تاريخ الثورة الروسية: الطبقة الفلاحية
الرابطة الأممية للعمال
2018 / 8 / 28 - 23:49
كانت الأسس العميقة للثورة كامنة في المسألة الزراعية. ووسط النظام القديم لملكية الأرض الناجم مباشرة عن نظام القِنانة، ووسط السلطة التقليدية للملاك النبيل، والأربطة الوثيقة مع هذا الملاك، كانت للإدارة المحلية والزيمستفو الطائفي جذورهما في أبرز ظواهر البربرية في الوجود الروسي، والتي جاءت الملكية الراسبوتينية لتكللها. وكان الموجيك الذي يعتبر دعامة الآسيوية الموغلة في القدم، هو في الوقت نفسه أحد ضحاياها الأوائل.
وقد بقي الريف سلبيًا في الأسابيع الأولى التي تلت انتفاضة فبراير (شباط). وكانت الأجيال الريفية الفعالة في الجبهة. أما كبار السن، الذين بقوا في منازلهم فقد كانوا يتذكرون أن الثورة تنتهي بحملات تأديبية ضد الثوار. ونظرًا لأن القوة سكتت، فقد سكتت المدينة عن القرية. بَيْد أن شبح الحرب الفلاحية أخذ يحوم حول أعشاش الملاكين النبلاء منذ شهر مارس (آذار). وسمع نداء النجدة قادمًا من أكثر المناطق الآهلة بالنبلاء، أي من أكثر المناطق تخلفًا ورجعية، حتى قبل ظهور خطر حقيقي. وكان الليبراليون يعكسون مخاوف الملاكين، على حين يعكس التوفيقيون الحالة الفكرية لليبراليين. وقد قال سوخانوف معللاً “اليسار” بعد الانتفاضة “أن إثارة المسألة الزراعية بحدة في الأسابيع القريبة مضر، ولا حاجة بنا إلى ذلك”. ونحن نعرف أن سوخانوف وجد بنفس الطريقة والأسلوب أن من الضرر إثارة مسألة السلم، ومسألة تحديد يوم العمل بثماني ساعات. فقد كان تجنُّب الصعوبات وتحاشيها أسهل بكثير. وبالإضافة إلى هذا، كان الملاكون النبلاء يستخدمون التخويف والإرهاب، قائلين بأن الانقلاب في العلاقات الزراعية سيؤدي إلى الإضرار بالزراعة وتموين المدن. وكانت اللجنة التنفيذية ترسل البرقيات إلى المناطق وتُوصي “بعدم الانجرار لحل المسائل الزراعية على حساب تموين المدن”.
وامتنع الملاكون الذين أرهبتهم الثورة في كثير من القرى عن القيام بزراعات الربيع. ونظرًا لوضع البلاد الخطير من ناحية التموين، كانت الأراضي البور تتبدى وكأنها تنادي من تلقاء ذاتها مالكًا جديدًا. وكانت الطبقة الفلاحية تتحرك خفية. وشرع الملاكون النبلاء بتصفية ممتلكاتهم بسرعة نظرًا لأنهم لا يعتمدون على السلطة الجديدة ولا يثقون بها. وبدأ الكولاك بشراء كثير ومزيد من أراضي النبلاء، بعد أن قدَّروا أن نزع ملكية الأراضي بالإكراه لن يمسهم كفلاحين. واتسم عدد كبير من صفقات بيع أراضي النبلاء بصفة وهمية. فقد كانوا يفترضون أن الملكيات الخاصة التي تتجاوز حدًا معينًا لن تُمس، وهكذا قسم الملاكون النبلاء ممتلكاتهم بصورة مصطنعة إلى قطع صغيرة من الأرض، مستعينين بأشخاص لا رأي لهم، واستخدموا أسماءهم بصورة وهمية. وكثيرًا ما سُجلت بعض الأراضي بأسماء أجانب، أو مواطنين من دول الحلفاء أو مواطنين من دول حيادية. وكانت مضاربة الكولاك واختلاسات الملاكين النبلاء تهدد بعدم بقاء أي ملاك زراعية واسعة عند دعوة المجلس التأسيسي.
وكان القرويون يرون هذه المناورات. ولهذا وُلد المطلب الآتي الذي قدمه أبناء الريف: إصدار مرسوم يوقف كل عمليات بيع الأراضي. وتوجه بعض الوسطاء من الفلاحين إلى المدن، وإلى السادة الجدد كيما يطالبون بالأرض والعدالة. وحدث أكثر من مرة أن التقى الوزراء عند خروجهم من الجلسات الحافلة بالجدل والمناقشات أو بعد الاحتفالات أو الحفلات الرسمية بشخصيات متواضعة، وبمندوبي الفلاحين الذين جاءوا ليثيروا هذا الموضوع مع الوزراء. وقد روى سوخانوف أن أحد معقبي المعاملات كان يرجو الوزراء – المواطنين، والدموع تنهمر من عينيه لإصدار قانون يحمي العقارات من عمليات البيع. (وقاطعه كرنسكي بعد أن عِيل صبره وهو مضطرب وشاحب الوجه: قلت إن القانون سيصدر، إذن سيصدر… ولا داعي لأن تنظر إليَّ نظرة حذر”. وأضاف سوخانوف الذي حضر هذا المشهد قائلاً ما يلي: “إني أنقل الواقعة حرفيًا -وكان كرنسكي على حق- كانت أنظار الموجيك للوزير العظيم وزعيم الشعب لا توحي بالثقة”. وفي هذا الحوار القصير بين هذا الفلاح الذي ما زال يتوسل، لكنه لا يثق بالوزير أبدًا، والوزير الراديكالي الذي يستنكر حذر الفلاح بإشارة منه، في هذا الحوار تظهر حتمية انهيار نظام فبراير (شباط).
