.م ، مدونة بــ 12 بنداً، أتخذ مؤسسها زرادشت، 12 داعيأً من تلاميذه، وحدد نهاية العالم بالمرحلة السعيدة بعد إثني عشر الف عام. وبحسب عقيدة المانويين، الدين الذي يجمع بين المسيحية والبوذية والزرادشتية، نزلَ الوحي على ماني، الفارسي الأصل، مؤسس الديانة المانوية في بابل وهو في الثانية عشرة من عمره. وفي إيران أيضاً، تحتفل الديانة البهائية، لمدة 12 يوماً بعيد الرضوان، وهي مناسبة ذكرى اعتزال مؤسس الدين البهائي، الملقب بهاء الله، لمدة 12 يوماً، قبل إعلان دينه للناس في حديقة النجيبية، القريبة من مدينة بغداد، والتي سميتْ فيما بعد، حديقة الرضوان. أما الصينيون والهنود، فقسَّموا السنة إلى 12 شهراً، على ستة فصول، بما يتناسب مع مناخهم، واتخذ الرب الخالق عندهم 12 إلهاً، لكل شهر إلهاً. وبحسب الميثولوجية الهندية تظهر في نهاية الحياة 12 شمساً في السماء، تجفف المياه وتحرق جميع ما في الأرض من نباتات وحيوانات، ثم تمطر السماء من دون توقف لمدة 12 سنة حتى تفنى البشرية كاملة. في الهند أيضاً، نجد أن الفلسفة البوذية، التي ظهرت بنحو 500 سنة قبل الميلاد، أعتبرتْ أن نيل الحياة السعيدة، يتطلب من الإنسان متابعة 12 وصية، وهي إرشادات تمكن الإنسان من إتخاذ أفضل الخيارات، التي تؤدي إلى تغيرات إيجابية في حياته.
رحلة العدد 12 في بلاد اليونان أما في اليونان، فيظهر العدد 12 في أساطيرها وفلسفتها وموسيقاها. تقول أساطير يونانية قديمة، إن الإله أورانوس، رب السماوات، تزوج من جايا، رّبة الأرض، فأنجبا إثني عشر من الأبناء الجبابرة، ستة منهم ذكورٌ وستة منهم إناثٌ، لكنهم ظلموا في الأرض كثيراً، وأغاضوا والدهم، حتى قرر رميهم في الجحيم، لينقذ الناس من شرورهم وسطوتهم، غير أن إبنه ألأصغر، لاورانوس، إله الزمان، تمكن من أن يشق طريقه من الجحيم، ليعود لمقاتلة والده، فينتصر عليه ويخـَلعه عن الألوهية، حتى يصبح أخوه، زيوس، إله السماء والصواعق، رب الأرباب، الذي تمّ أختياره من بين الألهة الأثنا عشر، ليتقاسموا مهام حكم العالم، وبعدها أنيط لهرقل، الأبن الجبار لزيوس، 12 مهمة عظيمة، عليه أن ينجزها في 12 شهر، كل مهمة من مهامه كانت تحدياً كبيراً له، كفيلة بأن تنهي وجوده تماماً، لكنه في نهاية المدة، تمكن من إنجاز مهامه المطلوبة. ويظهر العدد 12 بشكل متكرر في قصص الأوديسية، ويتعدى ظهوره ليبرز في الفلسفة الأغريقية، خاصة عند الفيلسوف فيثاغورس، الذي أعتبر العدد 12، عدداً ملائكياً. تضاربتْ المعلومات التاريخية حول شخصية الفيلسوف والرياضياتي اليوناني الكبير فيثاغورس لأسباب كثيرة، ربما أهمها، أنه لم يترك أي مدونات عن أعماله المختلفة، لكننا عرفنا من كتابات مؤرخين وفلاسفة، كهيرودوتس وأيسوقراطس وأرسطو وغيره، جاءوا بعده بقرون، أن فيثاغورس عاش في القرن السادس قبل الميلاد، كان شغوفاً بالبحث والمعرفة، ويبدو من أخباره أنه سافر ومكث لفترات طويلة في أماكن مختلفة، على رأسها مصر وبابل، المتقدمتان حضارياً حينها، إذ إنه عاش نحو 22 سنة في مصر، قريباً من كهنتها، الذين أحتكروا العلوم الرياضياتية، وأحتظنوا النابغين فيها، وفيثاغورس كان أفضلهم، لكنه لم يتمكن من التنبؤ بأن فوضى الإحتلالات، كانت ستطال مصر العظيمة آنذاك، التي غزتها القوات الفارسية في عام 525 ق.