جبران بن العاص
سلام عبود
2018 / 12 / 28 - 21:22
يقول المثل: التاريخ يعيد نفسه. بعضهم يضيف الى المثل بعض البهارات الديالكتيكية فيجعله: التاريخ يعيد نفسه، مرّة كمأساة وأخرى كملهاة.
وبصرف النظر عن كون الإعادة إفادة، سواء أكانت مأساة أم ملهاة، فإن عنصر التكرار في التاريخ حالة معروفة إنسانيا، لا جديد فيها.
التراجيدي أو الكوميدي في الأمر، أن بعض حوادث التاريخ العربي القديم، أخذت تعيد نفسها محليا أحيانا، وعالميا أحيانا أخرى. تعيد تكرار نفسها بطرق غرائبية، محيّرة، كما لو أن الأزمان تتناسل وتتكاثر بالانشطار الخلوي.
فعلى سبيل المثال، حينما تريد أميركا غزو دولة ما، كالعراق، أو سورية، لا تذهب منفردة، بل تأخذ معها جوقة من القتلة المساعدين، تسميهم تحالفا. كما لو أن نشوء تحالف ما يمنح المعتدي أو المحتل أو الغازي أو القاتل الدولي حقا شرعيا في الغزو والاحتلال والتدمير والقتل. وحينما تريد السعودية أو الإمارات غزو اليمن ينشأ تحالف يقود الحرب والعزم والأمل. جراء هذا نشأ "عرف" تاريخي جديد وعجيب، يقول: أنا أتحالف إذن أنا على حق! لأن التحالف يحمل بالضرورة صفة الشرعية، التي تمنح صاحبها الحق في القتل العلني بالصوت والصورة.
وإذا عدنا الى التاريخ نجد أن العرب العاربة من أوائل من اكتشف لعبة تحالف الغدر. وكان القصد من ورائه آنذاك توزيع المسؤوليات، بما في ذلك توزيع أوزار الجرائم. فحينما قررت قريش قتل الرسول محمد اجتمع للمهمة أفراد من قبائل عدّة، لكي يتفرق دمه في القبائل. لم تنجح خطة الكفـّار، لأن ابن عم الرسول حلّ محله في الفراش، فخاب أمل الزمرة الغادرة. هذا الجانب المأساوي من التاريخ. أما الجانب الكوميدي من الإعادة فتكمن في أن الإمارات ذهبت بعيدا، بحرا وبرا وجوا، بغية تحرير اليمن من اليمنيين، وتخليصهم من "الاحتلال الإيراني الغاشم"، كما يدعي قرقاش! لكنها نسيت أن تحرر جزرها، التي سلموها لشاه إيران طوعا، والتي نادى بتحريرها المهزوم الأكبر صدام حسين، جاعلا منها القضية المركزية الأولى للعرب قبل فلسطين، فخسر العراقيون ثلاثة أجيال، ستتبعها خمسة أجيال إذا حالفهم الحظ. أيّ الأراضي أقرب الى قلبكم جزركم أم الحديدة وصنعاء؟ وأيّ الأصقاع أبعد عسكريا سواحل إيران أم سواحل عدن؟
أما الكوميديا السعودية فلا تقل إضحاكا وحمقا. فالمملكة القروأوسطية، المتدثرة بلحاف عصر الانحطاط السميك، دمرت سورية لأنها تريد تحقيق الديمقراطية للشعب السوريّ! ودمرت اليمن لأنها تسهر على حماية الشرعية! ولا يعرف السعوديون من سيحقق الديمقراطية لهم، ومن سيحمي شرعيتهم المغيبة، المحروسة بالمناشير!
في الاسبوع المنصرم، عاد تاريخ لبنان 1400 سنة الى الوراء، الى عام 37 هـ، الى موقعة صفـّين، الى الجانب الأسطوري من المعركة، الى الرواية التي نُسجت عن فلسفة التحكيم، وطرق تشكيل الحكومات العتيدة. فبعد مقتل سبعين ألف مسلم من الفريقين المتحاربين في سبعة أيام، قرر فريق معاوية، الموشك على الهزيمة، رفع المصاحف على أسنة الرماح. فابتدعت المخيلة الشعبية يومذاك الحكاية الأسطورية عن التحكيم بين أبي موسى الأشعري ممثلا للإمام علي، وبين ممثل معاوية عمرو بن العاص، الذي تميّز بالدهاء. وكان هو من أشار على معاوية بفكرة رفع المصاحف. نسج الرواة حكاية التحكيم، التي اتفق فيها، كما زعم الرواة، الأشعري وابن العاص على خلع الطرفين. الأشعري يخلع عليا، وابن العاص يخلع صاحبه معاوية. وحينما خلع الأشعري عليا قائلا: أخلع صاحبي كما أخلع هذا الخاتم، فاجأه ابن العاص قائلا: أثبت صاحبي كما أثبت هذا الخاتم في اصبعي.
