ثورة أكتوبر وتحرر النساء
رضا الظاهر
2018 / 1 / 14 - 02:17
ننطلق، كماركسيين، من حقيقة أن اضطهاد المرأة، ونحن نعيش في مجتمع بطرياركي متخلف ومنغلق، هو اضطهاد اجتماعي. وبالتالي فان تحرير النساء لا يتم الا عبر تحرير المجتمع والعكس صحيح.
ومن نافل القول إن الثقافة السائدة تكرس اضطهاد المرأة والتمييز ضدها. وتخشى قوى هذه الثقافة، أساساً، صوتين: صوت المرأة وصوت المثقف. فاذا ارتفع هذان الصوتان فسيشكلان تهديداً للثقافة السائدة ونظامها وسدنتها.
تحاول هذه المداخلة اضاءة ثلاثة محاور في قضية تحرير النساء: كيف تنظر الماركسية الى قضية المرأة ؟ وما الذي فعلته ثورة أكتوبر من أجل تحرير المرأة ؟ والمرأة في الاسلام الحقيقي.
نظرة ماركسية الى قضية المرأة
دافعت الماركسية منذ البداية عن تحرر المرأة. وجادل ماركس وانجلز بأن الطبقة الحاكمة تضطهد النساء في المجتمع وداخل الأسرة. وأوردا في(البيان الشيوعي) أنه "لا يرى البرجوازي زوجته الا باعتبارها أداة انتاج .. ولا يساوره أي شك في أن هدف الشيوعيين الحقيقي المقصود هو الغاء وضع النساء كمجرد أدوات انتاج".
وبسبب من انشغالات ماركس لم تتوفر له الفرصة المناسبة لاضاءة الدور الحقيقي لعمل المرأة المنزلي في كتابه (رأس المال). غير أنه بعد وفاته استخدم انجلز يعض ملاحظاته الاثنولوجية لتأليف كتابه الهام (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة). وفيه قدم تحليلاً عميقاً لقضية اضطهاد المرأة باعتباره نتاجاً لصعود المجتمع الطبقي.
والحق أنه يتعين الانتباه بدقة إلى الاهتمام الشديد الذي جسده إنجلز في (أصل العائلة ...) بالجوانب الشخصية لاضطهاد النساء داخل الأسرة، بما في ذلك الإذلال الشديد الذي تعاني منه النساء على أيدي أزواجهن، واشارته الهامة
الى أن الاغتصاب والعنف ضد النساء متأصل في الأسرة منذ بدايتها:
“أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضاً. وحرمت الزوجة من مركزها المشرف، وغدت عبدة لرغبات زوجها الجنسية، ومجرد أداة للانجاب .. ومن أجل ضمان إخلاصها، وبالتالي ضمان أبوة الأطفال، فإن الزوجة تخضع لسلطة زوجها دون قيد أو شرط. واذا ما قتلها، فهو لا يفعل غير أن يمارس حقه.”
وقد لاحظ إنجلز أنه مع تطور الزواج الأحادي نما تسليع الجنس على شكل بغاء. وقال إنه "مع ظهور التفاوت في الملكية بدأ العمل المأجور بالبروز هنا وهناك، كما أخذ احتراف البغاء بواسطة النساء الحرّات يظهر، في الوقت نفسه، الى جانب إكراه الإماء على ممارسة الجنس مع الرجال". وتكشف هذه الحقيقة عن المدى الذي تحول فيه التسليع الجنسي الى صناعة تحقق أرباحاً خيالية في القرن العشرين وحتى الان. وبات هذا التسليع سمة أساسية من سمات اضطهاد النساء في ظل النظام الرأسمالي المعاصر.
ومن الأهمية بمكان أن قضية تحرير المرأة لم يتم تناولها نظرياً، في سياق التقليد الماركسي، على أنها شأن يخص النساء فقط، وانما كقضية لكل الثوريين، نساء ورجالاً.
فقد أشار لينين الى اضطهاد المرأة داخل الأسرة باعتباره "عبودية منزلية". وقال تروتسكي إنه "من أجل تغيير شروط الحياة، علينا أن نشاهدها من خلال أعين النساء".
