عامر الدلوي
الحوار المتمدن-العدد: 6105 - 2019 / 1 / 5 - 17:07
المحور:
الادب والفن
في " طروادة " إبراهيم البهرزي التي " لا أبطال فيها " تعرض جرئ لحقبة سوداء مليئة بالأحداث المريرة التي مرت على عراقنا العزيز و التي بإعتقادي المتواضع لم يتعرض أحد لها سابقا ًو بمثل هذا الأسلوب الفريد الذي يمزج بين السرد الأدبي الملتزم و السرد الأدبي الخارق لكل مفردات الإلتزام التي نسج قوالبها مثقفون و كتاب و رواة و شعراء أغرقوا أنفسهم في بحور الوهم الذي حاكوا خيوطه ليصنعوا منها تيجان أوهى من نسيج العنكبوت و يعتمروها في مباهاة على مجتمعهم على إنهم مبدعين في وقت أن نتاجاتهم كلها لم يتمثل فيها أي مساس بالواقع المر الذي يرزح تحت نيره شعبهم منذ الإحتلالات السابقة لتأسيس الدولة العراقية و المبتدئة بنهاية الدولة العباسية , و التي نجح بعض الأخوة العرب في سوريا و مصر في تأطير ماحصل لبلدانهم خلال تلك الفترات في روايات و كتب بحثية و أفلام و مسلسلات تلفزيونية , أبدعوا في تمثيلها و إخراجها , في وقت لم نرى أي نتاج من هذا القبيل لـ " مبدعينا " الذين أضفوا على أنفسهم هالة كاذبة إلا النزر اليسير.
تعرض البهرزي في طروادته وفي مزج جميل بين اللغة العربية الفصحى و اللهجة العامية في الحوارات بين الشخوص , لحقبة ممتدة طيلة خمسة عقود من الزمن ثلاثة منها في القرن المنصرم و إثنان في قرننا الحالي بكل تفاصيلها الصغيرة منها و الكبيرة و التي باتت منسية لدى الكثير من معايشيها فكيف بمن لم يعشها من الأجيال الجديدة و التي عاشت نتائجها الكارثية التي أمتدت من العقد الأخير في القرن العشرين و العقدين الحاليين التي مازلنا نعيش سنوات الثاني منهما الأخيرة , ويمضي في تعرضه لترسيخ الصورة في ذهن القارئ كما هي و كما حصلت , منذ طفولة بطله " نديم " و التي سبقت أحداث الرواية الرئيسية بعقدين آخرين من الزمن , فينقلنا إلى أجواء مدينة البطل الرائعة , تلك المدينة الراقدة بين نهرين و تحيط بها البساتين من كل الجوانب وعن إنتقالات بطله إلى العاصمة لزيارة أقاربه هناك , وتعلق البطل بفتاة من بلدته منذ أيام الدراسة الإبتدائية و حتى أيام الدراسة الجامعية .
سرد بديع و مفردات منسوجة بدراية و عناية لا مثيل لهما أسهمت في تجسيد صور الماضي أمام عيني كوني من الذين عاشوا تلك الحقبة بكل التفاصيل التي أوردها إبراهيم في روايته التي وضع لها هذا العنوان الإستفزازي للذاكرة التي غطاها غبار الأحداث التي هزت مجتمعنا بعد العام 2003 و التي تمثلت بالغزو الأميركي القذر لبلادنا و ما أفرزه و أنتجه من ظواهر لم يألفها مجتمعنا حتى في كل الفترات المظلمة التي مرت على البلاد .
يبدأها البهرزي بوداع بطله لحبه الخالد و ينهيها بلقائه مع ذاك الحب بعد 34 عاما ً من الفراق و على أرض غير أرض الوطن الذي نشأ كل منهما على حبه و أرتوى حبهما من أفيائه منذ فترة المراهقة و حتى إفتراقهما عام 1979 و لقائهما في العام 2013 .
تفاصيل جميلة و مثيرة عن تاريخ مدينتهما و عن إنتقالهما للدراسة في العاصمة قبل أن تحين ساعة الفراق الظالم الذي لم يترك لهما نصيبا ً في الحياة ليتوجا به حبهما بنهاية كانا يحلمان بها أن تكون سعيدة , كحلمهما الكبير بسعادة شعبهما في ظل وطن حر , تسوده الآمال الكبيرة بالعدالة و المساواة و إحترام حقوق الإنسان عن طريق خلق الظروف الجيدة التي تتيح للفرد العراقي إستعمال كافة حقوقه التي توفرها لها الشرائع الإنسانية .
تفاصيل مفرطة في الوصف لبغداد و مناطقها كأنه أحد أبنائها من خلال شخصية بطله الطالب الجامعي , ووصف رائع للحياة شبه البوهيمية التي عاشها بطله هناك طيلة سنين دراسته , أضفت عليها نكهة خاصة روح إبراهيم الساخرة من كل شيء مر بالبلاد طيلة تلك الفترة .
أهم صورة ينقلها لنا و بتلك الروح هي صورة الإختلاف مع الإتجاه الذي ترعرع على حبه و نما تحت رعاية مريدي ذلك الإتجاه الذين علق الأنقياء منهم في ذاكرته حتى بعد رحيلهم عن هذه الدنيا و لأسباب مختلفة , نعرف من سير أحداث الرواية أن بطله قد أعتنق الفكر الشيوعي كفكر من منهل نقي ثم قاده ذاك الإعتناق إلى الإنتماء للحزب الشيوعي العراقي في الأعوام التي كان هذا الحزب ماض ٍ في تحالفه مع من خاضوا بدماء أعضائه و منتسبيه و مؤيديه قبل عشرة أعوام من ذاك التحالف , و الذي تم رغم المعارضة الشديدة من قبل قواعد الحزب و جماهيره و التي كان بطله واحدا ً من المعارضين لهذا التحالف و من المعارضين لنهج و سلوكية قيادة الحزب و بعض من كوادره المتقدمة و التي لم تكن تمت لا للأفكار الماركسية و لا للأخلاق الشيوعية التي تحتمها تلك الأفكار و تستوجب على عضو الحزب أن يتحلى بها أثناء حياته بين الجماهير .
