البنية الانفعاليّة للتعبير الإعلاميّ


سلام عبود
2018 / 10 / 5 - 15:40     

5
لن يضيف المرء جديدا حينما يقول إنّ وسائل الإعلام المختلفة قد تنقل الحدث عينه، ولكن بطرق مختلفة، تبعا لمصالح ومصادر الجهات الصانعة للخبر. إنّ توجيه الخبر إعلاميّا، مهما كان محايدا، يتضمن قدرا نسبيّا من الانحياز، يصل مداه الى حدود الاختلاف التام، لدى القوى المتخاصمة. في عالم اللغة لا يوجد نأي بالنفس، مهما كانت مهارة صياغات النصوص بارعة.
حينما نتفحّص مفردات الحرب السوريّة جيّداً نجد أنّها صمّمت منذ لحظاتها الأول لكي تتلاءم مع مبدأ تقسيم المجتمع السوريّ الى معسكرين متعاديين على أسس هلاميّة،غامضة. لقد تمّت تهيئة المصطلحات والشعارات في الوقت عينه الذي تمّ فيه اختيار مراكز إيواء المهاجرين والمهجرين والمقاتلين في تركيا والأردن قبل الإعلان الرسمي عن بدء الربيع "الثوري" السوري. في سوريّة يعيش صنفان من البشر حسب. صنفان يحملان هويتين تعريفيتين متناقضتين، لا تقبلان المصالحة: "شبّيحة" و"معارضة". هاتان الهويتان الرجراجتان تتميزان بالشموليّة. الجميع في معسكر الشبّيحة شبّيحون، من الرئيس الى حارس العمارة وسائق سيّارة الإسعاف، ومن الجنرال الى أحدث مولود، تسري عليهم التهم ذاتها. إنّ التقسيم التقاطبيّ للمجتمع، استنادا الى نظرية "الشبّيحة" لا يكتفي بوضع علامة تعريفيّة فارقة على جبين المواطنين، بل يحدّد الحكم المطلوب تنفيذه: الإلغاء التام للوجود وللفكر والمشتركات والتقاطعات. بهذه الطريقة تلغى الهويّات الحقيقيّة، الحسيّة، والفرديّة، ويصبح العدوّ تهمة قطيعيّة. وهذه واحدة من بديهيات الحروب الأهليّة والآيديولوجيّة: تعميم العداء والأحكام الجاهزة المسبقة، والتحرر من مشاعر الذنب، التي تخلق مشاعر القتل بدم بارد، وتصنع مريدين مفّعـّلين، متعصبين، جهلة، وعدوانيين. وفي الجانب الآخر نجد أنّ الهويّة المقابلة، المسماة بالمعارضة، تتسع فتشمل جبهة لا يعرف حتّى القائمون عليها سعتها واضطرابها وتباينها، تجمع الوهابيّات بالاليزيّات، البكنيي بالبوركيني، السوربون بتورابورا. غموض هذه الصيغة يجعلها تكتسب خصوصيتها الشاملة ليس من خلال محتواها الذاتيّ وطبيعتها النوعيّة، وإنـّما من خلال شموليّة النقيض المفترض:"الشبّيحة" وحجم الإيهام فيه.
لقد تجاوز التقسيم الشبّيحي حدود جبهات القتال، وذهب به البعض أبعد من ذلك. ففي تعليق على الانترنيت حول جائزة البوكر العربية، يظهر تعبير "شبّيحة"، باعتباره أداة للتقويم الفنيّ أيضاً.
"في جائزة البوكر للرواية العربية لهذا العام تم استبعاد الروايات التي تحكي عن الثورة (أو الحرب) في سوريا. ويرجح أن صالح علماني- المترجم الشبيح بوصفه عضو لجنة التحكيم هو الذي استبعدها.. التشبيح ضد الحقيقة..."
