من ثقافة التلبيس.. وهم الحقيقة المطلقة
مولود مدي
2018 / 2 / 24 - 22:57
تأثير مفهوم النسبية الذي قلب نظرتنا على العالم لم يعد يقتصر على ميدان الفيزياء, بل امتدّ الى سائر الميادين العلمية و الحياة عموما.. و يجدر بالكثير أن يفهموا أن موضوع " نسبية الحقيقة " المثير للاهتمام ليس وليد البارحة, بل يعود الى عصر أفلاطون و أرسطو .. اذن ماهي الحقيقة ؟ و ما الفرق بين ما يطلق عليه " الحقيقة المطلقة " و بين " الحقيقة النسبية " ؟.
في عهد أرسطو و أفلاطون, كانت الحقيقة تعبّر عن حكم قضيّة معيّنة, و الحكم هو عندما تقول مثلا أن هذا الشيء أسود, و أن هذا الانسان شرير.. اعتبر الفلاسفة أن كلّما ازداد التطابق بين المعرفة و موضوعها كانت الحقيقة مطلقة, و قد تبنّى الفلاسفة المسلمون هذا الرأي و نجد منهم الحكيم ابن سينا الذي قال عن الحقيقة أنها تمثّل " التطابق بين ما في الأذهان و بين ما في الأعيان ( الحواس ) ).
جاء نيتشه, و ساهم في توسيع مفهوم الحقيقة, و نيتشه معروف للجميع بأرائه و أفكاره التي لا تخلوا من التشاؤمية, فقال عن الحقيقة أنها عبارة عن " أوهام و أخطاء مفيدة تخدم تيّار الحياة " كما أنها من الزاوية المعرفية هي مجرد منظور يعكس موقع و زاوية بل و ارادة صاحبه, و بما أن نيتشه اعتبر أن الحياة عبارة عن صراع بين طرفين, طرف يمثّل رؤية و أخلاق السادة, و طرف يمثّل رؤية و أخلاق المستضعفين, أصبحت الحقيقة مرتبطة بلعبة القوى و منظورات الصراع, و من هنا جاء الموقف البراغماتي ( النفعي ) الذي يقول أن الحقيقة هي حقيقة لأنها مفيدة و نافعة.
و بطبيعة الحال هناك من رفض موقف أرسطو و ابن سينا و نيتشه معا, و هو اتجاه الفيلسوف " هيدجر " الذي ربط بين الحرية و الحقيقة, فالحقيقة عنده ليس في عدم التناقض المنطقي و انما الحقيقة هي في ترك الأشياء على ذاتها, ترك الأشياء تكشف عن نفسها من دون اكراه و الزام.
الكثير يعتبر عندما نقول أن الحقيقة هي نسبية و تختلف من شخص الى أخر أن هذا الادعاء هو سفسطة و كلام فارغ, فلا يمكن أن يختلف البعض على أنه مثلا الجزء أصغر من الكل, أو يعارض مجموع زوايا مثلث يساوي قائمتين بحجّة نسبية الحقيقة.. ما يجب أن نتّفق عليه هو أن الحقيقة تمثّل طريقة تفسيرنا للواقع, و الواقع نستقرأه بالحواس, و بما أن حواسنا قاصرة, فاستقرائنا للواقع سيكون تلقائيا ناقصا, و هذا سيؤدي باختلاف الأشخاص الى اختلاف التفسيرات, لكن متى يكون تفسيرنا للواقع أقرب الى الصّحة ؟ ذلك عندما يطابق التفسير الواقع.
وقد يسأل القارئ قائلا, اذا أنت متأكد أنه ليس هناك حقيقة مطلقة تماما بينما توجد فقط الحقيقة النسبية, أليس طرحك هذا هي حقيقة مطلقة بحد ذاته ؟!. و اقول ان الحقيقة ليست واحدة, فهناك الحقيقة التي مكنّتنا من تجربتها و هناك التي لا يمكن أن نجرّبها, يعني أن هناك بالتحديد ما يسمّى بالحقيقة التجريبية و الحقيقة العقلية, فما الفرق بينهما ؟.
الحقيقة التجريبية موضوعها هو الواقع النسبي المتغير. وبما أن معيار الصدق فيها تطابق الفكر مع ذاته ومع الواقع كانت نتائجها نسبية متغيرة, كأن تقول أن كل البشر فانون لأن حواسنا ترى بالفعل أن البشر يموتون و لم نسمع بأن هناك بشر خالد لا يموت.