م، فقتلتْ كثيراً من كهنتها، وأسرتْ قسماً منهم، كان فيثاغورس من بين الأسرى الذين تمَّ اقتيادهم الى بابل المُحتلة من قبل الفرس أيضاً، فقضى فيها نحو 12 سنة، قريباً من كهنتها، كما في مصر، فأصبح ملماً بالتطبيقات الهندسية وعارفاً بالعلاقات العددية والمثلثية التي أبدع فيها الرافدينيون، كما أبدع فيها المصريون، الذين شيدوا الأهرامات، عجيبة العلاقات العددية والهندسية، التي وُجـِدتْ بعضها قبل ميلاد فيثاغورس بأكثر من ألف عام. إن معايشة فيثاغورس للتطبيقات الهندسية والرياضياتية، ومعرفته بتوزيع الأوتار الأحدى عشر للقيثارة السومرية، ونسبها العددية المقابلة لأنغامها الموسيقية، عمقتْ معارفه العددية، التي أفادته في وضع نظرية الموسيقى التي تنسب إليه، رغم أن باحثين كثيرين يرون أن اكتشاف نسب الأعداد التي ترتبط مع الأنغام الموسيقية تعود إلى بلاد ما بين النهرين. ان تاريخ القيثارة السومرية، التي تمَّ اكتشافها في أور عام 1929، يعود الى 2450 ق.م، اضافة الى أكتشاف الآلات موسيقية أخرى توضح علاقة النسب العددية المتعلقة مع الأنغام الموسيقية وتردداتها. سيظهر ذلك في مقال منفصل. وجد فيثاغورس، أن تقسيم طول الوتر بوضع جسم تحته الى أجزاء بنسب عددية كاملة، يبعث أنغاماً مريحة، أما تقسيم الوتر إلى أجزاء بنسب عددية ليستْ أعداداً كاملة، فيبعث أنغاماً نشازاً،غير مريحة، ما جعله يختار طولاً لوتره من 12 وحدة، فقسَّمَ وتره الى أنصافٍ وأثلاثٍ وأرباعٍ ، تبعث إذا ما هُزَّت أنغاماً موسيقيةً مريحة، وبذلك يكون فيثاغورس قد أسس علاقة عددية ورياضياتية لعلم الصوتيات، كانت هذه العلاقة مصدر إلهام له في صياغة نموذجه للكون الذي أستمر نافذاً لأكثر من الفي عامٍ. إفترض فيثاغورس في نموذجه للكون أن نسباً عددية صحيحة، تتحكم في ترتيب النجوم والكواكب، إذ تقع الأرض في مركزها والشمس والكواكب الأخرى تدور حولها بدوائر، نسبة اقطار مداراتها حول الأرض هي نسب بأعداد كاملة، كما في السلم الموسيقي، ينبعث من دورانها، موسيقى كونية رائعة، لها أنغاماً تعجز الأذن البشرية عن سماعها، وقد تبنى بطليموس هذا النوذج للكون في القرن الأول الميلادي، ثم تبنته الكنيسة الكاثوليكية لفترة طويلة قادمة، ودافعت عنه بشدة، حتى جاء العالم الفلكي البولوني كوبرنيكوس، بثورته الفلكية، في القرن السادس عشر، معتبراً مركزية الشمس في المجموعة الشمسية وليس مركزية الأرض، ولا يسع المجال في الدخول الى تلك التفاصيل. والأن نعود للفيثاغوريين ونذكر بعض الأعتبارات التي جعلتهم أن يصفوا العدد 12 بإنه عدداً ملائكياً. يـُعتبر الفيثاغوريون، أول من صنفوا الأعداد الى فردية وأخرى زوجية والى أعداد أولية وأخرى مركبة، ورمزوا لأمور أجتماعية واخلاقية أعداداً، وضعوا لها علاقات غريبة. فمثلاً، رمزوا للأنثى بالعدد الزوجي وللذكر بالعدد الفردي، وأعتبروا العدد 2 أول انثى، رمز النمو والرأي والعدد 3 أول عدد فردي، يمثل الذَّكـر، رمز التناغم، والعدد 4 رمز العدل، يمثل عدد فصول السنة الأربعة، والعناصر الأساسية المكونة للطبيعة( الماء، التراب، الهواء، النار) كما كان المُعتقد، والعدد 5 رمز الزواج لأنه ناتج من مجموع العددين 2، و 3، اول أنثى واول ذكر وهكذا. العدد 12 هو ناتج من حاصل ضرب العددين 3 و 4، يحتوي في تكوينه، المذكر والمؤنث، والعدد الأولي والمركب، والعدل والنمو والرأي والفعل والحركة والتناغم والإنسجام في آن واحد، أضف الى ذلك ان العدد 12 يمثل الطول الأمثل للوتر المهتز، الذي يعطي بتقسيمه، أعذب الأنغام الموسيقية، التي تتحرك