من -عوع عوع- الى نبوخذنصّر -الانحطاط التاريخي-
سلام عبود
2018 / 7 / 13 - 14:12
لا أحد يجهل معنى كلمة انحطاط، ولا أحد يجهل معنى كلمة تاريخيّ أيضا. بيد أنّ تعبير "الانحطاط التاريخي" مفهومٌ غامض، لا يمنح نفسه بيسر من دون مثال حسيّ يجسّم المشهد ويمنحه معناه.
خطرت هذه الفكرة ببالي وأنا أشاهد حلقة من برنامج "ذا فويس". شاهدت واستمعت الى مشارك شاب، يملك صوتا جميلا، ويتمتع بأداء عال، ويُكمل مواهبه بعزف متمكن على آلة العود.
انشراح صدور وتأثر لجنة التحكيم كان ملحوظا بوضوح، حتّى أنّ إحدى المقيّمات كانت تتمايل راقصة مع انسياب الأغنية. لكنّ النتيجة جاءت معاكسة تماما لحالة الطرب والتفاعل التي تملـّكت لجنة التحكيم. فقد اتفق الحكـّام الأربعة على أمر واحد: إسقاط المتسابق بالضربة القاضية.
حتّى هنا ربّما يجد المرء عذرا ما لكلّ فرد من أفراد اللجنة. فالموضوع غير قابل للتأويل الكيديّ أو التحزّبيّ. فهو موقف لا صلة له بما يثير الشقاق والتعصب كالسياسة والدين والعرق والطائفة وغيرها. وهو السبب عينه الذي جعلني أختار الموضوع للتحليل والدراسة والتعميم.
بيد أنّ السّقطة الموجعة بدأت بعد انقضاء زمن التصويت، حينما أدار الأربعة كراسيّهم وواجهوا شابا أعمى يجلس أمامهم. بدا الشاب جامدا جمود تمثال، ويده تقبض على ريشة العود، وهو ينظر اليهم من خلف نظّاراته المعتمة، ووجهه يحمل خليطا مركـّبا من مشاعر لا يستطيع أبرع السحرة إدراك كنهها. من دون شكّ كانت الصّدمة واضحة، والحزن لا يُخفى، لكنّ ذلك لم يكن أبرز ما في تعابير الوجه والجسد. كان التعبير الأبرز شيئا يشبه الشّتيمة، أو البصقة المكبوتة.
( في وقت لاحق، عرفت، من مقابلة مع المغنّي العراقيّ نزار كاظم، أنـّه كان في تلك اللحظة يتمنـّى لو أنـّه اجتاز مرحلة الاختبار ووصل الى مرحلة العروض، لكي يُظهر للمشاهدين أصالة موهبته!)
لم تتوقف الصّدمة عند هذا الحدّ، فقد بدأ الحكـّام الأربعة يتبارون في المديح، ويثمـّنون عالياَ موهبة وصوت وأداء المتسابق السّاقط في الامتحان! الأنكى من ذلك أنّهم، الأربعة، توافقوا على ترديد تبرير الإقصاء ذاته، ولكن بلهجات عربيّة مختلفة: مجموعتي مكتملة. لم يعد لديّ مجال لاختيار صوت جديد.
في هذه اللحظة تساءلت مع نفسي: لماذا يستمرّ برنامج في استضافة وعرض متسابقين وهو لا يملك فرصاً كافية لقبولهم؟ ألا يعدّ هذا السلوك امتهانا لموهبة وكرامة المتسابق؟
لم يتوقف الأمر عند حدّ سحق الكرامة، فقد تسابق الحكـّام وراحوا يقودون الشاب الأعمى من يديه مودعينه بفيض من الحنان السّخيّ، والشجن العظيم، ربّما إمعانا في إذلاله.
كانوا كما لو أنّهم أرادوا التأكيد على أنـّهم مغنـّون مبصرون وهو مغنّ معاق!
هل يجوز القول إنـّنا أمّة فقدت حياءها!
أمام عشرات الملايين من المشاهدين يقف أربعة نجوم عرب مبصرون، من دون خجل، من دون مسؤولية، من دون وازع من ضمير يُبصر، ومن دون إحساس يرى، يقدّمون لشعوبهم هذا المثل المشين في فن الانحطاط الروحيّ والقيميّ.
