|
( النخبة -- الاحزاب ) في المغرب لا تعيش السياسة ، لكنها تتعيّشُ منها
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 5820 - 2018 / 3 / 19 - 20:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يؤثر عن المفكر السوسيولوجي الألماني المعروف ماكس فيبر تمييزه بين من يعيشون السياسة ، ومن يتعيّشون منها . الفئة الأولى هم أصحاب السياسة العقائدية والأيديولوجية ، وكبار رجالات الدولة ، أولئك الذين ولجوا ميدان السياسة ايمانا بفكرة ، او دفاعا عن حق ، او خدمة لمبدأ او عقيدة ، او نصرة لمثال سياسي او أخلاقي او ديني او غيره . ان نموذج هؤلاء الكبار، كبار الساسة المعروفين في التاريخ البشري وفي التاريخ المغربي ، والذين كان كل همهم ، وهدف حياتهم كلها نصرة المبدأ وخدمته ، للوصول الى استراتيجية المشروع العام الذي راود العقلاء ، والحكماء ، والفلاسفة ، والمناضلين الجذريين ، أي الدولة الديمقراطية . مقابل هؤلاء الصناديد العقائديين المتحللين من أطماع السلطة ومغرياتها ، والذين لا يهمهم الاثراء غير المشروع وفي ظرف قياسي بسبب السرعة مع الزمن ، هناك فئة ( السياسيين ) التقنيين او الاحترافيين رواد السياسة السياسوية السكيزوفرنيين ، وجه خادع للمريدين وليس للشعب الذي فاق بهم ، ووجه انبطاحي للنظام الذي لا يتردد في تطعيمهم واطعامهم من بعض فتاة مائدته الدسمة من أموال الشعب ، أولئك الذين دخلوا السياسة بحثا عن جاه او مال او نفوذ ، ليس همهم الأول تحقيق مبدأ او تجسيم فكرة مثالية ، بل " تسيير " الأمور ، وتحقيق الذات ، والاستمتاع بنشوة السلطة ، والإستلذاذ بحكم الآخرين ، والاستمتاع بالخيرات والمكاسب والممتلكات . هؤلاء يعتبرون الشأن السياسي العام بمثابة " غنيمة " عليهم ان يأخذوا نصيبهم منها قبل فوات الأوان . إذا كانت اخلاقيات السياسيين الكاريزميين ، وقد انقرضوا من المغرب ، الصدق والمثالية والإخلاص للوطن ، والتفاني في خدمة الشعب المغلوب على امره ، على افتراض وجود هذا الصنف من الكائنات ، فإن اخلاقيات ساسة المهنة ، الكذب ، والتحايل ، والتكيف ، والدهاء ، واللعب على الوقت . لكن هناك صنف ثالث من الكائنات السياسية ، وهو ( الساسة ) المخضرمون ، أي اللذين وفّقوا بين النموذجين الأول والثاني . هؤلاء يرفعون شعارات مثالية ، كالعدالة ، والمساواة ،والتقدم ، بيَدٍ ويمارسون الاختلاس باليد الأخرى ، ويبدو ان هذا الصنف الثالث اكثر أنواع الكائنات السياسية انتشارا ، وذلك تحت تأثير عاملين ، أولهما طغيان الروح التجارية التسويقية على كافة مجالات الحياة في المجتمع ، بما في ذلك مجال القيم والثقافة والسياسة ، وثانيهما توسع دائرة العمل السياسي في المجتمع عبر ما يسمى تجاوزا ب ( الديمقراطية ) المرتبطة بالأشخاص ، كالديمقراطية الحسنية ، والديمقراطية المحمدية . فالديمقراطية التي طالما عقدت عليها اجمل الآمال ، تحولت الى كرنفال كبير تتحكم فيه الرساميل ، ووسائل الاعلام المؤدى عنها ، والاقلام المأجورة ، وشبكات المصالح الخاصة ( القبيلة ) ، والقصر من خلال وزارة الداخلية ، وكرنفال يقدم نفسه على شكل مشهد متسلسل ، يوجهه النظام ومخرجون متخصصون يوظفهم لذلك بأعلى الأجور ، لخداع الشعب والجماهير، واجتذابهم لهذه البضاعة الفاسدة والمغشوشة السياسية او تلك ، وفي صناعة رأي عام فوتوشوب ، كرنفال ادواته اللون ، والديكور ، والضوء ، والصوت ، والماكياج ، تجند فيه كل حيل وألاعيب المسرح والسينما لخداع الجمهور . وتلك هي الأرضية الاجتماعية التي يفرخ فيها هذا الصنف من الساسة السياسويين او ذئاب السياسة على شاكلة الذئاب الملتحية التي جسدت بامتياز الصنف الثالث من عيّنات العمل السياسي والسياسوي . ان السياسي السياسوي ، المحترف ،الشيطان ،الوصولي ،الإنتهازي ، وكما ابدع مكيافيلي في وصف طرائق عمله الخبيثة ، هو الشخص الذي يعتبر كل الوسائل مبررة في سبيل الوصول الى الغاية الغريزية الحيوانية ، سواء كانت أخلاقية او غير أخلاقية ، مشروعة او غير مشروعة ، سلمية او عنيفة ، عقلانية او لا عقلانية ...لخ ، المهم لديه النتائج والمكاسب . اما القيم السامية ، والاخلاقيات النبيلة ، فهذه لا تعدو ان تكون ديكوراً يراعى في كيفية تقديمها الى الجمهور المُبلّد فقط أكثر مما هي غاية في ذاتها . اما فصيلة ساسة المبدأ والعقيدة ، التي تزدهر عادة مع صعود منظومة أيديولوجية او عقائدية ما ، فقد بدا انها آخذة في الانقراض تدريجيا ان لم نقل انها اليوم انقرضت بالكامل في بلادنا . ولعل آخر فصيلة لهذه الأيديولوجيات الطوباوية الدهرية قد مثلتها الماركسية اللينينية قبل خسوفها . وحيث ان الليبرالية هي النظام السياسي والاجتماعي الأكثر ملاءمة لطبيعة الانسان ككائن بشري أناني ذي حاجات ، فان انتصارها قد وطد الطريق لانتشار أوسع لهذا النوع من الحيوانات السياسية . ان " المثال " و " المبدأ " الذي يحفز هذا الصنف من السياسيين هو الكسب والمصلحة الفردية قبل كل شيء وبعد كل شيء . ولعل لغة السياسة اليوم تعكس هذا التحول في ماهية السياسة والسياسي ، حيث لم يعد الحديث السياسي حديثا عن المصالح والمكاسب والموازنة والمداخيل والمصاريف ، بل لقد اصبح السياسي الناجح هو الخبير في الاستراتيجية والتكتيك والمناورات وعقد التحالفات الظرفية ، او كما قال جان جاك روسو الذي لمح لهذا التحول في طبيعة السياسة والسياسي مع استهلال العصور الحديثة ، فان " قدامى السياسيين يتحدثون باستمرار عن العادات الحسنة ، وعن الفضيلة ، في حين لا يتحدث سياسوينا سوى عن التجارة والمال " . ولا شك في ان تقدم العلوم الإنسانية ، علم الاجتماع السياسي ، والعلوم السياسية ، وعلم السياسة ، بما تحمله من روح نقدية وتفكيكية اسهم في الكشف عن الخلفيات والمرتكزات المصلحية ، الاجتماعية والنفسية للكثير من الادعاءات المثالية عند بعض رجال السياسة واقطاب الأيديولوجية ، بالكشف عن الدوافع اللاشعورية او عن الدوافع الاقتصادية التي تكمن وراء سلوكياتهم الحيوانية المفترسة . كما ان الروح البراغماتية