بموجبها الأجرام السماوية. لكل تلك الإعتبارات، استحق العدد 12 أن يـُوصف عند الفيثاغوريين، بإنه عدداً ملائكياً. وللعدد 12 إعتبار فلسفي أخر، انه مجموع عدد الخطوط التي تحدد السطوح الستة، لأي شكل هندسي ثلاثي الأبعاد، فالفلاسفة الأغريق كانوا مرغمين بالأشكال الهندسية، والشكل الهندسي ثلاثي الأبعاد يمثل كل جسم في الكون. ان تقديس الفيثاغوريون للعدد 12 ترك اثراً كبيراً في أعمال الفلاسفة اللاحقين كأفلاطون مثلاً. عكستْ الأعداد عند أفلاطون، خاصة العدد 12 ومضاعفاته الشكل السياسي لجمهوريته المثالية، حين قـَسـّمَها إلى 12 قبيلة، عدد نفوس كل قبيلة دون العبيد والنساء والأطفال، 420 نسمة من الذكور البالغين، من مضاعفات العدد 12، ليكون عدد نفوس جمهوريته، 5040، العدد المثالي، الذي إشترط أفلاطون على حاكمها، المحافظة عليه، بأساليب وضوابط محددة، منها: تحديد النسل، وزواج الأصحاء والأقوياء من الرجال والنساء، وقتل المواليد المعوقين والمرضى من الأطفال غير الناصحين. وتبعاً لعدد سكان مدينته، جعل عدد أعضاء نواب مجلس مدينته 360 عضواً ممثلين عن القبائل الـ 12، لكل قبيلة 30 نائباً. إن ظهور العدد 12 في الأساطير السومرية والبابلية والمصرية والهندية والصينية واليونانية وفلسفاتها وموسيقاها، ونواحي الحياة المختلفة، دليل على تداخل الحضارات قديمها مع حديثها، وحضارة بلاد الرافدين من منابعها الأصلية. ولكن يبقى جانباً مهماً من جوانب الحياة الإنسانية، ترك اثراً بالغاً في ثقافات بلاد الشرق والغرب، الا وهو أديان الشرق الأوسط وقصصها ومعتقداها، أقصد هنا الأديان الأبراهيمية الثلاثة، فكيف كانت تداخلاتها وعلاقاتها وتفنن آدابها مع العدد 12؟ رحلة العدد 12 في عالم الأديان الأبراهيمية الأديان الأبراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وبلا أدنى شك، نشأت في أحضان حضارات الشرق الأوسط، إستخدمت العدد 12 بتكرار كبير، تفننت في نسج القصص والحكايات حوله بشكل مثير. في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، التوراة والأنجيل، يظهر العدد 12، 187 مرة في مواضع مختلفة، منها: إن ليعقوب 12 ولداً، منهم تكونتْ الأسباط الأثنا عشر، ولأسماعيل 12 ولداً ايضاً، وأن النبي موسى فجَّر 12 نهراً من بين الصخور، جاعلاً لكل قبيلة نهراً، وشجرة الحياة كان فيها 12 نوعاً من الفواكه، و يصف التلموذ ، الأثني عشرة ساعة الأولى في النهار الأول من حياة آدم وصفاً دقيقاً، والنبي سليمان إتخذ 12 وكيلاً، وأن 12 شخصاً شهدوا ولادة المسيح، الذي دخل المعبد وعمرة 12 سنة، ذلك المعبد الذي مكثتْ فيه السيدة العذراء 12 سنة، وكان عدد الذين حضروا العشاء الأخير مع المسيح 12 من حوارييه. في القرآن، ظهر العدد 12، مرات عديدة، منها: أن عدد الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، وإن أسباط بني إسرائيل اثنا عشرة سبطاً، وفـَجـَّرَ النبي موسى اثنتي عشرة عيناً من الماء، لكل سبطٍ عيناً، وإن النقباء الأثني عشر، هم أمراء الأسباط الأثني عشر، وفي حديث للنبي محمد، سـُميّ بحديث الأثني عشر خليفة، قال: إن أمرَ الإسلام سيظل قائماً حتى يمضي 12 خليفة، كلهم من قريش. واستلهاماً من ذلك الحديث، تأسست الطائفة الأثني عشرية، من أكبر الطوائف الإسلامية الشيعية. إن تكرر ظهور العدد 12 في الأديان يثير أسئلة منطقية كثيرة يصعب إيجاد إجابات منطقية عنها،، فدور المنطق