كيف يسوّغ فنانٌ مبدع ورقيق لنفسه هذه القسوة إذا كان حرّاً؟ ومن يرغمه على ذلك إذا كان عبداً أو أجيراًً؟
انتهى المشهد والحكـّام المفعمون بالمشاعر الحسّاسة يحيطون بالشاب، ثمّ يقودونه الى باب الخروج؛ الخروج من صالة العرض، ومن المسابقة، ومن الحلم الذي جاء من أجله.
للحظة، خيـّل إليّ، أنـّني أرى مجموعة من حفـّاري القبور يقودون ميتاً الى لحده.
حينما يجترئ فنـّان يحظى بحبّ مشاهديه، أمام ملايين البشر، على ارتكاب مثل هذا المشهد الكريه والظالم واللاأخلاقيّ، فنحن - بيقين مطلق- قد بلغنا مرحلة الانحطاط التاريخيّ الناجزة.
لنتخيّل، للحظة واحدة، أنّ هؤلاء الحكـّام قضاةٌ في محكمة مدنيّة أو عسكريّة. أيّ نوع من الظلم الفاحش سينزلونه على رؤوس العباد، لو استخدوا المنطق ذاته: اكتملت مقاعد الأبرياء، لم يتبق للمشتكي سوى الذهاب الى مقاعد المحكومين بالإبعاد !
لنتوغـّل أبعد في الخيال! لنقل إنّ هؤلاء الحكـّام رؤساء حكومات عربيّة! كيف سيسوسون شعوبهم المغلوبة على أمرها، والى أين يقودونها؟
هذا ما خطر ببالي وأنا أشهد الصّدمة مرسومة على وجه نزار كاظم، وهو يكتم بصقة كبيرة تليق بالمشهد.
البصقة ذاتها، بصقة الاستهجان، عبّرت عنها ساجدة خير الله طلفاح، زوج صدام، يوما ما. حينما فرّ من بيت أمّه الولدُ المعنـّفُ من زوج أمّه، راعيّ الأغنام الكسير صدام حسين، والتجأ الى بيت خاله في تكريت. وقعت عينا ساجدة على الولد المشرّد فأشاحت بوجهها عنه، وهي تهمس: "عوع عوع"! ولم تكن تعني تقاطيع وجهه، بل حاله المزرية. تلك المقدمة الجارحة كانت أول لقاء عاطفي وأعمق أوالة ثأرية بين زوج وزوجة، لبثت تحفر عميقا في عقل ونفس صدام، حتّى أنـّه أرّخها في نصه (رجال ومدينة)، ولكن بتعابير مُلطـّفة.
مشاعر الضّغينة تعاضمت حينما انتقل الخال طلفاح الى بغداد. فقد أمر الخالُ صداما بأن يكون ملاكا "حاميا" يحرس خطوات ابنه المدلـّل عدنان. في أحد أحياء بغداد الشعبيّة، المعروف بشقاواته وضجيجه القوميّ، واجترائه على السلطات، أدّى الصبيّ، ثمّ المراهق صدام، دوره على أكمل وجه. وقد قادته مهنة "صبيّ الحماية" بيسر الى الشارع السّياسي المحتقن بالعنف، ثمّ الى القيادة السياسيّة بمعجزة لا تخطر ببال أو خيال. حدث ذلك إثر تغيّب أحد عناصر مجموعة اغتيال عبد الكريم قاسم لسبب مفاجئ. وهو الشّخص المكلـّف بمراقبة الشّارع الفرعيّ المحاذي للمنطقة المعروفة لاحقا بساحة الغريري. تمّ اختيار صدام على عجل بحكم الضرورة القاهرة، ولم يكن صدام عضوا بعد في حزب البعث، كما يؤكـّد هو شخصيّاً. هنا حدثت المعجزة. ينتقل صدام الى القاهرة باعتباره ثائرا قوميّا فذّاً، يحمل في ساقه رصاصة البطولة وبشارة القائد المرتقب.
