عدي مروان ورده
الحوار المتمدن-العدد: 6112 - 2019 / 1 / 12 - 06:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يُكوّن مبحث العقوبات أحد أكبر العوائق في الوصول إلى توافق بين التيارات الإسلامية و العلمانية حول مدى حدود تفويض أجهزة السلطة في التدخل العُنّفي و الضبّطي في سلوكيات الأفراد و حياة المجتمع و بالتالي أيضاً حول أسس بناء حياة سياسية و أسس المشاركة فيها, و عدم التوافق يبدأ من الاختلاف على مستوى البنية في المفاهيم حول العقوبات, فالفهم الإسلامي لمبدأ العقوبات مرتبط بالمنظومة الفكرية السائدة في الامبراطوريات الكائنة في عهد تكوين مراجعه المعتمدة إلى الآن من قبل المؤسسات الدينية الرسمية, و التي تسمح للسلطة بتنفيذ أحكام الاقتصاص الجسدي على الأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام توجب معاقبتهم و السائد كان العقاب الجسدي المباشر و بالتالي تفويض السلطة على أجساد المحكومين, و ذلك بدئاً من أحكام العقوبات ضمن نطاق ما يسمى بالحيز الجنائي فحكم عقوبة السرقة على سبيل الذكر طبقاً لكتب الفقه هو قطع اليد من مفصل الكوع و الكوع من طرف الزند الذي يلي الإبهام أي تقطع اليد من مفصل الكف و ذلك استناداً إلى الآية التالية من سورة المائدة " و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله و الله عزيز حكيم"{1} , و استناداً إلى حديث عمروا بن شعيب " و آتى النبي صلى الله عليه و سلم بسارق فقطع يده من مفصل الكف " {2} , أما ممارسة الجنس من غير عقد زواج شرعي أو بما يصطلح عليه فقهياً بحد الزنا, فإن عقوبته كما وردت في النصوص الفقهية كالآتي{3} " إذا كان الزاني أو الزانية غير محصن أي لم يسبق له الوطئ في القُبل بنكاح صحيح فإن عقوبته تتمثل بالجلد مئة استناداً إلى الآية التالية من القرآن الكريم ( الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة, و لا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله){4}, و إن كان الزاني و الزانية محصناً آي سبق له أن و طئ في القُبل بنكاح صحيح فإن عقوبته حينها الرجم أي الرمي بالحجارة حتى الموت و ذلك استناداً إلى إجماع الصحابة , واستناداً إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم){5}".
و كل ما سبق يوضح بعض من أشكال التفويض الاقتصاصي لأجهزة السلطة على أجساد المحكومين كما حددها الموروث الفقهي و التي قد تصل في بعض الحالات إلى التصفية الجسدية, فالفهم الإسلامي لمبدأ العقوبة ظل مجمداً في منظومة المفاهيم القروسطية و لم يخضع للانزياحات الفكرية و المعرفية التي أحدثت في بنية هذا المفهوم و التي حولته من مبدأ اقتصاصي إلى مبدأ تأهيلي و تأديبي و ضبطي و التي ساهمت شيئاً فشيئاً في الابتعاد عن تطبيق العقوبات الجسدية و الاعتماد بشكل شبه كامل و في بعض الدساتير بشكل كامل على العقوبات غير الجسدية و التي تشمل كما هو معروف اليوم خمس حقول رئيسية من العقوبات وهي ( الاعتقال و العزل و المصادرة و الغرامة و الحرمان من بعض الحقوق و المزايا), و هذا سبب إزالة حكم الإعدام من دساتير بعض الدول لكونه ذات مبدأ اقتصاصي أكثر من كونه ذات مبدأ ضبطي كما في المملكة المتحدة فقد ظهر قانون القتل مبقياً على عقوبة الإعدام إذا اقترن القتل بثلاثة ظروف,ثم صدر قانون عام 1964 يلغي هذه العقوبة في تلك الظروف مع جواز توقيعها إذا كان القتل مع سبق الإصرار, و في عام 1970 تم إلغاء عقوبة الإعدام بشكل كامل, و في السويد ألغيت عقوبة الإعدام سنة 1921 عدا بعض الحالات الاستثنائية, ثم صدر قانون سنة 1972 لإلغاء هذه العقوبة كلية, و هناك دول ألغت عقوبة الإعدام بشكل كلي منذ البداية و من دون استثناءات كما في سويسرا سنة 1937 و كما في ألمانيا الاتحادية سنة 1949 .