تقدم لنا صحيفة (أفتون بلادت) السويديّة نموذجاً مفيداّ لعمليّات التقاطب اللغويّ في الحرب السوريّة. في عددها الصادر يوم الأحد 15 نيسان 2018، عقب الهجوم الثلاثيّ على سوريّة، تضع الصحيفة تصنيفا للقوى على الأرض في الغوطة قائلة:" يقول مصدر عسكريّ سوريّ إنّه تمّ إخراج المسلحين الإرهابيين من الغوطة". لكنّ كاتب الخبر سرعان ما يستدرك ويضيف: " وهذا التعبير "الارهابيين" يعني في نظر المؤسسة العسكرية "الثوار". هنا نلاحظ أنّ النصّ حرص على التفريق بين الخصوم وتدقيق سلامة وحياديّة سبل استخدام المفردة، لكي لا يلتبس الشبّيحة بالمعارضة. ولكن، حينما جاء الخبرعلى ذكر القصف المتبادل ذكر بوضوح طرفا واحدا "القوّات السوريّة". لكن قصف دمشق نسبه الى قوى غامضة " قنابل وصواريخ قادمة من الغوطة"، من دون أن يقوم بتسمية الفاعل، حتّى لو كان اسمه "الثوار". ومصطلح "ربللز" رغم جذره الدال على التمرد والعصيان، إلاّ أنّه اكتسب صفة ايجابيّة وأضحى قرينا بالثورات. لهذا لا تسمح الصحافة الأوروبيّة أن تـُطلق تسمية "ربلل" على مقاتلي حماس أو حزب الله أو الجهاد، أو على أيّ مقاوم لإسرائيل. هذا الخبر المقتضب، الذي يخلو من الانحياز المباشر، مثال حيّ، على أنّ اللغة مصدر غير محايد، مهما كانت درجة حياديّة وتوازن صائغيها.
بظهور معادلة شبّيحة – معارضة انتجت المعارضة السوريّة السياسيّة (المدنيّة) هدفين جوهريين : جبهة عداء دعائيّة نظريّة واسعة، غير محددة الملامح، تتلاءم مع سعة حملات التعبئة الآيديولوجيّة التقاطبيّة، ومع الهجرة المنظـّمة داخليّا ودوليّا، الهادفة الى صناعة حاضنات دائميّة، تكتسب هويتها بحكم المكان: "معارضة " دائمة في مواجهة "شبّيحة" أبديين. ثانيا، قوى مسلّحة على الأرض، أفادت من سخاء نظرية العداء الشبّيحيّة الهلاميّة وغير المحددة الملامح والجوهر، فأنتجت فصائل من المسلحين التكفيريين والمتزمتين والقتلة من الأصناف والألوان والمنازع كافّـّة. الهدفان السابقان قادا الى انشطار "الثورة!" السوريّة، رغما عنها، الى شطرين غير مترابطين عضويا إلا من الخارج. فالمعارضة السياسيّة، التي تخصّصت في محاربة الشبّيحة نظريّا، تركت عمليّا الأنشطة القتاليّة والاجتماعيّة والمعيشيّة بيد الفصائل المسلّحة. لذلك أوكلت أمرها الى قوى خارجيّة، تتمتع بارتباطات ماليّة وعسكريّة وأمنيّة وتنظيميّة عميقة ومباشرة مع المسلحين، وارتضت أن تختزل دورها وتحصر وجودها في مجال المؤتمرات، معتبرة نفسها متحدثا دعائيّا شرعيّا، ينطق باسم كلّ من يملك مشروعا عدونيّا يريد تحقيقه على الأرض السوريّة.
معارض سوريّ كبير، من أكاديميي السوربون، برهان غليون، علـّق شخصيّا على أوّل عمليّة عسكريّة كبيرة للمعارضة في دمشق، نـُفـّذت في شارع تجاريّ مكتظ، وقادت الى تمزيق جثث الضحايا المدنيين الأبرياء شرّ ممزق، قال واثقا وهو يتحدث عن صور الأشلاء المتناثرة على الطرقات: " معلوماتنا تؤكـّد بما لا مجال للشكّ فيه أنّ الشبّيحة من عناصر المخابرات السوريّة هم من نفـّذ التفجير، ثمّ قاموا بوضع لحوم الذبائح على الأرصفة في موقع الانفجار، بعد أن استولوا عليها من دكاكين الجزارين، لغرض خداع الشعب السوريّ، الذي لا تنطلي عليه مثل هذه الحيل"!!! بعد دقائق أعلنت- بفخر واعتزاز- جهة ذات نبرة إسلاميّة، لم تكن معروفة حينذاك،أنّها تقف وراء عمليّة الذبح الحلال، التي أسمتها استئصال "الشبّيحة"، أذناب النظام. تناقضات غليون لا تتوقف عند تأويل الحدث وتعارضه مع إرادة الجهة التي أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذه، بل تكمن في العقل الذي صنع الخبر. فغليون لم يفكر جيّداً في كذبته الوطنيّة. لأنّ "الشبّيحة" لا يحتاجون الى لحوم الجزارين إذا كانوا هم حقيقة من قام بالتفجير. فما نتج عن العمليّة من مزق اللحم كان كافيّا لصناعة خبر مرعب. وهنا نلاحظ الطبيعة الداخليّة لانحرافات اللغة، التي لا يدركها حتّى من يظنّ في نفسه المهارة العاليّة في الصياغة والتأثير.