وكشفت الماركسية التناقض بين عمل المرأة وواجباتها الأسرية، وهو مصدر رئيسي لمعاناة جميع الأمهات العاملات. وهذا يرتبط بجذر اضطهاد المرأة والصعوبات التي ينطوي عليها تحقيق المساواة بين الجنسين داخل الأسرة وفي العمل الاجتماعي كشرط لا غنى عنه لتحرير المرأة.
وأكد لينين إن غاية الوعي الثوري تتجلى في استعداد العمال للدفاع عن مصالح كل المضطهدين في المجتمع. ويتسم هذا الاستنتاج بأهمية فائقة لا في خوض الصراع الطبقي حسب، وانما، أيضاً، في الكفاح ضد كل أشكال القمع. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، أن النظام الرأسمالي الاستغلالي، الذي يكشف عن حقيقة أن التقسيم الطبقي هو التقسيم الرئيسي للمجتمع، يستخدم أشكالاً محددة من القمع تؤثر لا على العمال حسب، وانما على الناس من جميع الطبقات.
ومما يلفت الانتباه أن بعض الماركسيين يتمسكون بالنظرة التقليدية فلا يقدرون الانجازات الهائلة التي حققتها الحركة النسوية في مراحلها وتياراتها المختلفة. ويستهينون بشأن اضطهاد المرأة من جانب رجال في الطبقة العاملة، وهي الطبقة التي لديها مصلحة موضوعية في تحرير المرأة من عبودية رأس المال.
ومما له دلالة عميقة أن نتذكر هنا أحاديث لينين البليغة مع الثورة الألمانية كلارا زيتكن عام 1920، اذ قال/ من بين أمور أخرى: "هل هناك أي دليل ملموس أكثر (على القمع المستمر للمرأة) من المشهد الشائع لرجل يراقب بهدوء امرأة تفني نفسها في عمل تافه، رتيب، يستنزف الوقت والجهد، مثل الأعمال المنزلية، يراقب روحها تتآكل، ذهنها يزداد قتامة، تخفت نبضات قلبها، وتفتر إرادتها؟ … عدد قليل جداً من الأزواج، ليسوا حتى البروليتاريين، يفكرون بما يمكن من تخفيف أعباء وهموم زوجاتهم، أو تحقيق الراحة لهن، لو مدوا يد العون في “أعمال النساء”. لكن لا .. فهذا من شأنه الحط من “تميز وكرامة الزوج”. انه يطلب أن يتمتع بالراحة والسكينة …
علينا اقتلاع وجهة نظر مالك العبيد القديم، سواء في الحزب أو بين الجماهير. هذه واحدة من مهامنا السياسية، إنها مهمة ضرورية على وجه السرعة بما يوازي تشكيل فريق عمل مؤلف من الرفاق، الرجال والنساء، مع تدريب نظري وعملي شامل لعمل الحزب بين النساء العاملات".
ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن ألكساندرا كولونتاي، الثورية البارزة والمنظرة اللامعة في قضية اضطهاد المرأة، دعت، في المؤتمر الأول لنقابات العمال في عموم روسيا عام 1917، رجال الطبقة العاملة لدعم المساواة في الأجر للنساء العاملات. ومما قالته في خطابها إن "العامل الواعي طبقياً يجب أن يفهم أن قيمة عمل الذكور تعتمد على قيمة عمل الإناث، وأنه من خلال التهديد بإحلال العاملات النساء محل العمال الذكور مقابل أجور أقل، يمكن للرأسمالي أن يخفض أجور الرجال. إن سوء الفهم، وحده، يمكن أن يؤدي بالمرء الى أن ينظر لهذه المسألة باعتبارها قضية المرأة حسب".
ومن ناحية أخرى فاننا، كماركسيين، لا نماثل بين تيارات وأجنحة الحركة النسوية. ويتعين علينا التمييز بينها. فاذا كانت نساء الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى يعانين من القهر والاضطهاد، وهوأمر قائم في الواقع، فان هذا لا يعني ضرورة الثقة بكل توجهاتهن، ولكنه لا يعني، في الوقت ذاته، الانعزال عن هذا التيار المؤثر في الحركة النسوية باعتباره تياراً "برجوازيا".