هكذا فعل جبران باسيل أيضا في معركة صفـّين اللبنانية. دعا أولا الى رفع المصاحف والأناجيل على ماسورات البنادق طلبا للتسوية، ولإظهار حسن النيّات والورع. ثم طلب من سنّة المقاومة - وهذا تعبير تحقيري لئيم، لصقوه زورا بطائفة السنّة عامة. لأنه يجعل الطائفة السنيّة فريقين، سنّة مقاومة إسرائيل وسنّة مولاة إسرائيل، أو سنّة الممانعة وسنّة النأي بالنفس عن محاربة داعش وإسرائيل والفساد والنفايات وغيرها!- التنازل عن مطلبهم القاضي بتوزير أحدهم مقابل تنازل الأفرقاء كافة: الحريري يتنازل عن رفض مقابلتهم ككتلة، ورئيس الجمهورية يقبل بتوزيهم ضمن حصة الرئاسة. وحينما وافق النواب الستة على شروط جبران باسيل اختاروا أشخاصا من خارجهم، لكي يتولى أحدهم تمثيلهم. لكنهم اكتشفوا أن جبران بن العاص، خلعهم من إصبعه كما يخلع خاتمه، وثبّت بدلا منهم أحد الأسماء المقترحة، ولكن ليس كناطق باسمهم، أو كممثل عن فريقهم، أو كحليف، أو صديق، أو زميل، أو مشاور، أو حتى كمؤانس في الليالي الموحشة! وإنما كوزير تابع إداريا لرئاسة الجمهوية، وسياسيا لابن العاص.
هل يُعقل أن يكون جبران باسيل قد قرأ أسطورة التحكيم في صفّين فأعاد تمثيلها حرفيا في بيروت؟
أنا أشك في هذا.
لست وحدي من يشك في هذا. السيد رئيس الوزراء يفعل مثلي، وربما يفعل ما هو أكثر. فحينما سأل الحريري القائدَ عمرو بن العاص بن وائل السهمي، الملقب في لبنان تهكما بجبران باسيل، وجد منه العجب.
قال الحريري: يا عمري! لن ألتقي عصابة حزب الله والمقاومة السنّة حتى لو أصبحوا ستين نائبا. أشعر أن هؤلاء يريدون أن يرثوا ملكي قبل موتي.
غمزه عمرو بود ومكر، وهو يأخذ مصّة قوية من برتقالة كبيرة التقطها من مكتب الحريري خلسة، من دون أن يقشّرها، وقال:
- يا حريـ... عفوا، يا حبيبي! أحلف برُبِّ البرتآن المقدس أنك لن تلتقي بهم البتة. أسهل لهم أن يلحسوا حلمات... آذانهم,
نطق ذلك وخرج متلمّظا، كعادته في الانتصارات المباغتة، فدهمت الرئيس المكلـّف عاصفة من الوساوس.
ترى، هل أزهر لبنان قائدا محنـّكا، يمتلك موهبة إعجازية في طباخة الأساطير السياسية السريعة، المنقذة، قائدا بارعا، ذا حميّة واندفاع، تـُذكـّران بحميّة طراز محدد من القادة: قادة الميليشيات في الحروب الأهلية، طويلة الأمد!؟
فكـّر الحريري في مستقبل ابن العاص اللامع، فانتابته رعدة قوية مباغتة. إلا أنه سرعان ما تمالك نفسه، وعاد ليسترخي في مقعده، وهو يحلم بطريقة معاوية في تثبيت عرش بني أمية كاملا، غير منقوص، من طريق الضرب على أيادي شيعة وسنّة المقاومة، خوارج العصر، العصاة، ولسان حاله يقول:
لكل زمان ابن عاصه!