في هذه المرحلة كانت جبهة اللاشبّيحة (المعارضة) تبدو من الخارج متجانسة، ولم تكن قد تمرّست بعد على فن الأكاذيب جيّداً.
حينما نذهب الى ميدان المعركة لتطبيق هذا التقسيم نعثر على قاموس متباين، له دلالات مختلفة، لا تشبه دلالات المفردات في القواميس اللغوية التخصّصيّة، أو في الاستخدام اليوميّ الفعليّ. فبالتزامن مع اختراع جبهة الشبّيحة وجبهة اللاشبّيحة ظهر وشاع مصطلح حربي، أضحى مفتتح الخطب والبيانات، وحتّى مفتتح كلمات النواب في البرلمانات الأوروبيّة والقنوات الفضائيّة العالميّة، ألا وهو تعبير "البراميل المتفجـّرة"، الذي تمّ تصعيد استخدامه عقب خفوت موجة "الأسلحة الكيمياويّة". لكنّ هذا المصطلح التعميميّ الموجّه تمّ إهماله أيضا فجأة، مع ظهور طائرات السوخوي الروسيّة، وجرى إبداله بقنابل الفسفور والنابالم، ثمّ استقر الأمر عند تعبير "السلاح الكيميائي".
إنّ صناعة مفردات ذوات شحن سلبيّ قاعدة أساسيّة للحرب الإعلاميّة، هدفها توجيه الخبر، بدلالات ثابتة، لصناعة مرجعيّات شعوريّة ناشطة، مزروعة مسبقا في وعي المتلقـّي، تعمل بتلقائيّة ذاتيّة. فـ "البراميل المتفجـّرة" تعني النظام السوريّ في المعادلات الرمزيّة الحسابيّة، و"الشبّيحة" تعني كلّ من لا يقف في صف معارضي النظام، وقد يمتد الفرز الشبّيحيّ ليميّز بين جبال وجبال، جبال شبّيحة وأخرى لا شبّيحة: "جبل الأكراد وجبل التركمان"، وطرقات كطريق الكاستيلّو، ومدنا شبّيحة كالفوعة وكفريا، وربّما محافظات بأكملها.
وحينما نعاين القنابل ونتفحصها وهي تتساقط في نشرات الإخبار المقدّمة من قبل قنوات كالجزيرة القطريّة والعربية وقناة المستقبل اللبنانيّة والشرقيّة العراقيّة، نعثر على تفرّدات فنيّة وقاموسيّة خاصة بكلّ قناة، لكنّها كلّها، تنتظم في ظلّ مرجعيّة جامعة، موحـّدة في أهدافها النهائيّة والأساسيّة. القنابل الساقطة في باب توما ومحيط الجامع الأموي وساحة العباسيين موجهة للشبّيحة وقوات الأمن والمليشيّات الايرانيّة المرتبطة بها وعصابات "أبو فضل العباس" ولا تصيب غيرهم! بينما نجد القذائف الساقطة على معاقل المسلحين التكفيريين لا تصيب سوى الأطفال والنساء والمستشفيات وأفران الخبز.
في 11 ابريل 2017 ، بعد أيّام على قصف مطار الشعيرات، وضع وزير الخارجيّة الاميركيّ تيلرسون البراميل المتفجّرة الى جانب الغازات السامّة، سببا للهجوم الجديد المحتمل.
