لماذا انهارت الاشتراكية ؟
مولود مدي
2018 / 1 / 28 - 01:33
عند اقتراب نهاية الاتحاد السوفياتي, أعلن فرانسيس فوكوياما انتصار الليبرالية الديمقراطية أمام الاشتراكية و اقتصادها المخطّط عام 1989 في كتابه ( نهاية التاريخ ), الأن أصبح الاتحاد السوفياتي لا يتواجد الا في كتب التاريخ, فالدول التي كانت تشكّل المعسكر الشرقي الاشتراكي اما هي الأن أعضاء في الاتحاد الأوروبي أو تترنح باقتصادها المنهار كـفنزويلا و كوبا.. باستثناء الصين التي تعيش هذه الأيّام أزهى أيامها اقتصاديا و أصبحت تشكّل خطرا كبيرا على الولايات المتّحدة رغم أن الصين لا تزال تحت ظل حكم الحزب الواحد.
لكن السؤال المطروح هو لماذا انهارت الاشتراكية ككل ؟ هل المشكلة هي في الفكر الاشتراكي أم أن التطبيق السيء غير الموفّق هو سبب انهيارها ؟.
معظم أنصار الفكر الاشتراكي لا يزالون يصرّون على أن التطبيق الخاطئ هو السبب, و هذا يعني أن ستالين و تونغ و شافيز هم سبب فشلها. لنلقي نظرة كيف تم ادارة الاتحاد السوفياتي في ظل الفكر الاشتراكي لنعرف أن المشكلة ليست في ستالين أو لينين و لا في الترويكا بل في الفكر نفسه.
بعد الاستيلاء على الحكم في ثورة أكتوبر عام 1917, و خروج روسيا من الحرب العالمية الأولي باتفاقية بريست ليتوفيسك المذلّة, عقد الشيوعيين السوفيات العزم على بناء دولة اشتراكية و التي ستسحق الرأسمالية الاستغلالية التي ألقت بالشعب الروسي الى المجزرة العظمة. التخطيط المركزي في ميدان الاقتصاد و العلوم سيحل محل ما سمّوه بـ "فوضى السوق", كما أن وسائل الانتاج ستنتقل الى البروليتاريا., وسيتم القضاء على الملكية الفردية تماما. الاقتصاد العادل الذي سيتم بناءه سينهي الرجل الرأسمالي الاستغلالي و سيعوّضه الفرد الاشتراكي, الذي سيقدّم مصالح المجتمع على مصالحه, كما أن ديكتاتورية البروليتاريا ستضمن الحفاظ على مصالح الطبقة العاملة.
استكملت قواعد بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بحلول عام 1930, المتزامنة مع فترة حكم جوزيف ستالين. و بمكتبه السياسي لحزبه الشيوعي, وجّه كل الاهتمام و كل برامجه و أولوياته نحو الاقتصاد. فعمل الوزراء و المخطّطين على رسم الخطط الاقتصادية, و في المقابل تم اجبار المصانع, و المزراع و كل القطاعات و العمّال ككل على تطبيق الخطط بحذافيرها و تسليم المشاريع في أجالها المحدّدة.
لا يجب أن ننسى أن في حين كان الاتحاد السوفياتي منشغلا بمشاريعه الضخمة التنموية, كانت الرأسمالية في أوروبا الغربية و الولايات المتّحدة تعيش أسوء أيامها منذ يوم الخميس الأسود عام 1929 و الذي حدثت فيه أكبر موجه كساد في التاريخ, فبدأت المصانع تغلق بالمئات في فترة قصيرة, و بدأت معدّلات البطالة تبلغ مستويات مذهلة, و يكفي فقط أن نلقي نظرة على حال ألمانيا – كانت تسمّى جمهورية فايمر أنذاك - البائس لنعرف أن قيمة عملة المارك أصبحت من دون معنى, الى حد أن اصبح المواطن الألماني يشتري رغيف الخبز بقيمة مليار مارك.
استطاع الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة يتمتع بنسب نمو اقتصادية عالية غير مسبوقة على الاطلاق, فكان خبراء الشأن الاقتصادي أنذاك يعتبرون الاقتصاد السوفياتي هو اقتصاد المستقبل, بينما كانت أوروبا ترسل للعالم رسالة مفادها أن الغرب سينهار عاجلا أم اجلا.
