مرض الذيلية في تاريخ الحركة الماركسية
محمد الأشقر
2018 / 9 / 9 - 22:29
أبدا لا أنسى هذه اللحظة التي وقف فيها لينين يجادل أساطين الماركسية في روسيا وقادة الأممية الثانية عندما تحولوا إبان الحرب العالمية الأولى إلى جانب حكوماتهم البرجوازية وألقوا براية الماركسية في وحل الوطنية والقومية البرجوازية
كانت موجة الشعارات القومية والوطنية الشوفينية تغمر شواطئ السياسة الأوروبية فى هذا الوقت ، مما جعل كثير من الماركسيين يظنون أنهم بركوبهم الموجة التى أغرقت ملايين الكادحين فى بحر من الدماء ، أنهم سيحالفهم الحظ فى النجاة من الغرق كما النفايات والحيوانات النافقة في بحر التاريخ ، ولكن فى نفس الوقت ووسط موجات الهول والويل ، والصراخ والعويل الوطني البرجوازي ، والرصاص المنهمر ، وضحايا الحرب يسقطون ، كان هناك قلة من الماركسيين المتمسكين بالخط الثوري للماركسية ، على رأسهم البلاشفة وعصبة سبارتاكوس بقيادة روزا لوكسمبرج وكارل ليبكنخت ، وكان هناك أيضا مناضلا ايرلنديا لم تعرفه أدبياتنا العربية ، كان اسمه "جيمس كونلي" من أبرز القادة الثوريين في الحركة الاشتراكية الايرلندية ، وقد قاد حملة مناهضة للحرب ، والعجيب أنه لم يقرأ لينين قط ، ولكن بسليقته الثورية رفضها وناضل ضدها ، وكان كونلي من ضمن هذه القلة المنبوذة المطاردة ، كما البلاشفة وعصبة اسبارتاكوس
لقد ثبت هؤلاء ثبات محاربي الإغريق المختبئين داخل حصان طروادة الخشبي
كيف استطاعوا أن يثبتوا ؟ ، أي روح قدسية تملكتهم في تلك اللحظة ! ، بالرغم أن عدوهم البرجوازي يمتلك الكثير من (كاسندرا ولاكون) الطرواديين الذين حذروا من وجود الإغريق داخل الحصان الخشبي !
كان الحزب البولشفي بمثابة حصان طروادة المطلي بالديالكتيك الثوري الماركسي ، حيث كان يرى أنه وبما أن الثورة من الممكن أن تتحول إلى حرب ، فلما لا تتحول الحرب إلى ثورة
مازلت أسير هذا المشهد الذي سطع فيه ضوء الاشتراكية مجددا عام 1917 بعد عقود من كمونة باريس ، ولكن هذه المرة كان المشعل يحمله قادة ماركسيين شديدي البأس تعلموا جيدا من دروس التاريخ ..
استطاع لينين بجرأته الثورية أن يبدد مخاوف جماهير العمال والفلاحين والولوج بحصان طروادة إلي حصن البرجوازية الحصين والذي اختبأ فيه الاصلاحيين والانتهازيين والذيليين من الحركة الاشتراكية ، وقام بقلب الطاولة على الجميع ،بالرغم من تعرضه لكل الإهانات والسخرية "عميل وممول من الألمان ، مجنون ، مغامر ، لا يفهم الديالكتيك ، إلخ إلخ" وكل هذه الاتهامات لم تأتي من سياسيين مغمورين ولكن من مفكرين وسياسين لهم سطوتهم الفكرية على الحركة الاشتراكية ، وفي حين أن لينين والبلاشفة يقاومون الموجة ويفتكون السلطة السياسية في روسيا ، كان هناك مناضلين قد غرقوا أثناء مقاومتهم الموجة " روزا وكارل ليبكنخت في ألمانيا وجيمس كونلي في ايرلندا" ، نعم لقد غرقوا ولكن ليس كما النفايات والحيوانات النافقة ولكن كمحاربين شجعان ، ماتوا في أرض المعركة بشرف ثوري لا يضاهيه شرف ، شرف الدفاع عن قضايا الكادحين و قضايا المضطهدين ، لم يرتموا في أحضان تيارات سياسية تقودهم إلى المذابح كما فعل شيوعيينا العرب ومازالوا يفعلون بدعوى الواقعية ((التي هى مرادف للعجز التنظيمي وتذبذب الرؤية وضياع البوصلة الثورية الماركسية))، الواقعية التى خسرنا بسببها الكثير من الفرص التاريخية، فأغلبهم لا يقرأ التاريخ ويتعلم من دروسه ، فقد ضاعت فلسطين بسبب الواقعية ، ضاعت فرص استلام الحكم في بعض البلدان ، أبرز نموذج العراق ، فى العام 1958 ، حيث كانت الثورة العراقية ضد الملكية تتعاظم ، وينخرط فيها الحزب الشيوعي العراقي ، الذي يضم في صفوفه مليون عضو من أصل سبعة ملايين ونصف المليون مواطن هم جل نسمات الشعب العراقي ، ناهيك عن امتلاك هذا الحزب جهاز عسكري كان يفوق الجهاز العسكري للبلاشفة ابان ثورة أكتوبر ، ولكن في النهاية سلم السلطة إلى طليعة البرجوازية المسماة وطنية "العسكر" بقيادة عبد الكريم قاسم ، بالرغم من أنه كان وطنيا شريفا ، ولكن إلى أى مدى يثق الشيوعيين فى نضالهم على ما يسمى "البرجوازية الوطنية" في استكمال مهام الثورة ؟
لقد أجاب التاريخ على الشيوعيين مرارا وتكرارا ، لقد أجاب عليهم فى العراق عند انقلاب البعثيين الدموي ، حيث قاموا بمجزرة تعد من أكبر الجرائم في التاريخ العراقي الحديث والقديم .. عند وقوع انقلاب البعثيين ، وكما ذكرت آنفا ، كان الحزب الشيوعي العراقي يضم بين صفوفه مليون عضو ، من هؤلاء المليون شيوعي عراقي ، أباد منهم الحرس القومي حوالي نصف مليون خلال 9 أشهر ، والعجيب أن الوحش الهمجي البعثي ، لم يقتل الشيوعيين فقط بل قتل 150 ألف من أعضاء الحزب اليساري العراقي وباقي الضحايا كانوا من القوميون العرب والكورد.
وقد أجاب عليهم التاريخ فى السودان عندما قام نظام جعفر النميري بإعدام خيرة كوادر الحزب الشيوعي السوداني (إعدامات الشجرة) بعد فشل انقلاب هاشم العطا.
وأجاب التاريخ أيضا على الشيوعيين هذه المرة من اندونيسيا ، حيث تمت بحق الحزب الشيوعي مجازر وحشية ، عندما دبرت المخابرات الأميريكية انقلابا راح ضحيته ثلاثة ملايين شيوعي من إجمالي أربعة ملايين هم كل أعضاء الحزب الشيوعي الاندونيسي.
ومرة اخرى يجيب التاريخ على الشيوعيين ، وهذه المرة من اميركا اللاتينية ، حيث انقلاب بينوشيه العميل الأميركي ، والذي قام بقصف القصر الجمهوري ، وبداخله الرئيس الاشتراكي المنتخب "ديمقراطيا" سيلفادور الليندي ، وبعدها قام بإعدام الكثير من الشيوعيين والوطنيين داخل الاستاد الرياضي ، حيث تخطى الضحايا حاجز الـ100 ألف.
هل يحتاج الشيوعيين إلى إجابات أخرى كى يقتنعوا أن النضال الاشتراكي بدون تحديد الخنادق وبدون الشروع في بناء التنظيم الكفاحي المحكم الذي يستهدف افتكاك السلطة وقيادة الحركة الجماهيرية إلى طريق الاشتراكية ، لا سبيل للنجاة إلا به .
بدون تحديد من هم الأصدقاء ومن هم الأعداء بشكل واضح لا مراء فيه ، بدون خلط الرايات في السياسة التحالفية والعمل الجبهوي ، بدون الارتماء فى أحضان حلفاء اليوم وبدون الامضاء لهم على بياض ، وبدون الحفاظ على الخط النقدي الثوري المستمد من الماركسية كمنهج ومرشد للعمل والذي لا يهادن ولا يساوم فى نقده لكل صنوف الفكر النقيض، تحت ضغط الواقع الهزيل لمسألة التنظيم .. بدون هذه النقاط لن تقوم لنا قائمة وسنظل ذيول لكل تيار سياسي ما إن تسنح له الفرصة سيقوم بدفننا أحياء.