ونشر الكاديت شينغاريف أول وزير للزراعة قانون اللجان الزراعية، بصفتها أجهزة لإعداد الإصلاح. وتألفت اللجنة الزراعية العليا وعين على رأسها البيروقراطي الليبرالي البروفسور بوستنيكوف، وضمت هذه اللجنة بصورة خاصة عددًا كبيرًا من الشعبيين الذين كان أخشى ما يخشونه، هو التظاهر بأنهم أقل اعتدالاً من رئيسهم. وشكلت لجان زراعية محلية في المقاطعات (الحكومات) والنواحي، والأقسام. وفي حين كانت السوفييتات المعتبرة كأجهزة خاصة تحاول الدخول بصعوبة إلى الوسط الزراعي، كانت اللجان الزراعية تتمتع بصفة حكومية. وكان عدم تحديد وظائفها يزيد صعوبة مقاومتها أمام اندفاعة الفلاحين. وكلما هبطت اللجنة في سلم تسلسل اللجان، كلما ازداد اقترابها من الأرض، وأصبحت أداة الحركة الفلاحية بسرعة أكبر.
وبدأت المعلومات المثيرة للقلق تصل إلى العاصمة في حوالي نهاية مارس (آذار)، وتشير هذه المعلومات إلى دخول الفلاحين ساحة العمل. وقد أعلن مفوض نوفوغورود برقيًّا عن وجود فتن أثارها أحد الملازمين واسمه باناسيوك “وقوع اعتقالات لملاكين من النبلاء لا مبرر لها” …إلخ، ونهبت عصابة من الفلاحين على رأسها بعض الجنود المجازين بيت أحد الإقطاعيين النبلاء في حكومة طامبوف. وكانت البيانات الأولى مبالغًا فيها دون شك؛ إذ ضخم الملاكون في الشكاوي التي قدموها حجم النزاعات. وكان في شكاواهم توقعًا لما سيحدث. ولكن من المؤكد أن الجنود الذين جلبوا معهم من الجبهة ومن حاميات المدن روح المبادءة، لعبوا دور القيادة في الحركة الفلاحية، وكانوا على رأسها.
وقررت إحدى لجان قسم حكومة خاركوف بتاريخ 5 إبريل (نيسان) القيام بمصادرة الأسلحة الموجودة لدى الملاكين. ونجد هنا إحساسًا واضحًا بالحرب الأهلية. ويفسر المفوض ظهور الاضطرابات في ناحية سُكوبين، التابعة لحكومة ريازان بقرار اتخذته اللجنة التنفيذية لناحية مجاورة لإجبار الملاكين النبلاء على تأجير أراضيهم للفلاحين، “لم ينجح تحريض الطلاب للحصول على التهدئة إلى أن ينعقد المجلس التأسيسي”. وهكذا علمنا أن “الطلاب” -الذين حرَّضوا الفلاحين على القيام بالإرهاب الزراعي، إبان الثورة الأولى، وكان الإرهاب الزراعي هو تكتيك الاشتراكيين – الثوريين في ذلك الوقت، يدعون في عام 1917 إلى الهدوء والمحافظة على الشرعية، ولكن دعوتهم لم تحقق وأيِّم الحق أي نجاح.
ورسم مفوض حكومة سامبيرسك لوحة لحركة فلاحية أكثر تطورًا: إن لجان القسم والقرية -سنتحدث عنها فيما بعد- تعتقل الملاكين وتطردهم من المناطق، وتطرد العمال الزراعيين من حقول الملاكين، وتستولي على الأراضي، وتضع أسعارًا تعسفية لاستئجار الأراضي الزراعية. “وينحاز المندوبون الذين ترسلهم اللجنة التنفيذية إلى جانب الفلاحين”. وبدأت في الوقت ذاته حركة “المشاعيات” ضد حركة “قطع الأرض الجديدة”، أي ضد الفلاحين الأغنياء الذين انفصلوا عن المشاعيات وأخذوا قطعًا مستقلة من الأرض، على أساس القانون الستوليبيني الصادر في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1906. ويقول مفوض حكومة سامبيرسك: “إن الوضع في المنطقة يهدد الزراعة”. وأن هذا المفوض لا يرى منذ إبريل (نيسان) مخرجًا آخر للوضع سوى الإعلان الفوري بأن الأرض ملكية وطنية، حتى يحدد المجلس التأسيسي فيما بعد طرق الاستغلال الزراعي.