حينما اغتنم البعث السّلطة عام 1963 لم يجدوا لصدام منصبا حزبيّا يليق به، على الرّغم من أنـّه عائد من كعبة العروبة، القاهرة، فتمّ تعيينه في اللجنة الفلاحيّة، نظرا لمواهبه الرعويّة.
لكنّ القائد صدام حسين لم يستطع نسيان "عوع عوع" ساجدة، ولا صدمة عدنان. ففي الوقت الذي كان صدام حاميا زقاقيّا لعدنان تمّ قبول عدنان في أرفع وألمع موقع شبابيّ في عراق الانقلابات، الكليّة العسكريّة، بينما اندفع صدام الى بلطجة الشارع السّياسي بديلا.
بهذه المشاعر حكم صدام العراق، كما حكم حكـّام "ذا فويس" على المتسابق نزار كاظم.
لذلك أيضا قرّر صدام أن يلبس البدلة العسكريّة، وأن يسيّر الجيوش باتجاه إيران، ثمّ باتجاه الكويت. تجييش الجيوش ضرب من المسابقات أيضا، ولكنّها مسابقات دمويّة، مسابقات موت أو حياة. وعلى الرغم من كبوات صدام المتكررة، أو لنقل الدائمة، فقد مارس كتـّاب بعثيّون مخلصون سلوكا قائما على الدّجل والتضليل الأعمى في علاقتهم بقائدهم المحبوب، فاسهموا في تعميق نزعة الحمق العسكريّ في شخصيّته. أعلى نعوت التقويم العسكريّ سكبوها في فمه بملاعق من ذهب النفاق. رئيس تحرير صحيفة (الزمان) فاتح عبد السلام أطنب في وصف "التـّفوق العسكريّ في سلوك القائد صدام"، بينما جعله الشّاعر والمرشح بالاجماع لرئاسة اتحاد الكتاب العرب حميد سعيد خبيرا نفسيّا في علم "انتحار الصواريخ"!
وللسبب عينه لم يكتف صدام بأمجاده العسكريّة، فقرر أن يضع اسمه على جدران مدينة بابل. فعله الأميّ والجاهل هذا جعل منظمة اليونيسيف تهمل طلب العراق بضم بابل الى لائحة التراث العالميّ. وللأمانة التاريخيّة نذكر هنا اسم من وقف ضد مشروع زقورات بابل، إبّان حقبة الجبهة اللاوطنيّة، الصحافيّ الشجاع شمران الياسريّ (أبو كاطع)، الذي أقصي فورا من العراق الى جيكوسلوفاكيا، ومات في المجر في حادث سير غامض!
كانت النتيجة واحدة، في الحرب والسلم: خسارات كارثيّة!!
حفر اسم صدام على جدران بابل قاد الى إخراج بابل العظيمة من قائمة التراث العالمي. وحرب إيران قادت الى حرب الكويت، وحرب الكويت قادت الى الحصار ثمّ الاحتلال. والاحتلال قاد الى فتح مصاريع جهنم على أمّة العرب كلـّها.
هذا هو ما يعرف بالانحطاط التاريخيّ. أي الانتقال من "عوع عوع" الى تقمّص شخصيّة نبوخذنصّر بضربة حظّ! ومن رفض متسابق الى إغراقه في المديح الكاذب الوقح، ثمّ إخراجه من منصة السّباق محمولا على نعش الشـّفقة الرّخيصة!
الأمرُ واحدٌ: انحطاط تاريخيّ يُمارس بزهو وعظمة، من دون اعتذار، من دون اعتراف بالخطأ، من دون احترام لمشاعر ملايين البشر.
حكـّام كثيرون، حكـّام في السياسة وفي الفن والثقافة والدين والعبادات، يخفون تحت أحكامهم أطنانا من الانكسارات والمعوّقات الأخلاقيّة والنفسيّة القهريّة. انكسارات شخصيّة وفرديّة في ظاهرها، لكنـّها، بمجموعها، تصنع الانكسار الوطنيّ والقوميّ الشامل.
هذا ما أعنيه بـ "الانحطاط التاريخي".
إنـّه سلوك أمّة في عصر الانحطاط.