بعد اختفاء التعبير من التداول دام عدّة أشهر، وبعد تصعيد التهم الى مستوى أعلى، غاز السارين، عاد ترامب، وبشكل مباغت الى البراميل المتفجـّرة، علما انّها أصبحت خالية من الوظيفة، بسبب انتقال المعركة الى حدود أعلى، باستخدام الغازات السامة، كما يدّعي الإعلام الأميركيّ نفسه. من وضع الكلمة، المسحوبة من التداول مؤقتـّاً، في خطاب ترامب؟
في 12 ابريل 2017 تحدث ترامب عن الرئيس الشرّير وأعاد ترديد عبارة "البراميل المتفجـّرة" باعتبارها رمزا للشرّ. كيف تسرّب تعبير "البراميل المتفجّرة" الى خطاب ترامب؟ من سرّبه؟
في 14 نيسان 2018، في الكلمة التي ألقتها رئيسة وزراء بريطانيا، تريزا ماي، عقب هجوم جويّ على سوريّة، عاد فجأة تعبير "البراميل المتفجّرة" الى الظهور، علماً أنّ المعركة آنذاك تدور سياسيّا وعسكريّا حول ما هو أخطر وأكبر من "البراميل"، حول"السلاح الكيميائي". لماذا عاد التعبير الى الظهور؟ لأنّ حجة تيريزا ماي تقوم على القاعدة اللغويّة النفسيّة التي تمتّ زراعتها في وعي المتلقـّي طوال سنوات، ألا وهي صناعة تداع نفسيّ وذهنيّ يطابق بين النظام والسوريّ وتعبير "براميل متفجـّرة". لقد لخـّصت تريزا ماي، بطريقة عجيبة، نظرية الإعلام الغوبلزيّ بمهارة عالية، حينما أفادت أنّ "التحالف" لا ينتظر نتائج فريق التحقيقات حول استخدام الأسلحة الكيميائيّة، لأنّ "البراميل المتفجـّرة"، كانت مملوءة بالمواد الكيميائيّة!! هنا قامت تريزا بالجمع بين مفردتي كيمياوي وبراميل لتنتج سلاحا جديدا يجمع بين الكيمياويّ (الحجّة الدوليّة الجاهزة) و البراميل (المُفعـِّّل الشعوريّ المحليّ المزروع إعلاميّا)، وهذا أكثر فنون الاستخدام النفسيّ براعة وخبثا.
وفي المقابل نجد أنّ "اسطوانات الغاز"، أو "مدافع جهنم"، التي تتباهى القنوات الفضائيّة بعرضها كسلاح "لا شبّيحيّ"، مشروع، لا يقتل سوى الشبّيحة. وهو سلاح مقبول حربيّا وأخلاقيّا ودينيّا أيضا. فقتلاه ذاهبون الى وجهة محددة: جهنم. في حين أن قتلى "البراميل" شهداء، ذاهبون الى جنـّات الخلد. إنّ التعبئة الحربيّة تصنع للأشياء مسمياتها وصفاتها ووظائفها، وفي النهاية تصنع استخداماتها الآيديولوجيّة الأبعد.
واحدة من أطرف تفسيرات القنابل، ظهر في قناتيّ "الشرقية" العراقية و"الجزيرة" القطريّة، عند توصيف القصف الجويّ في منطقة الثرثار العراقيّة: "استهدف الطيران الحكوميّ منطقة الثرثار وأوقع عدداً من القتلى في صفوف ثوار العشائر العراقيّة". وحينما أعلنت القوات الأميركيّة تنفيذ هجوم على المواقع ذاتها، تمّت صياغة الخبر من القنوات عينها على النحو التالي:"قامت طائرات التحالف بتوجيه ضربات الى الجماعات المسلّّحة في منطقة الثرثار". فالقتلى مسلحون مجهولو الهويّة "جماعات مسلحة" حينما يكونون هدفا لنيران الأميركان، بينما هم مقاتلون ينتمون الى محيط اجتماعيّ محدد "ثوار العشائر" في مواجهة الجيش العراقيّ! وقد يحدث العكس كأن يكون القاتل "مجهول الهوية" بلا اسم وعنوان، كما في قصف دمشق من الغوطة، وكأن يكون المتهم هو القنابل، وكما في قصف صوامع الغلال في الحديّدة على يد "مسلحون مجهولو الهوية". وفي حقيقة الأمر كان القصف في موقعة الثرثار يتجاوز الفريقين، لأنّه كان موجها الى مقاتلي تنظيم الدولة الإسلاميّة، الذي أطلق عليهم في بيانات قنوات الجزيرة والعربيّة والمستقبل والشرقيّة "الجيش السنيّ"، و"ثوار العشائر" في مراحل الصراع الأولى، أو"تنظيم الدولة" لاحقا، الصيغة السياسّية ذات الشحن الايجابيّ، التي تجعل من داعش دولة مزوّدة بال التعريف، مقابل دولة العراق المسنودة بالميليشيات الطائفيّة!