ووجهت شكاوى من ناحية كاشيرا القريبة من موسكو ضد اللجنة التنفيذية التي تهيج المواطنين وتحرضهم للاستيلاء على أراضي الكنائس والأديرة وأملاك النبلاء، دون دفع أي تعويض عنها. وفي حكومة كورسك، طرد الفلاحون من النواحي أسرى الحرب الذين كانوا يعملون في الأرض. وحبسوهم في السجن المحلي. وتحرك المزارعون في حكومة بينزا، والميَّالون إلى تطبيق قرارات الاشتراكيين – الثوريين عن الأرض والحرية حرفيًّا، وبدءوا بخرق العقود التي أبرمت مؤخرًا مع ملاكي الأراضي الزراعية. وقادوا في الوقت ذاته هجومًا ضد أجهزة السلطة الجديدة. ويروي مفوض بينزا ما يلي: “عند تشكيل اللجان التنفيذية للنواحي والأقسام في مارس (آذار)، دخل المثقفون فيها بأكثرية كبيرة، ولكن سرعان ما ارتفعت فيما بعد أصوات الاحتجاج ضد الأنتليجنسيا. ومنذ منتصف إبريل (نيسان)، تألفت كل اللجان من فلاحين بصورة خاصة، كانت ميولهم تتجه بالنسبة للأرض إلى اللا شرعية بوضوح”.
واشتكت مجموعة من الملاكين في منطقة مجاورة حكومة قازان للحكومة المؤقتة عن استحالة إمكان قيامها بالاستثمارات نظرًا لأن الفلاحين يطردون العمال الزراعيين، ويسرقون الحبوب، ويصادرون كل مفروشات الإقطاعيات في كثير من الأماكن، ويمنعون الملاكين من قطع الأخشاب في غاباتهم، ويتفوهون بعبارات التهديد المتسمة بالعنف والتعريض بالموت “فلا وجود للعدالة. ويصنع الجميع ما يريدون، وتعيش العناصر العاقلة في ظل الإرهاب”. وكان ملاكو حكومة قازان يعرفون من هو المسئول عن الفوضى: “إن قرارات الحكومة المؤقتة مجهولة في القرى، لكن منشورات البلاشفة منتشرة كثيرًا”.
ومع هذا، لم تكن تعليمات الحكومة المؤقتة هي ما تفتقر إليه المناطق. فقد دعا الأمير لفوف المفوضين في برقية أرسلها بتاريخ 20 مارس (آذار) إلى إنشاء لجان للأقسام تكون بمثابة أجهزة للسلطة المحلية، وأوصى بالإضافة إلى هذا بربط “الملاكين المحليين وكل القوى المثقفة في الريف” بعمل هذه اللجان. وكانوا يعدون تنظيم كل بنية الدولة حسب أسلوب غُرَف المصالحة والتوفيق. وقد اضطر المفوضون بعد هذا إلى سكب الدموع، عندما وجدوا أن “القوى المثقفة” مبعدة عن العمل: وبالطبع لم يكن الموجيك يثق بأنصار كرنسكي في الناحية أو القسم.
وبتاريخ 3 إبريل (نيسان) تحدث الأمير أوروسوف معاون الأمير لفوف في رئاسة مجلس الوزراء -ونرى أن في وزارة الداخلية كثيرًا من الشخصيات ذات الرتب والألقاب- وأوصى بعدم التساهل إزاء أي عمل استبدادي، وأوصى بشكل خاص بحماية “حرية كل مالك في إدارة أرضه”، أي أنه أوصى بحماية أشهى الحريات لمثل هؤلاء الأشخاص.
وبعد عشرة أيام قدر الأمير لفوف ذاته ضرورة قيامه شخصيًّا بهذه المهمة، فأمر المفوضين “بإيقاف كل أعمال العنف والنهب بكل الوسائل التي يسمح بها القانون”. وبعد يومين، أوصى الأمير أوروسوف أحد مفوضي المناطق “باتخاذ التدابير لحماية حظائر الخيول من كل الأعمال التعسفية وإفهام الفلاحين…” إلخ.
وبتاريخ 18 إبريل (نيسان) قلق الأمير أوروسوف من أن أسرى الحرب الذين يعملون في أراضي الملاكين النبلاء أخذوا يتقدمون بمطالب مبالغ فيها. فأمر المفوضين بفرض عقوبات على هؤلاء الوقحين استنادًا إلى الحقوق الممنوحة سابقًا للحكام القيصريين وكانت الأوامر الدورية، والتعليمات، والأوامر البرقية تتساقط من السدة العليا كالمطر المتواصل. وفي 12 مايو (آيار) عدَّد الأمير لفوف في برقية جديدة الأعمال اللاشرعية التي “ما زالت تقع في كل البلاد”: اعتقالات تعسفية، مصادرات، تسريح موظفين، طرد مديري الأملاك ومدراء المصانع والورش، تدمير الممتلكات، وأعمال النهب والفوضى، أعمال العنف التي تمارس ضد أشخاص مرموقين يحتلون مناصب هامة، فرض الضرائب على السكان، تحريض جزء من الشعب ضد جزء آخر …إلخ. “وينبغي اعتبار كل عمل من هذا النوع عملاً لا شرعيًّا، وعملاً فوضويًّا في بعض الحالات…، وليس الوصف واضحًا تمامًا. ولكن الاستنتاج واضح كل الوضوح، وهو: “اتخاذ أقسى التدابير”. وكان مفوضو المناطق يوزعون الأمر الدوري على النواحي بصورة تتسم بالحزم، ويضغط مفوضو النواحي على لجان الأقسام. وكان الجميع في النتيجة يكتشفون عجزهم تجاه الموجيك.