هناك اختلاف أيضاً بين الفهم الإسلامي التقليدي و بين الفهم المعاصر في التدارس الحقوقي من أجل تقرير العقوبة و إقراراها و لكن مع وجود بعض التقاطعات في بعض التقديرات, فإذ أخذنا على سبيل المثال شروط إقرار حكم تطبيق حد السرقة من المراجع الفقهية فإنه يشتمل على الآتي{6} " يكون الجاني عاقلاً غير مجنون و بالغاً مختاراً للفعل لا مكرهاً عليه و ألا يكون السارق والداً عند المالكية أو ذا رحم للمسروق منه عند أبي حنيفة و ألا يكون السارق حربياً أو مستأمناً, و ألا يكون السارق قد سرق اضطراراً بسبب الجوع عند المالكية, و أن يكون السارق عالماً بالمسروق و عالماً بالتحريم أم الشروط التي تتعلق بالشيء المسروق فتشتمل على أن يكون المسروق مالاً متقوماً و أن يبلغ المال المسروق النصاب و ذلك استناداً إلى حديث الرسول (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً){7} أن يكون المال المسروق محرزاً و ألا يكون المسروق سريع الفساد و ألا يكون في المسروق ملك السارق" و تتقاطع سمات بعض هذه التقديرات مع الفهم المعاصر و تختلف عنها في التركيز على شخصية المجرم و على نوعية و مدى الدخول في التفاصيل لإقرار العقوبة, فالفهم المعاصر يتبنى نظرية تفريد العقاب{8} و هذه النظرية تشير إلى أن شخصية المجرم يجب أن يكون لها المكان الأول في القانون الجزائي و أن العقوبة يجب أن تكون ملائمة لهذه الشخصية فكل شخص يرتكب فعلاً إجرامياً لابد أن يكون في حقيقة الأمر مدفوعاً بعوامل اجتماعية و اقتصادية و نفسية متعددة و هذه الحقيقة تتطلب أن تكون العقوبة من حيث نوعها و مقدراها ملائمة لحالته بغاية إصلاحه و إعادته إنساناً فاعلاً بالمجتمع و هذا مفارق لغاية منظومة العقوبات في الفهم الإسلامي التي هي اقتصاص السلطة من جسد المجرم.
الاختلاف الثالث بين الفهم الإسلامي و الفهم المعاصر هو في الحقول التي يجب أن تغطيها منظومة العقوبات, فمنظومة العقوبات بالفهم المعاصر انحسرت من حقل الاعتقاد سواء في تكوينه أو في نوعه أو في الامتثال له إلى حقل الجنايات بينما في الفهم الإسلامي فإن تغيير المسلم و انتقاله لاعتقاد آخر يجيز إقامة حد الردة عليه و هو القتل و ذلك استناداً إلى الحديثين التاليين عن الرسول ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و إني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثّيب الزان و النفس بالنفس و التارك لدينه و المفارق للجماعة){9} و (من بدل دينه فاقتلوه) {10} و هناك أيضاً أحكام تجيز القتل لعدم الامتثال لبعض أركان الاعتقاد كحكم تارك الصلاة سواء أكان جحوداً فيقتل كفراً أو كان تكاسلاً فيقتل حداً{11} و ذلك استناداً إلى حديث الرسول ( بين العبد و بين الكفر ترك الصلاة ){12} و إلى الحديث التالي أيضاً (العهد الذي بيننا و بينهم الصلاةُ,فمن تركها فقد كفر){13}, فالفهم الإسلامي أبقى على منظومة العقوبات داخل حقل الاعتقاد و الامتثال له.