ومن باب أولى فان علينا أن نقيم بموضوعية تيار الحركة النسوية الذي ظهر في أواخر ستينات القرن الماضي، وظل يمارس، على مدى عقود من الزمن، تأثيره الكبير في الحركة النسوية، وكانت له انجازات مميزة على الصعيدين الفكري والثقافي، على الرغم من أنه لم يكن يميز بين رجال الطبقة العاملة، والمثقفين التقدميين التنويريين، ورجال الطبقة الحاكمة، اذ وضع الجميع في سلة نظام بطرياركي يضطهد المرأة، فحول الصراع ذا الطبيعة الاجتماعية الى صراع بين أجناس.أما التيار الذي قدم أبرز وأنضج مساهمة في تحليل قضية اضطهاد النساء على أساس طبقي فهو تيار النسويات الماركسيات. فهناك الكثير والكثير من الأبحاث والدراسات الشاملة في هذا الميدان. ونجد في مساهمات الباحثة النسوية الأميركية البارزة شارون سميث، وخصوصاً كتابها الهام الموسوم (المرأة والاشتراكية: مقالات عن تحرير المرأة) الكثير مما يضيء التقليد الماركسي في قضية اضطهاد النساء (هناك، بالطبع، العشرات من المفكرات والكاتبات الماركسيات اللامعات في هذه القضية، وبينهن، على سبيل المثال لا الحصر، البريطانية ميشيل باريت في كتابها (اضطهاد النساء اليوم)، والأميركية ليز فوغل في كتابها (الماركسية واضطهاد النساء)، والأميركية نائومي وولف في كتابها (النار بالنار)، والأميركية مارثا جيمينيز في كتابها (الرأسمالية واضطهاد النساء: مقاربة ماركسية) ...). وهؤلاء الباحثات الماركسيات (والملايين من المكافحات من أجل تحرر النساء) يذكّرننا بأن الماركسية ماتزال حية، والأمل مايزال مضيئاً.
لكن كيف تنظر الماركسيات الى التناقض الظاهري المتمثل في أن نساء جميع الطبقات مضطهدات في ظل النظام الرأسمالي، في حين أن هؤلاء النساء تقسمهن تباينات طبقية أيضاً ؟
لابد من العودة الى تحليل ماركس الذي اعتمدت عليه منظرات "إعادة الإنتاج الاجتماعي"، ذلك أنه لو ألغيت الوظيفة الاقتصادية لأسر الطبقة العاملة، وهي التي تعتبر جوهرية في إعادة إنتاج قوة العمل للنظام الرأسمالي، وفي الوقت نفسه، في تكوين الجذور الاجتماعية لاضطهاد جميع النساء، سيصبح الأساس المادي لتحرر النساء ممكناً عندئذ. غير أن هذه النتيجة لا يمكن تحقيقها الا عبر القضاء الكامل على النظام الرأسمالي، واستبداله بمجتمع اشتراكي يضفي طابعاً اجتماعياً على العمل المنزلي المسند سابقاً إلى النساء.
ومن الطبيعي أنه لا يمكن اختزال اضطهاد المرأة في المجتمعات الطبقية إلى تحليل اقتصادي محض، ذلك أن هذ الاضطهاد الاجتماعي يصبح بلا معنى دون تحليلٍ ماركسي للأسرة. وتستذكر شارون سميث عبارة إنجلز الهامة التي يقول فيها إن "نظام الأسرة هو الذي يخلق العذراء، وبائعة الهوى، والمواد الإباحية، واضطهاد النساء».