لقد أسلفت ذكرا مأثرة لينين وروزا لوكسمبرج وكارل ليبكنخت وجيمس كونلي ، ليس من أجل إعادة انتاج تلك التجارب للواقع مرة أخرى ، فمن الناحية التاريخية الظرف مختلف ،كل تجربة لها خصوصيتها ، ولكن هناك قوانيين عامة تحكم الأمور ، ونحن نستمد من التجارب التاريخية ودروسها ما يفيد واقعنا وعدم الوقوع في أخطاء الماضي ، ولكن كان الغرض هو التأكيد على ما ذهب إليه وأكده قادة الحركة الاشتراكية التاريخيين من أن أزمة الحركة الثورية الاشتراكية كامنة في قيادتها ، ونموذج لينين والبلاشفة وروزا وكارل ليبكنخت وجيمس كونلي ، لهو الدليل الساطع على القيادة الثورية الواثقة فى قدرة الجماهير والمعتمدة على قواها الذاتية وأسلحتها الخاصة وتنظيمها الخاص ولم تكن أسيرة المركز الاشتراكى الدولي في هذا الوقت وهو الأممية الثانية بكل ما يتمتع به من سطوة ، كما فعل أغلب شيوعيينا العرب سابقا ، ويفعل رديفهم الحالي أيضا ، فقد تذيلوا سابقا حركة الجماهير وارتموا في أحضان الأنظمة القومية وذلك بسبب ارتهانهم للمركز السوفيتي ورؤاه التي ابتعدت كل البعد عن الطريق الثوري للماركسية ، مما كلفهم الكثير ، فقد كان بعض الأحزاب قريبين من حسم مسألة السلطة "وهذا إن تم ، كان سيؤثر إيجابيا على تاريخ نضالات كادحي المنطقة "، ولكن لغياب الإراداة السياسية والرؤية الثورية المستمدة من واقعنا ، فقد قاموا بتسليم السلطة لطبقة البرجوازية المسماة "وطنية" وطلائعها العسكرية ، فهذه الطبقة تفتقر لأى تجانس عضوي ، مما ينعكس أيضا على ممثليها السياسيين ، ناهيك عن أن تاريخ تطور هذه الطبقة فى منطقتنا يختلف عن مثيلتها في الغرب ، والذي يضعها في موضع العاجز تاريخيا عن تقديم أي دور في تطوير نضالات الشعوب العربية.
وبما أن الذيلية مرض فإن كل مرض له آلالامه ، وآلالام الذيلية نخرت عظام الحركة الماركسية العربية حتى أرقدتها عقودا طريحة الفراش ، جريحة ، مشلولة ، عاجزة عن تقديم أى دور ، مما كرس ذيليتها فى زمننا ، ودورنا الان هو ترميم هذا الجسد وعلاج الشلل الذي يجبر البعض على التعكز بعصا الخصوم الطبقيين والايديولوجيين .
لا غرو فى أن أغلب قادة الاشتراكية بداية من ماركس ولينين وحتى هؤلاء الذين تعاظم بينهم الخلاف "تروتسكي وستالين" قد أقروا جميعا ، بأن أزمة الحركة الثورية الاشتراكية تكمن في القيادة الثورية ، ومن هنا نستطيع فهم أزمتنا .
وختاما يقول حكيم الثورة الاشتراكية لينين ، في روشتته العلاجية التى تقي من شتى صنوف الأمراض التي تصيب الحركة الثورية الاشتراكية :
("إن الحركة الجماهيرية (العفوية) ينقصها ((ايديولوجيون)) بلغوا من الإعداد النظرى درجة تقيها وتضمنها من كل تذبذب وتقلقل ، ينقصها قادة ذو افق سياسى على درجة من الاتساع ، وعزيمة ثورية على درجة من القوة وموهبة تنظيمية على درجة من السمو، بحيث يمكنهم ان ينشئوا حزباً سياسياً كفاحياً على اساس الحركة الجديدة ") .......