الاختلاف في مسألة العقوبات هو جزء هام جداً من الصورة الكبيرة من عدم التوافق في المسالك و الحدود المشروعة للعنف ولم تحسم هذه القضية لا على المستوى الوعي الجماعي للمجتمعات في المنطقة العربية و لا على مستوى المرجعيات الدينية و السياسية, فمنذ كتابة أول دستور في سوريا عام 1920 بعد انتهاء عهد الخلافة العثمانية خرجت حدود ما هو مشروع في أحوال الحكم و الحياة الاجتماعية من مرحلة السكون المعرفي المجمد بالتراث ولكن هذا الدستور الذي حول سوريا إلى ملكية مدنية نيابية أو دستور عام 1930 الذي اعتبر سوريا جمهورية نيابية {14} كان نتيجة التأثر بالتشريعات الغربية و على الأخص التشريعات الفرنسية ولم يتشكل من روح الحركة الاجتماعية و وعيها لضرورة إنتاج معرفة جديدة تتناسب مع انتقال المجتمع من حالة إلى حالة أخرى و تكون بديل مرجعي عن المعرفة القديمة المكونة من السائد من التراث و التي كانت نتاج ظروف حقبة معرفية مضت ولم يعد يعيش المجتمع في ظلها أصلاً و هذا ينطبق على معظم الدساتير العربية إلى يومنا هذا مع إضافة وظيفة مركزية لها و هي وضع تشريعات تضمن مصالح قوى الاستبداد و تكفل استمرارها لذلك أصبح هناك سهولة في تبرير إنتاج العنف من قبل أنظمة الاستبداد و القوى المتحالفة معها كما أصبح هناك سهولة في تبرير التحريض على العنف من قبل القطاعات المنخرطة في النزاعات الأهلية في المنطقة بغض النظر عن مشاربها الطائفية أو الإيديولوجية أو العرقية و لذلك لابد إنتاج معرفية حقوقية جديدة تراعي البنية الفكرية للمفاهيم الحقوقية المعاصرة و لا مانع من إضافات فكرية عليها من خلال خلق مساحات جديدة في طرق حماية الدولة للفرد من تبرير و توجيه العنف ضده و يجب جعل هذه المعرفة الحقوقية دستورية بحيث تكون مرجعية لآلية عمل مؤسسات الدولة و اجتماعية بكونها مستوعبة بشكل كلي في الوعي الجمعي للمجتمع و من دون تفعيل هذين الشرطين لن يساهم إنتاج هكذا معرفة في تقليص كمية المبرر من العنف لا من قبل الأنظمة المستبدة و الأحزاب السياسية المتحالفة معها و لا من قبل القوى الدينية المتشددة و لا من قبل المجتمع على الفرد و ستبقى حدود العنف ضمن عشوائية سائلة تعطي سهولة في إنتاجه عند حدوث اختلاجات اجتماعية و سياسية.
******************
المراجع :
1- سورة المائدة,آية : 32
2- رواه الطبراني انظر مغني المحتاج ( 4/77)
3- Fatwa.islamonline.net
4- سورة النور, آية:2
5- رواه الألباني, في صحيح النسائي,عن عثمان بن عفان, الرقم : 4068
6- وهبة الزحيلي(1996), الفقه الإسلامي و أدلته,دمشق: دار الفكر صفحة5431-5433 جزء7
7- رواه البخاري, في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رقم:6789
8- شبكة الألوكة, مفهوم العقوبة و أنواعها بالأنظمة المقارنة,أ.د فؤاد عبد المنعم أحمد
9- رواه مسلم, في صحيح مسلم, عن عبد الله بن مسعود, رقم : 1676
10- رواه البخاري, في صحيح البخاري, عن عبدالله بن العباس, الرقم: 6922
11- التفصيل في حكم تارك الصلاة, إسلام ويب
12- رواه الترمذي, في سنن الترمذي, عن جابر بن عبد الله, الرقم: 2620
13- رواه الترمذي, في سنن الترمذي, عن بريدة بن الحصيب الأسلمي الرقم 2621
14- سوريا صنع دولة و ولادة أمة, وديع بشور, دار اليازجي, دمشق 1994, ص391
#عدي_مروان_ورده (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