أما الحقيقة العقلية فهي غير قابلة للتجربة, كالمعتقد الديني مثلا, و هي أفكار لا يهمّها التناقض مع الواقع الخارجي, بل التناقض عندها هو في عدم اتساق مقدّماتها مع نتائجها أي أنها تعتمد على المنطق الصوري لا على المنطق التجريبي, و بما أن المنطق الصوري هو منطق البديهيات, فلكل شخص بديهياته و ثوابته التي يبني عليها تفكيره, و هذا ما يجعلها نسبية.. فحين يدافع الانسان عن عقيدة من عقائده المذهبية, يظن انه انما يريد بذلك وجه الله أو حب الحقيقة, و ما دري أنه بهذا يخدع نفسه. انه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ فيها. وهو لو كان قد نشأ في بيئة أخرى لوجدناه يؤمن بعقائد تلك البيئة من غير تردد ثم يظن أنه يسعى وراء الحق و الحقيقة. و لهذا أغلب أتباع الأديان لا يبحثون عن الباطل داخل دياناتهم و انما دائما ما تتوجه أنظارهم الى معتقدات الاخر. و هذا هو داء الأديان المتنازعة دائما, و انا لا ألوم أحدا على هذا, لكن ألوم من يحاول الدفاع عن ايمانه بفكرة أو معتقد بتوجيه النظر الى الأخر عوض مناقشته متوهّما أن ذلك قد ينجيه من نقد خرّافاته و أفكاره, فالاسلام يثبت بالاسلام, و ليس بالالحاد أو المسيحية, و الفيزياء تثبت بالفيزياء و هكذا, يعني أن الشيء يثبت بذاته و ليس بغيره.
يمكن تشبيه اليوم الحقيقة بالهرم ذي الأوجه المتعدد. فالمفكر " المقيّد اجتماعيا " يركز نظره عادة في وجه واحد من الحقيقة و يهمل الأوجه الأخرى. انه مربوط في مكانه بسلاسل قوية من التقاليد و المفاهيم المألوفة. و هو لذلك لا يستطيع التحرك يمينا أو يسارا الا ضمن حد محدود. أما المتحرر فهو القادر على الحركة قليلا أو كثيرا. يعني أن الانسان يزداد اقترابه من الحقيقة الوسطى و يزداد وسطية و اعتدالا عندما يطّلع على جميع وجهات النظر من زاوية مختلفة.
فما هو المطلق في حياتنا اذن ؟! أليس 1+1= 2 هي قضية مطلقة ؟ و أقول أن حتى هذه القضية هي نسبية نفسها فالحاسوب لا يرى أن 1+1 = 2, لأننا نحن البشر اتّفقنا على مدلول " 1 " و " 2 " أما الحاسوب فيرى أن 1+1=10 عنده, لأنه مبرمج على أن يعمل على النظام الثنائي, بينما عقولنا نحن برمجت لتعمل على النظام العشري.
ومع ذلك لا يزال هناك من يرى أن الحق المطلق عنده, و يلوم الناس على طريقة تفكيرهم و هذا من دون شك من أتباع المنطق القديم الذي كان يجرى وراء الحقيقة الكاملة التي لا يشوبها نقض رغم اقتناعه بأن البشر ليسوا مثاليين.. فان مثله الذي يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل التغيير و النقد كمثل من يظن أن بالسيف و الرمح و غيرهما من أسلحة الحروب القديمة سيفتح العالم رغم علمه بأنه يعيش في عصر أصبح مكان هذه الأسلحة في المتاحف التي يزورها الناس و يضحكون عليها لبساطتها.. لقد دلّت التجارب الكثيرة أن الجدل المنطقي الذي يستخدمه رجال الدين عبارة عن لغو و عبث لا نفع يرجى منه لأن هدف ذلك الجدل ليس موضوعي و ليس المرغوب منه الوصول الى الحقيقة, لأنه من النادر أن تجد انسانا اقتنع برأي خصمه أحيانا حتى و لو كانت الأدلة واضحة. بل الاقتناع لا يحدث الا بعوامل نفسية و اجتماعية.
ولم يخطئ عالم الاجتماع " علي الوردي " عندما شبّه من يصرّون على استخدام نفس المنطق القديم في التفكير بأولئك الأبطال, من طراز عنترة العبسي, الذين يهجمون بالسيف على جندي حديث يحمل بيده رشاشا سريع الطلقات. فمهما تفننوا في ابداء ضروب البسالة و الشجاعة و مهما تفنّنوا في سلق العدو بحدّ لسانهم و أشبعوه شتما و هجاء فان الرشاش سيحصدهم في النهاية في ظرف ثواني معدودة حيث لا تنفعهم لا بسالة و لا حماسة و لا فصاحة لسان!.