وقد تدخلت التشكيلات العسكرية القريبة في هذه المشكلة، وفي كل مكان. وغالبًا ما كانت تعود إليها المبادءة في مثل هذه الأعمال. واتخذت الحركة أشكالاً مختلفة جدًا، تبعًا للشروط المحلية ودرجة ازدياد حدة الصراع. وفي سيبريا، حيث لا وجود للملاكين النبلاء، استملك الفلاحون أراضي الكنائس والأديرة. فضلاً عن هذا كان رجال الدين في وضع سيء في أنحاء أخرى من البلاد. وتعرض الكهنة والرهبان في الحكومة التقية لسمولنسك إلى الاعتقال تحت تأثير الجنود العائدين من الجبهة. واضطرت السلطات المحلية إلى السير في التدابير والإجراءات إلى مدى أبعد مما كانت ترغب فيه، بغية منع الفلاحين من اتخاذ تدابير جذرية. وعينت اللجنة التنفيذية لناحية حكومة سامارا وصاية عامة، في مطلع مايو (آيار) على ممتلكات الكونت أورلوف – دافيدوف، وحمته بهذا الشكل من تدابير الفلاحين.
وبما أن المرسوم الذي وعد كرنسكي بإصداره، هذا المرسوم الذي ينبغي أن يحرم بيع الأراضي، لم يصدر أبدًا، بدأ الفلاحون في استخدام قبضات أيديهم ليمنعوا عمليات البيع وقاوموا مسح الأراضي. وازدادت عمليات مصادرة أسلحة الملاكين، حتى صودرت منهم بنادق الصيد. واعتبر موجيك حكومة منسك، حسب شكوى أحد المفوضين “قرارات مؤتمر الفلاحين قانونًا نافذ المفعول”. ولكن، كيف يمكن فهم هذه القرارات بشكل آخر؟ طالما أن هذه المؤتمرات تشكل في نهاية المطاف السلطة الحقيقية الوحيدة في المناطق. وهكذا وقع الخلاف الكبير بين الأنتليجنسيا الاشتراكية – الثورية التي تتشدق بالكلمات وبين طبقة الفلاحين التي تطالب بالأعمال.
وفي نهاية مايو (أيار) تحرك السهل الآسيوي الفسيح. فانتفض أهالي قرغيزيا -الذين انتزع القياصرة منهم أفضل أراضيهم ومنحوها لأتباعهم- وثاروا ضد الملاكين، وطالبوهم بتصفية ممتلكاتهم المغتصبة بأسرع ما يمكن، ويؤكد مفوض أكمولينسك ذلك بقوله: “ويزداد تأكيد وجهة النظر هذه في السهوب”.
وفي الناحية الأخرى من البلاد، وفي حكومة ليفونيا، أرسلت لجنة تنفيذية لناحية من النواحي لجنة تحقيق لتحقق في سلب أملاك البارون ستهال فون هولشتاين. واعترفت لجنة التحقيق بأن أعمال الفوضى كانت تافهة، وأن وجود البارون في الناحية يسيء إلى الهدوء. وقد اتخذت لجنة التحقيق القرار التالي: طرد البارون والبارونة إلى بتروغراد، ووضعهما تحت تصرف الحكومة المؤقتة. وهكذا وُلد أحد النزاعات التي لا تعد بين السلطة المحلية والسلطة المركزية، وبين الاشتراكيين – الثوريين في القاعدة والاشتراكيين – الثوريين في القمة.
ويرسم تقرير أرسلته ناحية بافلوغراد (حكومة إيكاتيرينوسلاف) بتاريخ 27 مايو (أيار) لوحة شبه مثالية: أن أعضاء اللجنة الزراعية يوضحون للشعب كل الخلافات وبهذا الشكل “يحولون دون قيام أي عمل متطرف”. ومن المؤسف أن هذه المثالية الساذجة لم تستمر إلا بضعة أسابيع.
وفي نهاية مايو (آيار) قدم أحد الآباء من رؤساء أحد أديرة كوستروما شكوى مريرة إلى الحكومة المؤقتة يشتكي فيها من الفلاحين الذين صادروا ثُلث الدواب ذات القرون التابعة للدير. وكان بوسع الراهب المحترم أن يكون أكثر تكتمًا؛ فقد اضطر فيما بعد إلى خسارة الثلثين الآخرين.
وبدأت حكومة كورسك تضطهد الفلاحين الذين يملكون أجزاء صغيرة من الأرض والذين رفضوا الدخول في المشاعيات. فقد كانت الطبقة الفلاحية تريد أن تتقدم ككلٍ واحد إزاء الثورة الزراعية الكبرى وقبل توزيع الأراضي بالتساوي. فقد يخلق وضع الحواجز في الداخل بعض العوائق. ومن واجب المجموع (المير) أن يسير كرجل واحد. ورافقت المعركة من أجل الاستيلاء على أراضي النبلاء أعمال عنف ضد المزارع أي ضد المزارعين الفرديين.
وفي نهاية مايو (آيار) اعتقل الجندي صاموئيلوف، في حكومة برم لأنه كان يحث الناس على رفض دفع الضريبة. وبعد ذلك أصبح صاموئيلوف نفسه هو الذي يقوم بالاعتقالات. وقام الفلاح غريتسانكو خلال موكب كان يطوف إحدى قرى حكومة خاركوف، بتحطيم أيقونة وقورة للقديس: نيقولا بضربات من بلطته أمام كافة الأهالي. بهذا الشكل ظهرت كل أنواع الاحتجاج التي تحولت إلى أعمال.