ينتهي، عندما يبدأ الحديث عن العقائد الدينية وأساطيرها وغيبياتها، وما لها من إرتباطات مع مصالح وسياسات تتداخل، تنمو وتتطور مع الزمن، لا يسع هذا المقال الخوض في تفاصيلها. قبل نهاية الموضوع، لابد أن أُبين أن أعداداً مختلفة، غير العدد 12، ظهرتْ في قصص الحضارات واساطيرها، كالعدد واحد وثلاثة وستة وسبعة وتسعة وعشرة وغيرها، إنتقلتْ إلى الأديان ومقدساتها، نالتْ الأهمية أيضاً، غير أن العدد 12، انفرد بدخوله في مفاصل حياتنا اليومية بشكل اوسع، وتميـَّز بانتقاله الى صلب معتقداتنا بشكل أعمق، محاطاً بهالة من التقديس، تجعلنا خائفين حتى من مناقشته. ويتوجب عليّ أن أذكر أيضاً، أن حضارات بشرية مهمة كحضارة ألمايا التي ظهرتْ في وسط أمريكا نحو 2000 سنة قبل الميلاد حتى 900 ميلادية، وكشفت ما تركته لنا من آثار عن تقدمٍ في اللغة وبراعة في الكتابة الصورية، وتطور في الرياضيات والهندسة والعمارة والفن والموسيقى، هذه الحضارة لم تبدِ أهمية خاصة للعدد 12، بل أعتبرتْ العدد 13 مقدساً لأسباب دينية، بخلاف الكثير من الحضارات التي دفعتها اساطيرها ومعتقداتها الدينية إلى أن ترى في العدد 13 مصدر شؤم وسوء حظ. ففي قصة العشاء الأخير للمسيح، كان الشخص الثالث عشر، يهوذا، هو الذي وشى بالسيد المسيح، وكان سبباً في صلبه، ومن تلك الحادثة اصبح العدد 13 مثار شؤم في كثير من الثقافات. في الخاتمة، أود أن أوضح مسألتين مهمتين بخصوص العدد 12: المسألة الأولى: المساعي الداعية والمستمرة للتحول الى نظام العد الأثني عشري( الدرزني)، ما يؤكد أهمية العدد 12، قديماً وحديثاً. المسألة الثانية: وجوب سحب هالة القداسة من العدد 12 بعتباره عدد كباقي الأعداد، ناتج عن تطور بشري وحاجة إنسانية بحتة. بخصوص المسألة الأولى، أبين أن رياضياتيين كثيرين، ومنذ القرن السابع عشر، انتبهوا الى ضرورة التحول إلى نظام العد الأثني عشري، لأهمية العدد 12 ومرونة استخدامه كما ذكرنا. وقد نُشرتْ كتب ومقالات بذلك الخصوص، وعلى اثر ذلك، تأسست جمعيتان تدافعان للتحول الى النظام الأثني عشري، إحدهما في الولايات المتحدة الأمريكية والأخرى في بريطانيا، لهما نشريات ودوريات، يمكن متابعتها بزيارة موقعي الجمعيتين الأليكترونيتين المثبتين في نهاية المقال. والمسألة الثانية، تأتي من ملاحظة الجدول الزمني لأساطير الحضارات القديمة وظهور الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام التي قـَدَّستْ العدد 12 في قصصها ورواياتها. فقصص الدين اليهودي، أقدم الأديان الثلاثة، ومصدرها، دُونتْ في فترات الأسر اليهودي على مرحلتيه، الأشوري والبابلي، أقدمها نحو 600 ق.م، يوم كانت الحضارة الرافدينية في زهوها، تردد بين مثقفيها، أساطير كثيرة، كالتي وردت في ملحمة كلكامش، التي تسبق كتابة التوراة بفترة زمنية تزيد عن ألفي عام. وبعد ظهور التوراة بأكثر من الف عام ، ظهرت قصص القرآن، تكرار لقصص التوراة، بتحويرات بسيطة. لكن لم يتم الكشف عن ملحمة كلكامش، إلا بعد التنقيبات الأثرية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، التي مثلتْ خطوة أولى نحو صحوة فكرية للبشرية، بفضلها أصبحنا نعرف ان أديان الشرق الأوسط، أقتـبستْ إستخداماتها للعدد 12 من حضارة وادي الرافدين واساطيرها، لا علاقة لذلك بغيبيات وخرافات، تفنن كتاب ومؤلفون في تصويرها وابدعوا في اخراجها بقصصهم وكتاباتهم، ثم اضفوا عليها بأوهامهم صفة القدسية.