وترى ليز فوغل أنه "طالما بقي المجتمع تحت هيمنة نمط الانتاج الرأسمالي، والتناقض بين العمل المأجور والعمل المنزلي فان توسيع نطاق الديمقراطية، بغض النظر عن مدى ذلك الاتساع، لا يمكن له أبداً إلغاء الاستغلال الرأسمالي، ولا يمكنه، بالتالي، تحرير المرأة". وتؤكد أن التحويل الاشتراكي للمجتمع "بإمكانه تقويض أسس اضطهاد المرأة داخل الأسر المفردة وفي المجتمع ككل، وأن توسيع نطاق الديمقراطية، وجذب النساء إلى الإنتاج العام، والتحويل التدريجي للعمل المنزلي خلال فترة الانتقال للاشتراكية، جميع هذه الأمور ستفتح الإمكانيات لما سمّاه ماركس تكويناً أعلى للأسرة والعلاقات بين الجنسين".
ما الذي فعلته ثورة أكتوبر؟
في كانون الثاني 2017 ذكر تقرير لمنظمة أوكسفام الدولية بأن أغنى ثمانية أشخاص في العالم يملكون قدر ما يملك أفقر 3.6 مليار شخص – أي نصف سكان كوكب الأرض.
وفي المملكة المتحدة، التي تعد واحدة من أغنى الدول في العالم، تشير التوقعات الرسمية الى أن العامل المتوسط سيتقاضى في عام 2021 أجراً أقل مما كان يجنيه في عام 2008.
وهذا دليل آخر على أزمة الرأسمالية العميقة وفشلها في تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية للغالبية العظمى من سكان العالم. أما لامساواتها الاقتصادية فتتكامل مع مستقبل الكوكب برمته في خطر داهم، سواء بالكوارث الطبيعية أو الحروب.
وأما ثورة أكتوبر 1917 فهي وحدها التي واجهت حقيقة كيفية الاطاحة بنظام الاستغلال. وأظهرت كيف يمكن ادارة المجتمع بصورة مختلفة.
توضح الكثير من الأدبيات التي تؤرخ للثورة الروسية، كما هو حال كتاب “عشرة أيام هزَّت العالم” للصحفي الأمريكي جون ريد، التحولات العاصفة في تلك الفترة، وكيف كان العمال مدفوعين لإدارة المصانع بأنفسهم، وكيف أن البلاشفة كانوا بعيدين تماماً عن فرضِ أنفسهم على الجماهير، وكيف أنهم وضعوا المظالم التي تتعرض لها النساء والأقليات الدينية والإثنية في القلب من برامجهم وكفاحهم.
الجندر والطبقة والتضامن
في سياق الثورة لم تكن هناك قضايا جندرية منفصلة عن الطبقة. فقد كانت مطالب العمال هي مطالب النساء والرجال. وكان التوجه الطبقي الثوري للبلاشفة، أي الاجتماعي، هو الذي جعلهم الأكثر تاثيراً في النضال من أجل تحرر المرأة. . وقد اعترف البلاشفة بالرابطة الوثيقة بين سلطة العمال وتحرير المرأة.
وكان التضامن الطبقي يتجاوز الانقسامات الجنسية وكان الدور النمطي للمرأة يتعارض مع مصالح الطبقة العاملة. وكانت هناك ثوريات بارزات استطعن تجاوز الدور النمطي (سنضيء مثال ألكساندرا كولونتاي في موضع لاحق).
وفي أيام الثورة طبقت مقولة لينين "الثورات أعياد المضطهدين". وكانت احتجاجات العاملات في شباط 1917 هي الشرارة التي اندلع منها لهيب الثورة. ومن طريف وعميق الدلالة أن احدى العاملات البلشفيات قالت، وهي تصف تأثير الثورة على حياتها: "شعرت أن حياتي المألوفة التي اعتدتها تتهاوى، وكنت سعيدة بانهيارها"!
والحق أن الكثير من النساء قاتلن في صفوف الحرس الأحمر في معركة الاستيلاء على القصر الشتوي، والكثير منهن ذهبن للقتال في الحرب الأهلية بين عامي 1918 و1920 ضد الجيوش الإمبريالية الغازية التي كانت تدعم الحرس الأبيض المعادي للثورة.
اما تاريخ الثورة الروسية فيظل حياً، لأن الاستغلال الطبقي واضطهاد النساء لا يزالان أساسين بالنسبةِ للرأسمالية، ولأن العلاقة بين الطبقة والجندر لا تزال موضع جدال.