إنّ الدلالات السلبيّة للتعبير لا تستمد سلبيتها من الغرض والقصد في التعبير حسب، بل قد تستمده أيضا من الثقافة السياسيّة السائدة، ومن الخبرة في مجال صناعة الرأي العام. فحينما نقارن تعابير القادة الأميركان بتعابير القادة العراقيين في معركة "عاصفة الصحراء" وغزو العراق، نجد أثر الثقافة والخبرة الإعلاميّة واضحا. فجورج بوش يصف نتائج الحرب قائلا: "سنجعلهم دخانا"، أي سنحرقهم حتّى يصبحوا دخاناً. فهو يريد إيصال خصمه الى حدود الإلغاء بمعناه الوجوديّ وليس العسكريّ حسب، ولكن من دون ذكر المعنى المباشر. إنّ التورية هنا قصديّة ومطابقة لشروط ومزاج المتلقـّي الأميركيّ والغربيّ عموما. فلا نجد قطرة دم واحدة، ولا إشارة الى موت أو قتل، على الرغم من أنّ التعبير يشير بلاغيّا الى ما هو أقسى وأبعد من حدود القتل والموت. إنّه يشير الى الإفناء التام. مثل هذا الأمر نجده في تعابير شوارتسكوف قائد المعركة: " عملية استئصال جراحيّة" و" سنعيدهم الى العصر الحجريّ". فالبلاغة والتورية تجمع بين القوة من جهة وبين نظافة الفعل الايجابيّة. لأنّ العمليات الجراحيّة لا تقام لغرض قتل البشر. على العكس، هي مخصصة لإنقاذهم، على الرغم مما قد يصاحبها من جراح ودماء. حينما نقارن تلك التهديدات البشعة المرافقة لعمليات استخدام القوّة بتعابير صدام حسين المضادّة، المستمدّة من الثقافة الشعبيّة والزقاقيّة، نجد أنـّنا نقف في الطرف الآخر من معادلة الايجابيّ والسلبيّ في مجال الإعلام. فقد أثار تصريح صدام، القاضي بمواجهة الهجوم الأميركيّ، موجة إعلاميّة عالميّة حادّة، تفسّر الطبيعة الإجراميّة للرجل، ومشروعيّة تحويل مجتمعه الى "دخان" أو "استئصاله جراحيّا" أو حتّى "إعادته الى العصر الحجري". إنّ تعبير صدام البلاغيّ يحمل في ثناياه دلالات إجراميّة حسيّة، أكثر مما يحمل من توريات تمجـّد القوّة أو تتوعد بها. كان جواب صدام على تهديدات القادة الأميركان مأخوذاً من الذائقة الثقافيّة الشعبيّة العراقيّة، ومن تراث الشارع. لم يكن القائل يدرك أنّه استخدم تعبيرا غريبا على منطق المخاطـَب، الإعلام الحربيّ الغربيّ، والمخيّلة الأوروبيّة: " راح انخليهم يسبحون بدمهم". ماذا كانت النتائج؟ لقد أحالوا العراقيين دخاناً، وأعادوهم الى ما قبل العصر الحجري، ثمّ أرغموهم على تنفيذ تهديد صدام، ولكن على أنفسهم، حينما جعلوهم يسبحون في دمائهم!