لكن على الرغم من ظروف أوروبا الغربية الرأسمالية السّيئة, كان هناك من يدرس الاقتصاد الاشتراكي و أهمّهم الاقتصادي " لودفيغ فون ميزس" الذي توقّع انهيار الاقتصاد المخطّط الذي يقوم عليه الاتحاد السوفياتي بمجموعة من البحوث ابتداء من عام 1920 و التي انتقدت فكرة أن التكنوقراط الخبراء يمكنهم إدارة الاقتصاد بطريقة أفضل من قوى السوق العفوية. و بيّن استحالة صمود الاشتراكية أمام الانقلاب الصناعي في أوروبا و أمريكا و الذي يحمل سيلا من ملايين المشاريع و المنتجات التي يستحيل على هيئة ادارية معالجتها كلّها. كما أن الاقتصادات الحديثة معقدة للغاية بحيث لا يمكن التخطيط لها دون تكنولوجيا الكمبيوتر الأكثر تطورا. وبدون الأسواق والأسعار، فإن صناع القرار لن يعرفوا ما هو شحيح وما هو وفير في السوق. و اذا كانت الاشتراكية تعتمد على مبدأ " لكل على حسب حاجته " فكيف سنعرف بالضبط حاجات الفرد و هل الحاجة هي شيء كمّي يمكن قياسه لنعرفه ؟.
ثم أن التخطيط المركزي الذي كان عيبا في حدّ ذاته, ازداد عبئا بسبب البيروقراطية الزائدة كما يجب أن نشير أن المخطّطات كانت عبارة عن " مسودّات " يمكن أن يغيرها في أي وقت مسؤولون حكوميون و قيادات الحزب الشيوعي. وكان هذا التدخل المستمر، المسمى "الوصاية الصغيرة"، موجودا من أول يوم إلى آخر يوم من النظام السوفياتي. و بسبب السياسات السوفياتية الديكتاتورية التي ترفض كل أشكال المعارضة كانت الخطط الاقتصادية و مناقشاتها تتم على حسب رؤية المخطّطين و فيما بينهم فقط.
وفي ظل التخطيط ، كان على العرض أن يتساوى تقريبا مع الطلب، ونظرا لعدم استيائهم من الفوضى في الأسواق، لم يتمكن المخططون السوفياتيين من تحقيق توازن بين العرض والطلب من خلال رفع الأسعار وخفضها. وبدلا من ذلك، قاموا بتجميع " الأغلفة المالية " باستخدام تقنيات محاسبة البدائية لمقارنة ما هي المواد الموجودة في متناول اليد مع ما كانت هناك حاجة, كما أن حجم هذه الأغلفة المخصّصة كان محدودا بالمقارنة مع ما كان يحتاج اليه السوق.
. وقد عانى النظام الاقتصادي السوفياتي من أمراض و أكبرها التي أدت الى هلاكه هو الافلاس ولأن أن النظام السوفياتي كان يقوم على خطط الانتاج إذا فشلت خطط الإنتاج على نطاق واسع، فإن الخطة بأكملها ستفشل. كما أنه لم يكن لدى الاتحاد السوفياتي قرار واضح من اعلان نجاح الخطّة أو فشلها لأن المخططون السوفيات لجأوا إلى عرف باسم "التخطيط من المستوى الذي تم تحقيقه"، مما يعني أن خطة كل عام تنطلق من العام الذي سبقه بالإضافة إلى بعض التعديلات الطفيفة.
و لا يجب أن ننسى أن الجمود استحكم في الاتّحاد السوفياتي بسبب السياسة الاشتراكية, لقد وجد الاقتصاديون الأمريكيون الذين كانوا يدرسون الإنتاج الصناعي السوفيتي في الخمسينيات من القرن الماضي أن الآلات نفسها كانت تنتج على مدى عقود دون تعديل، أي أنه كان هناك اهمال كبير للتكنولوجيا الحديثة و عدم ادماجها في السياسات الاقتصادية و اغفال ما يسمّى بـ " الذكاء الصناعي " في دول الغرب الذي استفادت منه كثيرا في عمليات الانتاج .
و يبدوا أن غورباتشيف الذي يلعنه الاشتراكيون دوما لأنه قضى على الاشتراكية تناسوا بأنه كان عازما على إنقاذ الاشتراكية السوفياتية من خلال جعلها أشبه بالرأسمالية بما سمّي بـ " البروسترويكا و الغلاسنوست ". وبقيامه بذلك، خلق اقتصاد لم يكن مخططا ولا سوقا يعني أنه خلق فوضى في روسيا و ليس اصلاحا كما روّج له.