|
حياتي و 11 سبتمبر - الفصل الرابع و الأخير
سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر
(Sohel Bahjat)
الحوار المتمدن-العدد: 1487 - 2006 / 3 / 12 - 11:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم ندري آنذاك أن تطورات إقليمية و دولية ستبقي على صدام و نظامه في السلطة ، و أن إيران "النظام الراديكالي الذي دخل حربا طاحنة مع صدام" سيتسبب في الإبقاء على هذا النظام و بشكل أقرب إلى الجنون ، بينما كان شيعة العراق مخدوعين ـ و لا زال كثير منهم إلى الآن ـ بشعارات التشيع الكاذبة التي يرفعها هذا النظام الدكتاتوري الإرهابي ، و طبعا كنت من هؤلاء المخدوعين ، كانت هزيمة صدام في الكويت فرصة حقيقية للعراقيين للانتفاض ضد النظام الذي أذاقهم المر ، و أول إشارة سمعناها عن الانتفاضة أن دبابة عراقية في أقصى الجنوب أطلقت قذيفة على صورة كبيرة للطاغية صدام ، و حدثت انتفاضة مماثلة في الشمال الكردي أيضا ، لكنها كانت أقل حدة من الجنوب خصوصا و أن الأكراد يتعاطفون مع النظام من الناحية الطائفية الدينية ـ فهم بأغلبيتهم سنيون ـ لذلك وجد كثير من البعثيين أنفسهم بين أناس يحمونهم في الشمال العراقي عند انتفاضته ، لكن صدام "الذي يعتبر نفسه إلها لن يغفر لهم انتفاضتهم ضده" ، و كنا آنذاك في طريق العودة إلى الموصل ، حيث نسكن ."24" سمعنا بعد عودتنا أن النظام على وشك الانهيار و أن هناك إشاعات مفادها أن صدام على وشك الهرب ، أدارت إيران ظهرها للشيعة و دفعت البعض من الشيعة أن يهتفوا ضد أمريكا و إسرائيل مما أثار مخاوف الغرب فتغير القرار في آخر لحظة حيث قررت الولايات المتحدة أن الانتفاضة العراقية "شأن داخلي" ، فسالت الدماء في الشمال و الجنوب ، لكن الأكراد و لحسن حظهم لاذوا بجبالهم و بالتالي التفت العالم إلى هربهم الجماعي ، أما أهل الجنوب فقد وقعوا ضحية السياسات الإيرانية و حماقات قياداتهم الفاشلة . كانت فترة مخيفة حقا ، فقد قلقنا على أقاربنا الذين فروا إلى الجبال و كانت الحكومة تعتقل الأكراد في الموصل و تزج بهم في السجن ، أخذ بعض أقاربنا بالهرب إلى منزلنا ، كان هناك أكثر من عشرة شبان قلقين و خائفين لا يدرون ما المصير الذي ينتظرهم ، أما أبي فقد قام بخطة جريئة ، فبينما كان الأكراد يختبئون هنا و هناك هربا من المجاميع الأمنية التي أخذت تجوب الشوارع و تداهم البيوت بحثا عمن تعتقلهم ، أخذ أبي يتردد على المقاهي أو يجوب الأسواق و هكذا نجا من الاعتقال حيث لم يشك به أحد ، قرر أخوالي أن يهربوا إلى الشمال البعيد إلى الحدود التركية و معسكر اللاجئين حيث عاش الناس أحلك و أصعب الأوقات ، و كانت تلك حقا سنوات مــليئة بالأحزان و المآسي ، و في الأشهر التالية التي شهد فيها العراق مذابح و جرائم رهيبة في أيام سحق الانتفاضة الشعبية ، شهدت الموصل جرائم بشعة قتل فيها حتى أطفال صغار ، و كنا ندرك أن الحكومة و عملائها هم من يقوم بمثل هذه الجرائم بهدف إرهاب الناس ."25" أخيرا قام الحلفاء بخلق منطقة آمنة للأكراد في الشمال ، و طوال العام 1992 م دخلت في نقاش طويل مع أبي و أمي حول الانتقال إلى هذه المنطقة الآمنة ، حيث لا يوجد البعثيون ، و لم أعلم آنذاك أن هذه المنطقة ستعيش دكتاتورية شبيهة بحكم صدام ، أخيرا و بعد صعوبات كثيرة استطعنا أن نهرب إلى المنطقة الشمالية و بعد أن بعنا ما نملك من أثاث و تجهيزات منزلية بأقل الأسعار و بعت كل ما أملك من كتب و بثمنها اشتريت لنا في الشمال كمية من النفط تكفي لشهر واحد من أشهر الشتاء الطويل ، كانت المنطقة الشمالية محكومة من قبل الأحزاب الكردية ، و لا أنكر أن المنطقة شهدت مدة قصيرة من "الديمقراطية" و لكن يبدو أن الفترة الديمقراطية هذه لم تكن إلا فترة الاستعداد لحكم الدكتاتورين "جلال و مسعود البارزاني" و الحرب الأهلية الكردية ـ الكردية ، و الذي زاد من الطين بلة تزايد نشاط التطرف الإسلامي و سأحدثكم كيف تقاطرت الأحزاب على منزلنا في محاولة لكسبي إلى جانبها . من الطبيعي أن إنسانا "منعزلا" عن العالم ، من الصعب عليه أن يدرك طبيعة مجتمع متخلف و قائم على النظام العشائري و القبلي و العلاقات الشديدة التعقيد بين تنظيمات سياسية متخلفة تنتمي إلى هذا المجتمع ، سارع الإسلاميون و أنصار "البارزاني" إلى زيارة منزلنا و كل واحد منهم يحاول كسبي إلى جانبه ، بل إن محافظ مدينة دهوك "عبد العزيز طيب" زارنا شخصيا و مردفا بالحماية المسلحة و عدد من المسئولين و الصحفيين ، و لأني و عائلتي لا نملك التلفزيون بل و حتى التيار الكهربائي ، فقد أخبرني البعض أنهم شاهدوني على شاشة التلفاز ، قام المحافظ بمساعدتنا و لكن بقيت مشاكلنا معلقة و من دون حل ، و أعتقد أنهم تعمدوا تركها معلقة لكي نبقى في حاجة إليهم ، أما الإسلاميون فقد أثار غيظهم أنني كنت أنتقد و بشكل مستمر ثقافتهم السطحية و التقليدية ، رغم أني أيضا كنت لا أزال في مرحلة التحولات ، قررت أن لا أكون عبدا ، لذلك فحتى عند إقامتي أكثر من معرض فني للحزب الحاكم إلا أنهم أدركوا أنني فعلت ذلك تحت ظروف قاهرة ، حيث بالكاد كنا نحصل على وجبة طعام لا تكاد تسد الرمق ، و راح وعيي السياسي يتسع لأكتشف أن الدكتاتور واحد ، سواء كان اسمه "صدام" أو أي اسم آخر . "26" كانت تلك السنوات تمتاز بشيئين ، فقد حصلت على شيء من الحرية ، و الفضل في ذلك طبعا عائد إلى الولايات المتحدة و التحالف الغربي الذي كان يقوم بحماية هذه المنطقة ، و استطعت أيضا أن أدرس و أقرأ كتبا لم أكن أحلم حتى بقراءتها ، لكن الجانب "العاطفي" من شخصيتي بقي يعاني من فراغ إلى الآن ، نحن الشرقيون "المسلمون على الأخص" متخلّفون في هذا الجانب ، فالحب و الصداقة و الزواج هو شيء متوفر للميسورين و الأغنياء فقط ، كما أنه من المستغرب في الشرق أن تبدي رغبتك كمعوق بالزواج فذلك سيثير الضحك و السخرية ، لقد أحببت فتاة في حياتي ، و لن أنكر ذلك ، لكنني منذ سنوات طويلة تخليت عن الأفكار الرومانسية و لم أعد أصدق بشيء من ذلك ، كما أني أصبحت أفقد مشاعري كإنسان شيئا فشيئا و أدرك الآن أن هناك شتاء قاسيا قد حل في قلبي ، لكن لا بأس سأواصل طريقي رغم كل الصعوبات و رغم تنامي الشعور بالوحدة و وحشة الطريق خصوصا و أنت تواجه "الدكتاتورية" بكل بشاعتها و إجرامها و المجتمع بكل ما فيه من خرافات و أباطيل . اكتشفت أن المجتمع الكردي "قبيح" حاله حال المجتمع العراقي المتخلف ، إنه مجتمع يؤمن بالقيم العشائرية و القبلية و مفاهيمه عن "الأخلاق" و "الشرف" و "العفـّة" هي مجرد شعارات تخفي أخلاقا و طبعا قبيحا و دفاع المجتمع الكاذب و المتطرف ، تناقض و تجافي حتى أكثر المذاهب "الإسلامية" تطرفا و تعصبا ، لذلك كان التدين المتطرف يجد لنفسه مكانا وسط هذا المجتمع البدائي و القاسي ، و فعلا نشبت حرب أهلية "كردية ـ كردية" استمرت لسنوات ، و كان المواطن العادي "الفقير" هو من يدفع الثمن بمعاناته و تدهور الأوضاع و فقدان الخدمات ، و أذكر أنني ـ ككثير من المواطنين ـ و عائلتي ، قضينا سنوات من المعاناة من بــرد و حــر ، حاولت أن أقضي وقتي في شيء مفيد و أن لا أترك الدكتاتورية تنتصر علي بأن يذهب عمري سدىً و هباءً ، فقرأت عشرة مجلدات من "تاريخ الطبري ـ و هو كتاب ضخم قديم في تاريخ الإسلام" و قرأت "قصّة الحــضارة ـ للكاتب الرائع ول ديورانت" و الذي يقع في عشرين مجلدا ، و قرأت أيضا سبعة عشرة مجلدا من "دائرة المعارف الإسلامية" و هو كتاب رائع من تأليف مجموعة كبيرة من المستشرقين العباقرة ، درست أيضا كتبا كثيرة حول "الإرهاب و العنف في الإسلام" و كيف أن هذا الإرهاب ليس أمرا طارئا بل هو في عمق "الخلافات الدينية" و أن أول شخصية كبرى تعرضت "للذبح" و "الإبادة" مع عائلته و أنصاره هو الحسين بن علي ، حفيد النبي محمد ، و أدركت حينها أننا لا يمكن لنا أن نقضي على التدين "الإرهابي" من دون تدين آخر يقف بالضد منه ."27" إن الحياة التي أعيشها أصبحت غير ذات معنى ، إذ وجدت نفسي سجين "الشلل" و "المجتمع" و "السلطة" ، أشعر أنني آخذ في خسارة المشاعر ، فعندما تصبح الحياة ألما متواصلا و لا يكون هناك ما هو سعيد أو جميل أو سبب للأمل ، تأخذ الإنسان برودة و ذوبان في "العدم" و اللا وجود ، بحيث لم يعد عندي من فرق بين "الحيــاة أو المــوت" ، لأن الحياة التي عشتها لم تكن سوى آلاما و حرمانا و سجنا و فقرا و خوفا و رعبا ، بينما هناك "قلّة" تتمتع بالحياة و تحصل على ما تشاء و تسافر حيث تريد ، كل شيء لهم ، الفتيات الجميلات و البيوت "القصور" المرفهة و السيارات الفاخرة و ملايين الدولارات ، ترى إذا كنت ، أيها القارئ العزيز ، تعيش وضعا كهذا فكيف سيكون طعم "الحــياة"!! هل خُلق "سهيل" و "محمد" ليحرما من كل شيء ؟!! من الصحة و الغنى و الدراسة و أن يكونا ككل الناس المطمئنين ، أعتقد أن المسألة ليست موضوع "قدر إلهي" و أن المشيئة الإلهية أرادت لنا ذلك ، بل المسألة هو قرار إنساني بحت و لا علاقة للسماء أو المشيئة الإلهية بكل ما يحصل من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان . ذات يوم و في 11 سبتمبر 2001 م و الساعة تشير إلى ما بعد الخامسة عصرا بتوقيت العراق المحلي و بينما أنا أقلب في القنوات التلفزيونية ، ذهلت لرؤية مشهد جعلني أندهش و أتساءل : ما هذا البناء الذي يحترق ؟! مكتوب على الشاشة "نيويورك ـ الولايات المتحدة" !! هل هذا فلم ؟! و فجأة رأينا طائرة أخرى تصطدم بالبناء الثاني و الناس في المكان يصرخون مستغربين مثلنا ، و