وقد رسم أحد ضباط البحرية، الذي كان هو نفسه من الملاكين النبلاء في مذكراته المجهولة “ملاحظات حارس أبيض” لوحة معبرة عن تطور القرية في الأشهر الأولى التي تلت الانتفاضة. ففي كل المناصب “كان يتم انتخاب رجال من الأوساط البرجوازية. وكان اتجاه الجميع هو المحافظة على النظام فقط”. حقًا، كان الفلاحون يطالبون بالأرض، ولكنهم كانوا يطالبون بها دون استخدام العنف في الشهرين الأولين أو الأشهر الثلاثة الأولى. وعلى العكس، كنا كثيرًا ما نسمع الأقوال التالية: “نحن لا نريد أن ننهب، نريد أن نعالج الموضوع بصورة ودية” …إلخ، ومع ذلك فقد ميَّز الملازم في هذه التأكيدات المطمئنة “تهديدًا مستترًا”. والواقع، إذا كانت الطبقة الفلاحية لم تلجأ في الفترة الأولى إلى العنف “فقد أظهرت حذرها فورًا” تجاه ما يسمى بالقوى المثقفة. وبقيت حالة نصف التفرج الفكرية -حسب أقوال الحارس الأبيض- حتى مايو (آيار) ويونيو (حزيران). “ولوحظ بعد هذا تحول مفاجئ وظهور ميل إلى مناقشة توجيهات السلطات في المناطق، وتسوية الأمور بصفة تعسفية…” وبعبارات أخرى، كانت الطبقة الفلاحية قد تركت لثورة فبراير (شباط) مهلة ثلاثة أشهر لتنفيذ وعود الاشتراكيين – الثوريين. ثم بدأت بعد هذه المهلة بالمصادرات مستخدمة سلطتها.
وقد ذهب الجندي البلشفي تشينيونوف بعد الانتفاضة، مرتين من منزله في موسكو إلى حكومة أوريل. وكان الاشتراكيون – الثوريون يسيطرون على القسم حتى مايو (أيار). وكان فلاحو الموجيك يدفعون للملاكين أجرة الأراضي في عدد من المناطق. ونظم تشينينوف خلية بلشفية من الجنود والعمال الزراعيين والفلاحين الذين يفتقرون إلى الأراضي الزراعية. وكانت الخلية تحرض على الامتناع عن دفع الأجور، وتوزيع الأرض على من يفتقرون إليها. ودخلت مراعي الملاكين فورًا في الحساب ووزعت بين القرى، وحصدت “وكان الاشتراكيون – الثوريون الذين استقروا في لجنة القسم يصرخون بلا شرعية أعمالنا، بَيْد أنهم لم يرفضوا أخذ حصتهم من العلف”. ولما أخذ ممثلو القرى يستقيلون من وظائفهم، انتخب الفلاحون ممثلين آخرين أكثر تصميمًا. ولم يكن المنتخبون الجدد من البلاشفة دائمًا، بل على العكس.
وأحدث الفلاحون بضغطهم المباشر على الحزب الاشتراكي – الثوري انشقاقًا فيه وفصلوا العناصر التي يحدوها فكر ثوري عن الموظفين، ومحترفي العمل الحكومي. وبعد أن حصد الموجيك عشب الأسياد، استولوا على الأراضي البور وتقاسموها من أجل الزراعات الشتوية. وقررت الخلية البلشفية مصادرة الحبوب من أهراء الملاكين، وشحن احتياطي الحبوب إلى المركز الجائع. ونفذت قرارات الخلية لأنها تتفق مع الحالة الفكرية للفلاحين. وكان تشينينوف قد جلب معه إلى موطنه الأصلي مطبوعات بلشفية، لم يكن لدى الفلاحين قبل وصوله أية فكرة عنها. وأضاف تشينينوف قائلاً ما يلي: “وأشاع المثقفون الاشتراكيون – الثوريون في المنطقة أنني جلبت معي كثيرًا من الذهب الألماني، وأنني أرشو الفلاحين”، وسرت إشاعات مماثلة واتسعت إلى حد ما. فقد كان في كل قسم عدد من أنصار ميليوكوف وكرنسكي ولينين.
وفي حكومة سمولنسك، بدأ نفوذ الاشتراكيين – الثوريين يقوى بعد مؤتمر المنطقة الذي ضم مندوبي الفلاحين، هذا المؤتمر الذي تبنَّى تسليم الأرض للشعب. بحسب الحق والصواب. وتمسك الفلاحون بالقرار تمسكًا تامًا وبصورة جدية، متميزين في ذلك عن الزعماء. ومنذ ذلك الوقت، ازداد عدد الاشتراكيين – الثوريين في الأرياف. وروى أحد المناضلين المحليين قائلاً: “كان كل من حضر أي مؤتمر في جناح الاشتراكيين – الثوريين، يعتبر نفسه على الأقل اشتراكيًّا – ثوريًّا، أو أي شيء آخر من هذا القبيل…” وكان في حامية مركز الناحية فوجان تحت نفوذ الاشتراكيين – الثوريين. وبدأت اللجان الزراعية للأقسام بحرث أراضي الملاكين النبلاء، وحصد المراعي. وكان الاشتراكي – الثوري إيفيموف مفوض المنطقة يرسل الأوامر التهديدية بالعقاب. وكانت القرية حائرة ومندهشة: ألم يقل هذا المفوض ذاته في مؤتمر المنطقة أن الفلاحين يشكلون الآن السلطة ذاتها، وأن الوحيد الذي يستفيد من الأرض هو الذي يعمل فيها بنفسه؟ ولكن من الواجب أن نعتمد على الوقائع. وقد أحيل إلى القضاء في ناحية ألنينو وحدها 16 لجنة قسم زراعية من أصل 17 في خلال الأشهر التالية بجريمة الاستيلاء على أراضي الملاكين، وذلك بأمر من المفوض إيفيموف الاشتراكي – الثوري. وبهذا الشكل كانت تتحرك قصة الأنتليجنسيا الشعبية إلى نهايتها مع الشعب. ولم يكن في الناحية كلها أكثر من ثلاثة أو أربعة من البلاشفة. وكان نفوذهم يتضخم مع ذلك بسرعة ويقضي على الاشتراكيين – الثوريين أو يحدث الانشقاق بين صفوفهم.
