قالوا: محمود أمين العالم


أفنان القاسم
2019 / 8 / 14 - 22:08     

*********************
توضيح

وقفات وليست مواقف، فالمواقف من ورائها غاية ما، والوقفات كلمات أو لحظات تَعِدُنا وتُعِدُّنا لنتخذ موقفًا، هدفي ليس هذا أو ذاك، هدفي توثيق بعض الكتابات عني في هذا المنبر، وفي هذه اللحظة الحاسمة من عمري الأدبي، وأنا أعيد زيارة الكتاب المقدس، وأتعرض لشتى ردود الفعل، وهي كذلك مناسبة لأرتاح.

*********************



تغيير المواقف لدى هذا الناقد الذي كنا "نعشقه" كتغييره للكنادر




(أنا والناقد القديم محمود أمين العالم كنا أصدقاء وصرنا أعداء، يحصل الأسوأ بين كتاب يحتضنهم التحضر ونقاد، قلت لماذا في مكان آخر، وفي حياته، وردح لي، كي لا يتندر القراء شامتين أفنان يقول ما يقول لأن محمود مات. المناسبة اليوم لحديثي عنه هي أن الدكتور التونسي المحبوب خليفة بساسي سيتكلم عن روايتي "المسار"، فتذكرت حديثي حولها مع ذاك العالِمِ بأمرهِ طه حسين الذي قال عنه وريثَهُ غيرُ عالمٍ أيَّهُ العالِم، تذكرت حولها حديثي معه بعد بعض الوقت من زمن نشرها. بدأنا بالحديث عن جمال الغيطاني وصُنع الله إبراهيم، كنت مع صُنع الله، وكان مع الغيطاني: "أنا لما شفت القصص بتاعه في "الأهرام"، قلت لهم جيبوا لي اياه دلوقت حالاً، عايز أشوفه، عايز أكلمه، ده الواد تولد فلته من بطن ماماه، ليه مستقبل كبير كبير أوي كبير خالص"! قال لي ما قاله عن جمال ليعبر عن إعجابه، لكني لم أكن تراثي في إعجابي، روايته "الزيني بركات" مكتوبة بلغة الأمس، الرواية جميلة، لكنها بدون طاقة نفسية، ربما لهذا السبب تأخر النقاد عن دراستها أكثر من عشرين عامًا، مثلما أخبرني الغيطاني، ونحن نجلس على رصيف مقهى في باريس: "اولاد الأحبة!" سبهم، كان حاقدًا عليهم، فكيفني وبعض كتبي لم يتفضل ناقد واحد، فقط ناقد واحد يا رب الإفلاس القهقراني (من قهقرى) يا رب رب الإفلاس الكركماني (من كركم)، لم يتفضل نصف ناقد ثلث ناقد ربع ناقد بنقدها منذ ثلاثين أربعين خمسين عامًا! فقال لي محمود: صُنع الله الذي تحبه، روايته "نجمة أغسطس" خالية من أي بعد نفسي كذلك، رواية شيئية. لهذا السبب أجبته، لأنها رواية شيئية، تنقر الكلمات كالحصى، ولأنها مرهقة للقارئ المكرِّش بتحية كاريوكا والشيخ حسب الله والمعلم بندق، وللناقد ستكون بالفعل كارثة لغوية تمحقه، وكارثة سردية تسحقه، وكارثة فردية تنهي عليه ببصاقنا، فتتحقق كل أمانيّ القلبية. كان يريد أن يكتب كتابًا عن مفضله، ففاجأني عندما غادر باريس عائدًا إلى القاهرة بكتابته كتابًا عن مفضلي.


تغيير المواقف لدى هذا الناقد الذي كنا "نعشقه" كتغييره للكنادر، كشف عنه رفاقه وهم في سجون جمال عبد الناصر عندما كانوا يبنون كمعتقلين حكم عليهم بالأشغال الشاقة "مسجد الشيوعيين" مثلما كان يسمي هذا المسجد المصلون في ذلك الوقت، قال رفاقه إنه كان يتجسس عليهم، وهو لهذا السبب استقبله عبد الناصر، ووعده بإصدار مجلته "اليسار العربي" من القاهرة، وما حال دون ذلك موت عبد الناصر المفاجئ. "تصور اليسار العربي تصدر من القاهرة!" قال لي وهو يطلق زفرة، ويبسم بسمته المصفرَّة.


يرتبط بتغيير المواقف الوعد الكاذب، فهو في كل مرة كنت أصدر فيها كتابًا كان يقول لي سأكتب، عن "الباشا"، سأكتب، عن "العصافير"، سأكتب، عن "الشوارع"، سأكتب، عن "المسار"، سأكتب، ويرتبط بالوعد الكاذب الادعاء الكاذب: "أنا قرأتها رغم أنها ضخمة أوي، وتلذذت بيها جدًا جدًا جدًا"، ملحمة العصر، أبطالها، أحداثها، أجواؤها، أبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية، فذلكاتها الفنية والسردية والخيالية، هلوساتها الجنونية والوجودية والعدمية، أفنان يحطم الآرقام القياسية في العداد الكهربائي العربي (يقصد الروائي)، أنا أذهلني ابتكارك لبانوراما الروي المتعدد الاتجاهات –حاجة ليست جديدة وله أعظم ناقد في التاريخ (!) أعظم اكتشاف في النقد-، كما أن القضية الفلسطينية لأول مرة في تاريخها يتم التعبير عنها أدبيًا بالشكل الذي تم التعبير عنها في "المسار"، هذه الرواية المذهلة! وفي الأخير يعترف لي: "زوجتي هي التي قرأتها، أمضت طوال الليل معها، ولم تنم، حتى أنهتها"... أفنان)