ففي منظور الحرب الإعلاميّة لا يكون الخبر بذاته، وما يحتويه من أرقام ومعلومات هو الهدف النهائيّ، بل تكون القيمة المرجعيّة هي الغاية: زراعة قاعدة شعوريّة تعمل بتلقائيّة ذاتيّة، محركها الأساسيّ "سلسلة" من كلمات الشحن العاطفي: امرأة، طفل، شيعة، سنة، فرس، مجوس، ثوار، عشائر، براميل، كيمياوي، شبّيحة. تعتمد المرجعية اللغويّة النفسيّة على قوة قانون التداعي الذهنيّ: جرف الصخر تذكـّرنا بسامراء، والكرمة تذكّر بجرف الصخر، وتكريت تذكّر بالكرمة، والرمادي تذكّر بتكريت، والفلوجة تذكّر بالرمادي، والثرثار تذكّر بالفلوجة. بهذه الطريقة المنهاجيّة تحبس المؤسسة الإعلاميّة مشاعر المتلقـّين في دائرة مترابطة من التدفق الخبريّ غير المنقطع، تكوّن بمجموعها محفـّزا عاطفيّا وشعوريّا، يديم عمليّة الاستعداد النفسيّ، والجاهزيّة الانفعاليّة. أي أنّها لا تهدف الى إضافة معلومة جديدة، بل تهدف الى تأكيد استمرار الجاهزيّة الشعوريّة، العدوانيّة المفعـّلة، لدى المتلقتّي، المتحفـّز للهجوم على الآخر، العدو.
في المعركة ضد داعش في العر اق، بعد سلسلة من النجاحات الميدانيّة، المتكررة، للقوات العراقيّة، على مدى شهور قاسية ومضنية، فقدت عبارات التفعيل الشعوريّ الطائفيّ قوتها التحفيزيّة، ولم تعد قادرة على إدامة حالة الجاهزيّة الشعوريّة على النحو الذي أريد له.
وفي سوريّة واجهت حلب إعلاما مماثلا، يكاد يتطابق مع ما واجهته القوات العراقيّة، باستثناء جانب واحد هو مقدرة الخبر السوريّ، الحلبيّ تحديدا،على التحول الى قوّة دوليّة -قرارات- على أعلى مستوى وأخطر مقياس بسرعات خياليّة. فبلمح البصر يتمّ عرض قرار إدانة، ثمّ يليه اجتماع فوريّ لأعلى هيئة دوليّة، لا ينتهي إلا بالتصويت.
في عنوان صحيفة المستقبل اللبنانيّة الرئيس، في العدد 5864 ،الاحد 9 تشرين الاول 2016 ، نقرأ الخبر "الكونيّ والتاريخيّ" المثير التالي. يقول الخبر حرفيّا: " فرنسا: إذا لم نتدخل الآن سيخسر العالم حلب الى الأبد". وزير خارجية فرنسا جان مارك آيرولت يقول: " الآن"، "العالم"، "الى الأبد"!! نلاحظ هنا حجم التعميم المكاني "العالم" والزماني "الأبد"، وحجم التخصيص "الآن" "حلب". ما معنى ذلك؟
كيف "سيخسر العالم حلب" إذا خرجت من قبضة التكفيريين القتلة؟ الوزير الفرنسي يرى أنّ المواطن الحلبيّ يعيش في أمان أبديّ، مثاليّ، تحت حماية القوى التكفيريّة المسلـّحة!!
في لحظة سقوط الوهم تنحطّ قواعد المنطق، وتسقط معها معايير التعبير اللغويّ.
ليس هذا سوى مثال على المقدرة مقدرة اللغة السحريّة في أن تكون أداة لقتل الحقيقة والإنسان بعبارات من ذهب زائف.
هنا يتحول الخبر الإعلاميّ التلفيقيّ من مادة لإدامة الجاهزيّة النفسيّة والعاطفيّة لدى سكان المناطق الخاضعة للقتال، الى وثيقة قانونيّة، ذات بعد دوليّ، تترتب عليها إجراءات أرضيّة فوريّة عظيمة الخطورة: ضربة جوّيّة، قصف صاروخيّ، إنزال قوات، باسم حلب المضاعة. هنا لا يكون الإعلام جزءا لازما من الحرب العسكريّة المباشرة حسب، بل يكون طليعتها المقاتلة، العدوانيّة.