وفي بداية مايو (آيار) انعقد المؤتمر الفلاحي لعموم روسيا في بتروغراد. وكانت الوفود إلى هذا المؤتمر تمثل القيادات، وتتسم في الغالب بطابع صُدفي. وإذا كان مؤتمر الفلاحين والجنود متخلفًا بلا ريب عن مسار الأحداث وعن التطور السياسي للجماهير، فمن العبث أن نقول كم كان تمثيل طبقة الفلاحين المبعثرة متخلفًا عن الحالة الفكرية للأرياف. فلقد تقدَّم المثقفون الشعبيون لليمين المتطرف كمندوبين عن الفلاحين، كما تقدم لتمثيلهم رجال مرتبطون بالفلاحين بواسطة التعاون التجاري أساسًا أو بذكريات الشباب. أما “الشعب” الحقيقي فقد مثَّله المزارعون الأغنياء، الكولاك، وأصحاب الحوانيت، والفلاحون التعاونيون. وكان الاشتراكيون – الثوريون يسيطرون على المؤتمر سيطرة كاملة، ويحملون طابع يمينهم المتطرف. ومع ذلك كان الاشتراكيون – الثوريون في بعض الأحيان يتوقفون، وقد تولاهم الذعر من الحرص المدهش على الأرض الذي سيطر على أعضاء المؤتمر، وفِكر المائة السود السياسي الذي كان واضحًا لدى بعض المندوبين. وقد اتخذ في المؤتمر موقف مشترك مغرق في راديكاليته إزاء الملكية الإقطاعية للنبلاء. فقد نصت المقررات المتخذة على الصيغة التالية: “تصبح كل الأراضي أملاكًا عامة بغرض استخدامها من قبل جمهرة العاملين فيها بصورة متساوية، دون أي شراء”. ومن الطبيعي أن لا يفهم الكولاك عملية التساوي إلا بمعنى مساواتهم بالملاكين النبلاء، لا بمعنى مساواتهم بالعمال الزراعيين. ومع ذلك لم يظهر هذا الخلاف الصغير بين الاشتراكية الشعبية الوهمية والديمقراطية الزراعية للموجيك إلا فيما بعد.
وكان تشيرنوف وزير الزراعة يتحرق شوقًا لتقديم هدية مفتخرة إلى مؤتمر الفلاحين. وكان يتجول بدون جدوى وبيده مشروع مرسوم يمنع بيع الأراضي. وجاء وزير العدل الاشتراكي – الثوري بيريفيرسيف خلال أيام انعقاد المؤتمر وأمر السلطات المحلية بأن لا تضع أية عقبة أمام عمليات بيع الأراضي. واحتج مندوبو الفلاحين على هذا الأمر وأثاروا بعض الصخب حوله. ولكن احتجاجهم لم يؤدِ إلى أية نتيجة؛ إذ لم تكن حكومة الأمير لفوف المؤقتة تقبل الاستيلاء على أراضي الملاكين النبلاء. ولم يكن الاشتراكيون يرغبون بالسيطرة على الحكومة المؤقتة. ومن جهة أخرى، كان تشكيل المؤتمر في ذلك الوقت يجعله عاجزًا، وأقل من عاجز عن إيجاد مخرج للتناقض بين شهية بعض أعضائه للأرض وفكرهم الرجعي.
وفي 20 مايو (أيار) تكلَّم لينين في مؤتمر الفلاحين. وقال سوخانوف معلقًا على حديثه في هذا المؤتمر: يبدو أن لينين سقط في بركة للتماسيح “ومع ذلك استمع إليه الموجيك بانتباه، وأحسوا نحوه على ما يبدو ببعض الود، دون أن يجرءوا على إظهار ودهم”، وحصلت النتيجة ذاتها في فرع الجنود، المعادي للبلاشفة إلى حد كبير. وحاول سوخانوف، تقليدًا للاشتراكيين – الثوريين والمناشفة، أن يعزو الروح الفوضوية التي ظهرت في ذلك الوقت للتكتيك اللينيني في المسألة الزراعية. ولا يبتعد رأي سوخانوف في هذا الموضوع عن رأي الأمير لفوف الذي كان ميَّالاً إلى اعتبار المؤامرات على حقوق الملاكين أعمالاً فوضوية. وتبعًا لهذا المنطق، لا فرق بين الثورة في مجملها وبين الفوضى. والحقيقة، أن الطريقة التي طرح فيها لينين المسألة الزراعية أعمق بكثير من وجهة نظر كل النقد الموجه إليها. وأكد لينين أن على سوفييتات مندوبي الفلاحين التي ينبغي أن تتبع لها اللجان الزراعية، أن تعمل كأجهزة للثورة الزراعية وكأدوات للقضاء على الملكية الإقطاعية للنبلاء في المقام الأول. وكانت السوفييتات في نظر لينين أجهزة سلطة الدولة القادمة المركزية إلى حد بعيد، أي أجهزة الديكتاتورية الثورية. وهذا الرأي على كل حال بعيد جدًا عن الفوضوية، أي نظرية وممارسة انعدام السلطة. وقد قال لينين في 28 إبريل (نيسان) ما يلي: “إننا ندعو إلى انتقال الأرض فورًا للفلاحين مع أكثر ما يمكن من التنظيم. ونحن نعارض معارضة تامة عمليات الاستيلاء الفوضوية”. لماذا لم نقبل انتظار انعقاد المجلس التأسيسي؟ “إن المهمة بالنسبة إلينا هو المبادرة الثورية التي ينبغي أن يكون القانون نتيجة لها. فإذا انتظرتم كتابة القانون. وإذا لم تنمُّوا أنتم بأنفسكم القوة الثورية، فإنكم لن تحصلوا على القانون، ولا على الأرض، أليست هذه الكلمات البسيطة لغة كل الثورات.