المنبثة في ثنايا المجتمع المغربي المريض الذي تهب عليه رياح الحداثة الرأسمالية المشوهة والمعطوبة ، تجعل الادعاءات المثالية والطوباوية للساسة والايديولوجيين دعاوى غير قابلة للتصديق ، وكأنها تنتمي الى عصر آخر . ان عصر المعصومين والاتقياء والمستقيمين الاطهار ، ربما قد ولى والى غير رجعة ، تحت تأثير انتشار روح الكسب والاستهلاك والانتفاع التي تزكيها العلاقات الرأسمالية المشوهة التي تحوّل كل شيء الى أداة لذلك . وبوعي حدْسي ، وبخلاف المجتمع المغربي المريض ، تلجأ المجتمعات المعاصرة المتقدمة الى تأطير نفسها بالقوانين ، والمؤسسات ، وبالضوابط الإجرائية من كل نوع ، لتحد من استبداد وطغيان ذو النفوذ المافيوزيين من الساسة السياسويين ، ومن ميلهم لابتلاع الخيرات والمؤسسات لصالحهم الخاص ، وربما كان هذا هو جوهر ما يسمى اليوم بدولة القانون التي تحاول احداث التوازن اللازم ، والحد من غلواء وشطط اللوبيات والافراد ، وكأنها تعرف جيدا ان المجال العام مهدد باستمرار بمن يتعيّشون من السياسة ولا يعيشونها كسياسيين محترمين ، مدعين انهم يعيشون له ومن اجله . ففرق بين دولة المؤسسات الدولة المدنية ، وبين دولة العشيرة او القبيلة التي فيها كل شيء مخدوم وملغوم . في مجموعة الدول الأولى ، نجد النخبة ، والأحزاب ، والحاكمين والمحكومين يعيشون السياسة ، اما في دولة الامارة او الامامة او العشيرة او القبيلة ، فان ( النخبة والأحزاب ) والحاكمين والمحكومين يتعيّشون من السياسة . ففرق كبير بين ان تعيش السياسة وبين ان تتعيّش من السياسة .
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شهر ابريل القادم دورة قد تكون استثنائية لمجلس الامن حول قضية
...
-
الخطاب البتريركي الباتريمونيالي -- خطاب النظام -- ( 12 )
-
الديمقراطية مطلب الجماهير ام مطلب النخبة
-
الشعار السياسي المرحلي
-
الخطاب العنصري / القبلي / الطائفي كعائق لتبلور وبروز فكر طبق
...
-
المقاومة وجيش التحرير كعائق لبروز وعي طبقي / اجتماعي جماهيري
...
-
الوعي الوطني كعائق للوعي الطبقي / الاجتماعي ( 9 )
-
الإتحاد الأوربي يعترف بالجمهورية الصحراوية . اللّهمّ لا شمات
...
-
في دولة تجمع مواصفات وصفات البتريركية ، الباتريمونيالية ، ال
...
-
سبع سنوات مرت على حركة 20 فبراير
-
الركود وراء سراب الاغتناء السريع غير المشروع -- الحركية المج
...
-
الإنتهازية والوصولية وثقافة التقاليد البالية الممزوجة بثقافة
...
-
دائما محاولة لتشخيص اسباب انعدام بروز وعي / اجتماعي / طبقي ج
...
-
عوامل حالت وتحول دون بروز وعي اجتماعي / طبقي جماهيري شعبي --
...
-
ما هي معوقات بروز وعي اجتماعي / طبقي شعبي جماهيري بالمغرب ؟
...
-
وعي جماهيري شعبي اجتماعي امْ وعي طبقي ؟ ( 2 )
-
صراع طبقي ام صراع اجتماعي ( 1 )
-
المثقف الثوري والوعي الطبقي
-
طلقات في عزّ الليل
-
الملكية البرلمانية . سؤال : ايُّ ملكية نريد ؟
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|