|
رواية العشق المر
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 6045 - 2018 / 11 / 5 - 14:36
المحور:
الادب والفن
صدرت هذه الرواية مؤخراً عن "دار الآن ناشرون وموزعون" في عمان، للروائي والشاعر بسام أبو غزالة،المعروف أيضاً بحضوره المكثف في مجال الترجمة، ورواية "العشق المر" هي باكورة أعماله الروائية، أثارت اهتمامي عند تسلم نسخة منها،وأدركت عقب انتهائي من قراءتها على أنها رواية رائعة مصقولة بأسلوب شيق، يؤكد على قدرات مؤلفها الأدبية في تجربته الأولى، فله تحية تقدير حقيقي لما كتبه ببؤر توهج عن عشق مجبول بمرارة النكبة والرحيل القصري والشتات. يلاحظ القارئ الروابط الدالة بين الرواية وتداعيات النكبة بوضوحٍ، يتابعها في سياقات نصية تلامس الواقع، يشعرعلى إيقاعها بتضافر أبعاد زمنية ومكانية، في دائرة اللفظ والمعنى، ممزوجة بقيم وطنية وعاطفية، منتظمة بإيقاع متتابع، يظهر فيها بطل الرواية جابر المسعودي، بمشاعره وأحاسيسه ومواقفه وعلاقاته وتجاربه وذكرياته، يُعبر فيها عن عشقه المر في فضاء متسع دون حدود. تحمل الرواية بنية تعبر عن عواطف عاشق عاثر الحظ، بدأ عشقه في فلسطين قبل النكبة، وبعدها تاه في مسارب الشتات، تتابع الرواية حكايته في ظلال شفيفة كالضوء، يرسُمها المؤلف في سطوره بجمالية فائقة،لامتلاكه ناصية اللغة العربية، ولقدرته على اغتراف وافر من المفردات الجميلة،التي تكمن في مفاصل النص، شحنها بمشاهد ابداعية ذات قيمة بنائية متميزة. تدورأحداث الرواية حول استحضار ذاكرة العاشق جابر المسعودي، الحافلة بتفاصيل مسار حياته الذاتية وعشقه لابنة عمه زينب، تبدأ السطور الأولى بإلمامة سريعة، تُبرز بداية عشقه لها قبل النكبة،يُعبر عنها بمادة منسجمة ومتناغمة بتعبيرعاطفي، يستذكر بها لقطات من حياتهما في قريتهما القريبة من يافا،يُظهرها في تراكم تصويري لأحداث كثيرة، ويتوالى الاستذكارفي ملمحٍ معبرعن فراقهما، يتبدى منه أن النكبة فرقتهما، ولم يعثر لها بعد ذلك على أثر، حملتها رياح الشتات إلى نابلس، وتزوجت هناك، وأنجبت أولاداً وأحفاداً، وهو حملته نفس الرياح إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، وبقي طوال العمر أعزباً،عصفت بحياته تحولات وتغيرات متتابعة في حياة النفي والغربة. مضى يستذكر تلك التحولات على امتداد صفحات الرواية، وصف فيها حياته في المخيم، في دوامة ظروف بالغة الصعوبة،تعرض لها وشعر تحت وطأتها بانتهاكات كثيرة لا تحترم أبسط حقوق الإنسان، مقترنة بدلالات واضحة تعبرعن مظاهر التفرقة الموجهة للاجئ الفلسطيني،توقف عندها جابر المسعودي مطولاً،وبيّن أنه جابهها بتثقيف نفسه سياسياً،واقتضى منه ذلك جهداً للتعرف على رؤى فكرية وسياسية كثيرة،أعجبه عداء الفكر الشيوعي للرأسماليين والرأسمالية المتوحشة، ودعوة الفكر القومي لتوحيدالعرب، وأعجبته سياسة الرئيس جمال عبد الناصر،ونهجه القومي الإشتراكي، واقتنع "أن المبادىء الثورية في العالم لا تختلف، وينبغي لأصحابها أن يكونوا حلفاءَ فيما بينهم مهما اختلفت بُلدانهم وقومياتهم". إختار بطل الرواية إيماءات ألفاظه بدقة في هذا الجانب من حياته، بينَ بوضوح اهتمامه الدائم بقضيته الفلسطينية، وتمكن من تصعيد قدرته التعبيرية حول هموم أهله في المخيم، واسترسل في استحضار وقائع تتعلق بعمل والده أجيراً في أرض غيره في أحد بساتين الحمضيات في صيدا، مليئة بدلالات مأساوية كثيرة عن ذروة ألام فقدان الوطن، تُلامس قضايا حياتية شديدة الحضور في حياة اللاجئ الفلسطيني،تحمل في داخلها معانٍ كثيرة وطنية وإنسانيةعميقة،قادرة على خطف اهتمام القارئ في تتابع الفضاء النصي للرواية، يتبدى منها إيمان بطل الرواية بعدالة قضيته،وقناعته بأفكار يتكأ عليها ويؤمن بها،تصون نفسه من اليأس، وتزيده إيماناً بحتمية عودته إلى وطنه وأرض أجداده. بالرغم من كل ظروف أسرته المأساوية في المخيم، تمكن جابر المسعودي من تحقيق تفوق ملحوظ طوال سنوات دراسته الابتدائية والثانوية،أهله للحصول على منحة دراسية من وكالة الغوث لدراسة الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت،وهكذا أنتقل من مخيم عين الحلوة إلى بيروت، وأصبح من منتسبي واحدة من أهم جامعات الدول العربية،التقى فيها