وبعد دورة دامت شهرًا، انتخب مؤتمر الفلاحين لجنة تنفيذية بصفة مؤسسة دائمة مؤلفة من 200 بورجوازي صغير ضخم الجثة من الأرياف ومن الشعبيين من النموذج اللائق بالأساتذة أو التجار وراء ستار من الشخصيات التزيينية مثل: بريشكوفسكايا، وتشايكوفسكي، وفيرافيغنر، وكرنسكي. وانتخب أفكسانتييف الاشتراكي – الثوري رئيسًا لهذه المؤسسة، مع أنه لم يخلق للحرب الفلاحية، بل خلق للولائم والمآدب الرسمية في المنطقة.
ومنذ ذلك الوقت، أصبحت أهم المسائل تناقش في جلسات مشتركة للجنتين التنفيذيتين: لجنة العمال والجنود، ولجنة الفلاحين. وقد عزز هذا الجمع الجناح اليميني إلى حد كبير، المدعوم من قبل الكاديت بصورة مباشرة. وفي كل المرات كانت المؤسسة الدائمة محتاجة فيها إلى الضغط على العمال، ومهاجمة البلاشفة وتهديد “جمهورية كرونشتادت المستقلة”، وكل المصائب التي يمكن تصورها، في كل المرات التي كانوا يحتاجون فيها إلى هذا كانت مئتا يد أو بصورة أدق كانت مئتا قبضة من قبضات (الكولاك)، وقبضات أعضاء اللجنة التنفيذية الفلاحية تنتصب كالجدار. وكان هؤلاء الناس متفقين تمام الاتفاق ليقولوا مع ميليوكوف إن من الواجب “القضاء” على البلاشفة. ولكنهم يملكون في مسألة أراضي النبلاء وجهات نظر الموجيك لا نظريات الليبراليين، وكان هذا الموقف يجعلهم على طرفي نقيض مع البرجوازية والحكومة المؤقتة.
وما أن انفرط عقد مؤتمر الفلاحين حتى بدأت الشكاوي تتقاطر. فقد أخذت قرارات المؤتمر على محمل الجد في المناطق. وتمت مصادرة أراضي الملاكين النبلاء وممتلكاتهم، وجردت وسجلت كنتيجة لهذه القرارات. وكان من المستحيل استحالة مطلقة إدخال فكرة الفرق بين القول والعمل في عقول الموجيك المعاندين.
وتراجع الاشتراكيون – الثوريون، الذين تولاهم الذعر مما حدث، عن القرارات التي صدرت. وفي بداية يونيو (حزيران) أدانوا بنوع من التفخيم كل عمليات الاستيلاء التعسفية على الأراضي في مؤتمرهم الذي انعقد بموسكو، وكان قرارهم كما يلي: كان من الواجب انتظار انعقاد المجلس التأسيسي. ولكن تبين فيما بعد أن هذا القرار ليس عاجزًا عن إيقاف عمليات الاستيلاء فحسب، بل أنه أضعف الحركة الزراعية أيضًا. وتعقدت المسألة أيضًا بصورة غريبة لأن هناك في الحزب الاشتراكي – الثوري ذاته عددًا لا بأس به من العناصر المستعدة للمسير مع الموجيك حتى النهاية ضد الملاكين، وبالإضافة إلى ذلك، كان هؤلاء الاشتراكيون – الثوريون يساعدون الموجيك على التلاعب بالقوانين، أو تفسيرها حسب هواهم، دون أن يجرءوا مع ذلك على قطع علاقتهم مع الحزب بصورة صريحة.
وفي حكومة قازان، حيث اتخذت الحركة الفلاحية امتدادًا عنيفًا بصورة خاصة، عزم الاشتراكيون – الثوريون اليساريون من تلقاء ذاتهم، وحزموا أمرهم قبل بقية المناطق الأخرى. وكان على رأسهم كاليغاييف، الذي أصبح في فترة تحالف البلاشفة مع الاشتراكيين – الثوريين اليساريين فيما بعد مفوض الشعب للزراعة في الحكومة السوفييتية. ومنذ منتصف مايو (أيار) بدأت في حكومة قازان عملية نقل مستمرة للأراضي وضعتها تحت تصرف لجان الأقسام. وطُبق هذا التدبير في ناحية سباسكي بصورة أكثر جرأة وأشد حزمًا من أي مكان آخر؛ حيث كان يترأس أحد البلاشفة التنظيمات الفلاحية. واشتكت سلطات العاصمة المحلية للسلطة المركزية من الفتنة الزراعية التي قادها البلاشفة، الآتون من كرونشتادت، كما تضمنت الشكوى أن البلاشفة أوقفوا بالإضافة إلى ذلك راهبة محترمة تسمى تامارا “لأنها اعترضت على هذه الأعمال”.