أدركنا أن الولايات المتحدة تتعرض إلى هجوم ، حقا إنه خليق بالأمريكيين قبل غيرهم أن لا ينسوا هذه الجريمة البشعة ، و لا زلت أذكر كيف كان مشهد ذلك الرجل الذي رمى بنفسه من المبنى مؤلما ، شتمت "بن لادن" و أنصاره بأقبح الألفاظ فقد كانت تلك الجريمة تنم عن كل ما هو دنيء و قبيح و غدر ، لكن هذه الجريمة جعلت الولايات المتحدة تقرر تغيير سياستها و أن هناك عدوا جديدا للحضــارة اسمه "الإسلام الإرهــابي" القائم على الكراهية و مشاريع الموت و الخراب ، و لكن منذ جريمة "11 سبتمبر" و تحرير الولايات المتحدة و التحالف الغربي للعراق و أفغانستان و أنا متفائل بأن هناك مستقبلا جميلا ينتظرنا رغم بلوغي منتصف الثلاثينات من العمر ، لقد غيرت أحداث سبتمبر الكثير من القناعات و السياسات و المناهج ، إنها بالأحرى "أرمــاجدون ـ المعركة الأخير بين الخــير و الشر" و نحن لا زلنا نعيش فقط بدايات هذا الصراع المصيري الذي بانتهائه يحق لكل مؤمن أن يعلن قرب ظهور المخلص الذي يؤمن به ، البوذيون و "بــوذا المنتظر" و اليــهود و "المسيح المنتظر" و المسيحيون و "المسيح يسوع الناصري المنتظر" و المسلمون ـ الشيعة ـ و "المسيح و المهدي المنتظران" في آخر الزمــان . E-mail: [email protected] Website: http://www.sohel-writer.i8.com
#سهيل_أحمد_بهجت (هاشتاغ)
Sohel_Bahjat#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حياتي و 11 سبتمبر - الفصل الثالث
-
حياتي و 11 من سبتمبر
-
حياتي و 11 من سبتمبر
-
القلم -يذبح- أحيانا..!!
-
كوميديا -العقل العراقي-!!
-
كاريكاتير العالم -الإسلامي-!!
-
هل أصبح -العراقيون- غرباء في بلدهم ؟!!
-
ترشيح الجعفري .. خطوة ديمقراطية -
-
وزارة التقوى و تبديد المال العراقي
-
حكومة جديدة !! أم حديقة -عشائر-؟!!.
-
من يعاقب العالم -الظلامي-!!
-
كاتب قومجي و موقع طائفي !!
-
محاكمة -صدام- تحت المجهر..
-
ماذا سيحدث .. لو انتصر -الإرهاب-؟!!.
-
أوهام السيد قادر .. من صنعها !!
-
ماذا يريد -الرئيس-!! .. الطالباني ؟!!
-
مهزلة العقل الإيراني
-
ماذا بعد .. الانتخابات !!
-
الأمة العراقية .. المشروع الحقيقي للبناء
-
طريق الحُرية .. من العراق إلى لبنان
المزيد.....
-
جيم كاري في جزء ثالث من -سونيك القنفذ-.. هل عاد من أجل المال
...
-
الجولاني: نعمل على تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية.. وأمريكا
...
-
فلسطينيون اختفوا قسريا بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مناز
...
-
سوريا: البشير يتعهد احترام حقوق الجميع وحزب البعث يعلق نشاطه
...
-
مصادر عبرية: إصابة 4 إسرائيليين جراء إطلاق نار على حافلة بال
...
-
جيش بلا ردع.. إسرائيل تدمر ترسانة سوريا
-
قوات كييف تقصف جمهورية دونيتسك بـ 57 مقذوفا خلال 24 ساعة
-
البنتاغون: نرحب بتصريحات زعيم المعارضة السورية بشأن الأسلحة
...
-
مارين لوبان تتصدر استطلاعا للرأي كأبرز مرشحة لرئاسة فرنسا
-
-الجولاني- يؤكد أنه سيحل قوات الأمن التابعة لنظام بشار الأسد
...
المزيد.....
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
المزيد.....
|