بخليط كبير من الطلبة من كل بلاد العالم... سكن في منزل طلابها وشعر بالفرق بينه وبين بيت أهله في مخيم عين الحلوة،أظهر المقارنة بوضوح بالتركيز على خفايا سقوف الصفيح في بيوت المخيم، خاصة في ليالي الشتاء المحملة بالمعاناة من تسرب الأمطار، وبكلمات أعطاها قدراً كبيراً من الـتأثير والصدق والعفوية،عبرعن شعوره بالذنب و تأنيب الضمير لتمتعه بنعمة منزل الطلاب دون والديه وإخوته الصغار. ثمة تفاصيل كثيرة تستوقف القارئ في مجال حياة جابر المسعودي الجامعية،منها تفوقه في دراسته، ونشاطه في حركة القوميين العرب وفي النادي الثقافي في بيروت، واستذكاره منغصات" المكتب" الثاني اللبناني،الذي عُرف في زمن مضى كواحد من أسوأ مكاتب المخابرات في الدول العربية، يترسب بين جدرانه القديمة حتى الآن أصداء أسوأ نماذج القمع والتعذيب،التي مورست ضد أطياف شتى من الوطنيين والمناضلين وأبناء المخيمات الفلسطينية. تنقلنا الرواية بعد ذلك إلى تخرج بطل الرواية بتفوق من كلية الطب، ورغم أهمية هذا الإنجاز المهم له ولأسرته،لكنه للأسف لم يتمكن من العمل كطبيب في لبنان، لأن اللاجئ الفلسطيني لا يحق له بحكم القانون ممارسة مهنة الطب ولا العمل بأكثر من سبعين وظيفة في مجالات أخرى،وهكذا أغلقت أمامه أبواب الرزق وكان عليه البحث عن عمل خارج لبنان، وتم له ذلك بعد فترة من الوقت،عندما تمكن من التعاقد مع وزارة الصحة الكويتية في العام 1982، للعمل في مستشفى الصباح، ضمن مناخ عام جديد عليه، شعر فيه بإنسانيته كطبيب حديث التخرج. وفي هذا الجانب من حياته،تتضمن الرواية أبعاداً متعددة لمعاناة عاشها في بداية عهده بالكويت، تتصل بالاجتياح الصهيوني للبنان، وقد رسم صورة لتلك المعاناة، تحمل دلالات عن عدم تمكنه من العودة الى مخيم عين الحلوة ليكون على مقربة من أهله، لأنه يحمل وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين انتهى تاريخها ورفضت السفارة اللبنانية تجديدها، وكانت عودته مستحيلة بغير وثيقةٍ ساريةٍ في ظل الأوضاع التي أورثها خروج الفدائيين من لبنان خاصة مذبحة صبرا وشاتيلا في شهر أيلول من نفس العام . رغم هذه المنغصات استقرجابر المسعودي في عمله كطبيب في الكويت، وواصل الشريط السردي للرواية بعرض لقطات أحداث كثيرة بكل ما فيها من مشاهد ذاتية ووطنية وعاطفية، تظهر مترابطة كأنها فقرة واحدة مفتوحة الأفق، تتسع للتعبير عن عواطف جابر وأحاسيسه الشخصية نحو ابنة عمه زينب، في صور مدهشة، أكد فيها " أنه لم ينساها بقيت عالقة في خبايا ذاكرته،ومقيمةً في مقلتيه لم تغادرهما قط، ووصفها بالنجمة التي لم تفارق سمائه طوال عمره"
وتمر السنون، واحدة تلو أخرى، وتشاء الصدف أن يلتقي العاشق بابنة عمه زينب في الكويت، ويبدأ النص حضوره في إطار بنائي عاطفي متميز يتناسب مع متعة اللقاء المفاجئ، لكن أحداثا كثيرة عكرت صفو ذلك اللقاء،أدت إلى نهاية إقفالية مفاجأة محملة بدلالات متصلة باحتلال الكويت وحرب الخليج الأولى،وموت بطل الرواية بعيداً عن فلسطين،ما أضفى على نهاية الرواية جواً من الأسى والحزن . وهكذا تنتهي الرواية مع موت جابر المسعودي،استوقفتني كلمات المؤلف عند هذه اللحظة، وجدتها مغموسة بأوجاع شعبه، تمتد بعلامات دلالية نحو آفاق لا متناهية، يؤكد فيها "أن صحراءَ العرب ابتلعت حبيب زينب،ولم يعد لدى العربِ من يقصُ الأثرَ هذه الأيام،لم يعد لديهم شيء".
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المناضل نجاتي صدقي بعيون إسبانية
-
محمود صبح قنطرة وصل بين الإسبان والعر ب
-
الصعود إلى أعلى
-
ترجمة وديع البستاني لرباعيات الخيام
-
أمين معلوف يتأفف من كلمة الجذور
-
إميل البستاني عاشق حيفا
-
كتاب نحن من صنعنا تشافيز- تاريخٌ شعبيٌ للثورة الفنزويلية
-
وداعاً للتشيخوفي عدي مدانات
-
حيفا الكلمة التي صارت مدينة
-
مي صيقلي : مؤرخة من حيفا
-
لابد من تطوان وإن طال السفر
-
أيام في المغرب
-
أيامٌ في الناصرة
-
رواية - دنيا - للروائي عودة بشارات
-
بلغاريا بين الأمس واليوم
-
كتاب اعترافات قاتل اقتصادي
-
أيامٌ في براغ : مدينة الجواهري
-
شباك غرفة نومي
-
الأزهر وداعش وما بينهما
-
مخطوطات عربية مسروقة
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|