المصادر 1. سكنة وادي الرافدين رواد الرياضيات – الدكتور ريمون شكوري https://www.amazon.com/Mesopotamians-Pioneers-Mathematics-Raymond-Shekoury/dp/1456493736
2. الأهمية المقدسة للرقم 12 في الأنجيل http://fortfairfieldjournal.com/fte/092816.html 3 . العدد 12 في الأنجيل http://www.letusreason.org/Biblexp214.htm 4. حقائق متفرقة حول الرقم 12 https://www.thefactsite.com/2009/11/twenty-one-facts-about-number-12.html 5. الأهمية التاريخية للعدد 12 http://www.cbc.ca/news/world/what-s-the-historical-significance-of-the-number-12- 1.1249300 6. المعاني الخفية للرقم 12 في الكتاب المقدس https://mangish.net/forum.php?action=view&id=2916 7. الرقم التام عند افلاطون http://joedubs.com/5040-the-perfect-number 8. اسرار العدد 12 في الهند http://www.thehindu.com/features/friday-review/history-and-culture/the-secret-of-number-12/article6155235.ece 9. البوذية والعدد 12 https://vb.tafsir.net/tafsir31801/#.Wtwqkk2pX5ohttps://vb.tafsir.net/tafsir31801/#.WdLVs02pX5o 11. تبني نظام العد الأثنا عشري يسهل عمليات الرياضيات. لمؤلفه فرانك أرنست أندروز https://www.amazon.co.uk/New-numbers-acceptance-duodecimal-mathematics/dp/B0007DPP1E 12. قوانين حمورابي https://en.wikipedia.org/wiki/Hammurabi 13. مفهوم الأعداد https://en.wikipedia.org/wiki/Peano_axioms 14. نظام العد الدرزني يسهل عمليات الرياضيات https://io9.gizmodo.com/5977095/why-we-should-switch-to-a-base-12-counting-system 15. ظهور العدد 12 في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد http://www.biblestudy.org/bibleref/meaning-of-numbers-in-bible/12.html 16. الشيعة الأثني عشرية https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/09185151-212e-4ce7-9d04-fcda87e72475 17 . الجمعية الأمريكية الدرزنية http://www.dozenal.org/ 18. الجمعية البريطانية الدرزنية http://www.dozenalsociety.org.uk/ 19. الأنواط الموسيقية الفيثاغورية الـ 12 http://www.historyofmusictheory.com/?page_id=20 النظام الأثنا عشري https://en.wikipedia.org/wiki/Duodecimal
#ثائر_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دعوة تضامن على خلفية صدور فتاوى سنية وشيعية تسيء للشعب العرا
...
-
افراح وسرور ... بمناسبة رأس السنة الميلادية 2019
-
البينة على من ادعى
-
صحوتي الفكرية
-
أنقذوا حياة السيدة السودانية مريم
-
فرحة الجالية العراقية في أمريكا لأختيار الأب فرانك مطرانا ً
...
-
أستاذة الرياضيات الدكتورة سعدية مراد مكي في ذمة الخلود
-
حاضر العرب بين البداوة والدين
-
في رحيل الشخصية الوطنية سعيد يوسف سيبو
-
مِن ْ ذكرياتي في مدينة الأعظمية
-
في وقت الحصار والنكبات على العراق
-
في رحيل الكاتب والصحفي صباح صادق كبوتة
-
العلاقات العربية التركية بين الماضي والحاضر
-
يا رئيس الوزراء العراقي مهلا ً في قراراتكم
-
من هم الذين يسيرون نحو الهاوية وهم نيام؟
-
تأمل في يوم -الغضب العراقي-
-
المرجو من السيد رئيس الوزراء العراقي إصدار قرار تجميد بيع وش
...
-
أرفعوا عبارة ألله أكبر من العلم العراقي
-
مجزرة كاتدرائية سيدة النجاة في بغداد
-
الدكتور كاظم حبيب في إنحيازه الأنساني والوطني للقوميات
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|