و يروي لنا على لسان البطل موقف تلك القيادة و كوادرها من التحذيرات التي أطلقتها قواعد الحزب و جماهيره من المآل الذي سيؤول له هذا التحالف , و بسبب من خبرة هذه القواعد و الجماهير و معرفتها لا بل يقينها من تلك المعرفة بأفكار البعث و قادته التي أستلمها أبناء القرية , و كيف أن شخصا ً مثل صدام حسين ما كان ليرتضي أن يكون له شريك في الحكم , كيف أنه في مسعاه للتفرد بطش بأقرب رفاقه إلى قلبه مختلقا ً قصة المؤامرة التي حاكها هؤلاء مع النظام السوري في محاولة منه مضافة للتخلص من العلاقة الجيدة التي نمت بين البلدين خلال عهد البكر .
و يقص لنا ماجرى لبطله من تعذيب وحشي في معتقل الأمن العامة على الرغم من كونه مستقيلا ً من الحزب الشيوعي العراقي قبل الهجمة الرعناء لنظام صدام على قواعد الحزب و منظماته بثلاث سنوات , و كيف أنهم أطلقوا سراحه بعد التحقق من إدعائه عن طريق أمن مدينته , الذي أكد لهم صحة أقواله بأن سبق له و أن كان شيوعيا ً و أستقال كما نوهنا قبل ثلاث سنوات , و في هذا السياق يسرد لنا مشاهدات بطله لما كان يجري من حفلات تعذيب و سوق بعده إلى محكمة عواد البندر و منها بعدذاك إلى مشانق أبي غريب , لشيوعيين تم تدجينهم من قبل قيادة مارقة لحزبهم , ليكونوا كبش فداء لسياساتها المخطوءة و التي أودت بحياة عشرات الآلاف من خيرة خريجي الكليات و أساتذتهم , بينما ولت هي هاربة عبر مطار بغداد لقسم منها و تحت رعاية الحكومة و قسم آخر عبر كردستان .
يتصاعد البناء الإنتقادي الرائع للرواية رويدا ً رويدا ً ليبلغ ذروته بلقاء الحبيبة في تركيا بعد قرابة ثلاثة عقود و نصف و إستعراضهما المتبادل لدقائق حياتهما بعد الفراق الذي أجبرا عليه بفعل الهجمة الهوجاء على الحزب و التي أستتبعت هجرتها و بقائه في البلد .
إعترفت له لأول مرة بأنه كان الصح في كل طروحاته و إنها و الآلاف غيرها كانوا مخدوعين بشخصيات كانت تعشعش في قيادة الحزب في حين إنها كانت لا تحمل ذرة واحدة من الأخلاق الشيوعية التي يفترض إنهم قد تربوا عليها . و عندما أسترسلت في سرد معاناتها , تكشفت أمام بطل إبراهيم " نديم إسماعيل " أوراق و أحداث لم يكن في حسبانه ( على هول ما عاشه و شاهده ) إنه سيسمع يوما ً عن وقوع مثلها أبدا ً .
عندما سرح مع ما يسمعه من حبه الخالد , لم يكن يتصور أن دناءة و سفالة البعض من القادة ستنحدر إلى هذا الدرك من الإنحطاط , و هم في ظرف نضالي يستوجب عليهم الإلتزام بأقصى درجات الشرف و العفة , مطاردين حتى خارج بلدهم لكنهم لم يستطيعوا التخلص من الحقارة الكامنة في أعماق نفوسهم مع الرفيقات العازبات , و كيف أن البعض منهن أضطررن لزيجات غير موفقة للتخلص من تحرشات الرفاق القادة عبر هذه الزيجات و الهجرة بعيدا ً عنهم , لتنتهي بعد ذلك تلك الزيجات بالنتيجة الحتمية و هي الطلاق , رغم وجود ثمار لها كما في حالة بطلته " عايدة " , و التي هي مجرد رمز لحالات كثيرة مشابهة , وكلما دار الحديث عن مثل هذه الحالات في داخل التنظيم يأتي الجواب من تلاميذ أساتذتهم المنحرفين و الذين خلفوهم في القيادة بأنها حالات فردية تمت معالجتها .
هذا الجواب الذي كنا و ما زلنا نتلقى مثيلاته كلما قدمنا دلائل على خيانة البعض من الرفاق و خصوصا ً في حالات الخرق العمودي لقوات الأمن الفاشية كأن يكون الخرق من عضو قيادة نزولا ً لعضو محلية ثم تكملة السلسلة التنظيمية نزولا ً للقواعد , وهذا الخرق يعد من أخطر الخروقات و الذي ذهب ضحيته خيرة المناضلين في الحزب وكأمثلة على ذلك خيانة " أبو ح , أبو هـ , أم ع , ... إلخ " .
للتعمق في خوض بحار و أعماق تلك الحقبة أنصح كل مثقف وطني بأن يقتني الرواية و يكمل قرائتها ليتعرف إلى أي مدى كان الكثير منا مخدوعا ً بأسماء رنانة لشخصيات فارغة المحتوى , تمكن بعض المتملقين و المتهافتين من إضافة هالة من القدسية حولها و هي لم تكن تستحق حتى البصقة على وجوهها .
#عامر_الدلوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