مديح الصادق
الحوار المتمدن-العدد: 5927 - 2018 / 7 / 8 - 12:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا أدري ما الذي أحضر هذه الحكاية إلى ذهني هذه الليلة، في مدينة صغيرة تابعة لإقليم
الجبل الغربي في ليبيا، حيث وقعت إحدى كليات جامعة الجبل الغربي المتناثرة في مدن
عدة، حسب رغبة الأهالي هناك، نلتقي - نحن الأساتذة المغتربين، ومنهم العراقيون - في
دائرة البريد التي هي غرفة صغيرة تتوسطها منضدة حديدية عليها جهاز الهاتف،
يجاورها كرسي حديدي لجلوس من يطلب نداء للاتصال الهاتفي، خلفها ينتصب الحاج
(بلقاسم) وهو رجل كبير السن، بصير، لا يسمح لأحد أن ينقر أرقام الهاتف بدلا منه؛
ويعتبر ذاك إهانة لمكانته بسبب وضعه، يحب العراقيين (ويهدرز) معهم (يتحدث) في
أمور شتى، أغلبها عن وضع الحصار في العراق آنذاك، وعن هجرة الكفاءات العراقية
إلى شتى بقاع العالم طلبا للعيش الكريم، أو هربا من سطوة النظام، ومنها ليبيا، وكان
يتنبَّأ بأن يجري للشعب الليبي يوما ما كما جرى للعراقيين، ويكرِّر قوله: من يدري ربما
نُضطر لّلجوء إليكم؟.
الجو بارد جدا في الشتاء بمنطقة الجبل الغربي، الحاج (بلقاسم) يضع مدفأة من صنع
يدوي تحت قدميه أسفل الطاولة الحديدية، (بلوكة) من الإسمنت محفورة وفيها سلك
كهربائي ملفوف لتحويل الكهرباء إلى طاقة حرارية - الكهرباء هناك في كثير من
الدوائر والبيوت تؤخذ من الرئيسي مباشرة دون أن تمرَّ على المقياس - السلك الموصل
ملقى على الأرضية، المفاجأة كانت عندما انحنيت لالتقاط مسبحتي التي وقعت على
الأرض لفت انتباهي أن السلك الكهربائي الموصل للمدفأة كان منزوع الغلاف من
جهة قريبة على الطاولة الحديدية، والكهرباء عالية الفولتية، ذاك يعني أن أي تماس
يسبب موت كل من كان حول الطاولة، لم أتمالك أعصابي، وصرخت: ماهذا يا حاج
بلقاسم، أجابني ببرود: خير يا أستاذ، شرحت له الموقف بعصبية بالغة، ضحك ضحكة
طويلة، أعقبها بقوله: "وحِّد الله يارجل، الله غالب، كل واحد يموت بيومه". لم أجادله
يومها، فهناك خطَّان أحمران لا يمكن تجاوزهما، الدين، والسياسة، وعائلتي تحتاج تجديد
عقدي كل عام.
لقد قفزت هذه الحكاية إلى ذهني اليوم وأنا أراقب من خلال الفضائيات، ووسائل الإعلام،
ماجرى لشعبنا العراقي منذ الاحتلال الأمريكي البغيض حتى الساعة، حيث استبدل طاغية
مُستبدّ بآلاف الطغاة المُستبِّدين، الذين أشاعوا الفساد والخراب والجرائم ودمار الاقتصاد
والتعليم والصحة، وهجَّروا سكانه الأصليين وكل الباحثين عن الأمن والاستقرار، باسم
الدين والقومية والشعارات الوطنية البراقة، وليس لهم من هذا سوى كاذب الشعارات،
فراودني هذا السؤال: أهو مكتوب علينا - كما يرى الحاج (بلقاسم) له طيب الذكر - أن
يتسلط على رقابنا هؤلاء الأوباش بحكم القدَر المحتوم؟ أم أن القدَر قد تغير مفهومه وبات
يعني ما تريد أمريكا، والجيران؟، أم أن للشعب صولة ليست في الحسبان؟
ليُفتنا من يجيد في هذا الباب فنَّ الإفتاء، وله منا وفير الشكر.
#مديح_الصادق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