وبتاريخ 2 يونيو (حزيران) أعلم أحد مفوضي حكومة فورونيج بما يلي: “تتزايد حالات مخالفات القانون المختلفة والأعمال اللا شرعية في المنطقة من يوم إلى يوم، وفي الأراضي الزراعية بصورة خاصة”. واستمرت عمليات مصادرة الأراضي في حكومة بينزا بعناد وإصرار. واستولت إحدى لجان قسم حكومة كالوغا على نِصف أحد الأديرة. واتخذت اللجنة الزراعية في الناحية القرار التالي استنادًا إلى شكوى رئيس الدير: مصادرة كل العلف. وليس من المتواتر أن تكون السلطة العليا أكثر جذرية من السلطة الدنيا. واشتكت الكاهنة ماريا، من حكومة بينزا بسبب مصادرة ممتلكات الدير. وقالت: “إن السلطات المحلية عاجزة”، وفي حكومة فياتكا، فرض الفلاحون حراسة على ممتلكات أسرة سكوروبادسكي، عائلة زعيم القوزاق (الأتمان) المقبل في أوكرانيا، وأصدروا مرسومًا يقول: “بانتظار حل مسألة الملكية الزراعية”: عدم المساس بالغابة ودفع عائدات الأراضي إلى الخزينة.
وفي عدد من الأنحاء الأخرى، لم تخفض اللجان الزراعية أسعار استئجار الأراضي إلى الخُمس أو السُدس فحسب، بل قررت أن يتم دفع أجور الأراضي إلى اللجان بدلاً من أن يتم الدفع للملاكين، بانتظار حل هذه المسألة في المجلس التأسيسي؛ وهكذا ردوا على عدم تقرير أي شيء في الإصلاح الزراعي قبل انعقاد المجلس التأسيسي. ولكنهم لم يردوا كمحامين، بل كموجيك، أي أن ردهم كان جادًا إلى حد بعيد. وبدأ الفلاحون في حكومة ساراتوف بقطع أخشاب الغابات بأنفسهم مع أنهم كانوا يمنعون الملاكين بالأمس من قطعها. وأخذوا يستولون على مزيد من أراضي الكنائس والأديرة، وبخاصة حيث يندر الملاكون النبلاء. وشرع العمال الزراعيون الليتونيون في ليفونيا مع جنود الكتيبة الليتونية بمصادرة ممتلكات البارونات بصورة منهجية.
وعلا صراخ أصحاب مصانع نشر الأخشاب وقطعها في حكومة فيتبسك احتجاجًا على أن التدابير التي اتخذتها اللجان الزراعية تقضي على صناعة الخشب وتحول دون تلبية مطالب الجبهة واحتياجاتها. وأسف الوطنيون الملاكون في حكومة بولتافا، والذين لا يقلون تجردًا عن أصحاب المناشر، لأنهم لم يعودوا قادرين على تموين الجيش بسبب الاضطرابات الزراعية. وأخيرًا أعطى مؤتمر ملاكي حظائر تربية الخيول في موسكو إنذارًا بأن عمليات الاستيلاء التي يمارسها الفلاحون تهدد الإدارة الوطنية المكلفة بتزويد الجيش بالخيول بأسوأ المصائب. وفي هذا الوقت، تحرك رئيس مجلس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الذي كان يصف أعضاء الكنيسة المقدسة بأنهم “حمقى وأنذال”. وقدم إلى الحكومة شكوى مفادها أن الفلاحين في منطقة قازان لا يأخذون من الرهبان أرضهم فحسب، بل يأخذون دوابهم، والطحين الضروري أيضًا للخبز المقدس. وفي حكومة بتروغراد، وعلى خطوتين من العاصمة طرد الفلاحون وكيل زراعة إحدى الممتلكات الكبيرة، وبدءوا إدارة الأرض بأنفسهم. وأبرق الأمير الحذر أوروسوف بتاريخ 2 يونيو (حزيران) إلى كل الأنحاء يقول: “برغم تعليماتي …إلخ، أرجوكم من جديد اتخاذ أقسى التدابير”. ولكن الأمير نسي الإشارة إلى نوع التدابير التي يريد اتخاذها.
وفي حين كان العمل الجبَّار لنزع طابع القرون الوسطى والقنانة من جذورها ينمو ويتطور في كل أنحاء البلاد، وكان تشيرنوف وزير الزراعة يجمع في مكاتبه معلومات وإحصاءات بغية تقديمها للمجلس التأسيسي. وكان تشيرنوف ينوي أن لا يمر الإصلاح الزراعي إلا عبر أدق معطيات علم الإحصاء الزراعي والعلوم الأخرى، ولهذا كان ينصح الفلاحين بصوته العذب لانتظار نتائج تمارينه الحسابية. على أن هذا لم يمنع الملاكين على كل حال من عزل “وزير الفلاحين” قبل أن يملأ جداوله كلها.