ولم تنفجر احتجاجات النساء فجأة في الشوارع هكذا في استعراض بدائي يعبر عن غضب غير منظم وغير واع. فمشاركة النساء تستند الى حقيقة أنهن وصلن الى نسبة 47 في المائة في بتروغراد عام 1917، وهي مماثلة، تقريباً، للاقتصادات المتقدمة اليوم.
وفي منتصف العام 1915 وخلال العام 1916 انخرطت الكثيرات العاملات في احتجاجات كبرى من أجل الخبز في ظل أزمة الغذاء، وبؤس الحرب، واستبداد النظام القيصري. وفي الأول من نيسان 1917 تظاهرعمال النسيج – العاملات منهم بالأساس – ضد الحكومة الانتقالية، فيما خرج متظاهرون مؤيدون للحكومة – رجال ونساء حسنو المظهر – وسخروا منهن ناعتين إياهن بـ"حثالة، غير متعلمات"، و"فاسقات حقيرات". فردَّت عليهم احدى العاملات المتظاهرات: "أنتم ترتدون قبعاتٍ من صنع أيدينا"!
مناضلات في الثورة الروسية
العشرات أو ربما مئات الآلاف من النساء المناضلات هن بطلات مجهولات .. أغلبهن كادحات في مدن تتضور جوعاً .. غير أن هناك بالطبع بعض المثقفات ممن حملن راية أكتوبر الحمراء.
وعلى أن هناك الكثير من الثوريات البارزات ممن يصعب الحديث عنهن، وبتفصيل، في هذا الحيز المحدود هنا، فاننا سنضيء، بسطور وجيزة، صورتي اثنتين منهن.
أولاهما رفيقة لينين وزوجته، ناديجدا قنسطنطينوفنا كروبسكايا، التي كانت ترتدي ثوبها الرمادي الخالي من النقوش والساعية، على الدوام، الى الابتعاد عن الأضواء. وتذكر كولونتاي أن كروبسكايا كانت تتسلل بهدوء وتتوارى عن الأنظار وهي تحضر اجتماعاً معيناً، لكنها كانت ترى وتسمع كل شيء بانتباه، تراقب كل ما يحدث بحيث يمكنها بعد ذلك إعطاء لينين تقريراً مفصلاً، بالإضافة إلى تعليقها الخاص وملاحظاتها الذكية ملقية الضوء على الأفكار المناسبة والمفيدة. كانت شخصية متحمسة تتخفى وراء تواضع نادر الوجود. وكانت ذات تأثير مبهج طال كل من كان على اتصال بالرفيق القائد العظيم لثورة أكتوبر".
أما إينسا أرماند فقد كانت، حسب كولونتاي "شخصية رقيقة وساحرة تلفت الانتباه بشكل خاص، كانت مكلفة بعمل حزبي بالغ الأهمية متعلق بالتحضير لثورة أكتوبر، وواحدة ممن ساهموا بالكثير من الأفكار الإبداعية للعمل بين النساء. ومع كل ما تحلت به من أنوثة ودماثة خلق، كانت أرماند قوية لا يطالها الشك في ما يتعلق بقناعاتها، وكانت قادرة على الدفاع عما تعتقد في صوابه بكل حزم، حتى في مواجهة أعتى المعارضين. وبعد الثورة، كرّست أرماند نفسها لتنظيم الحركة النسائية الواسعة".
ألكساندرا كولونتاي
مما يبعث على الأسى حقاً أن كثيراً من الثوريين اليوم، وخصوصاً الشباب، لم يسمعوا قط عن ألكساندرا كولونتاي.
ولدت كولونتاي عام 1872 في عائلة محافظة ثرية، وتزوجت على الضد من رغبة والديها. وانضمت الى مجموعة من الثوار الراديكاليين في سان بطرسبوغ .
وفي كتابها (تاريخ حركة المرأة العاملة في روسيا) كتبت تقول: "في السنوات الثورية 1905 و1906، أصبحت العاملات على دراية بالعالم من حولهن. كن في كل مكان. ولو أردنا وضع سجل عن مشاركة النساء في تلك الحركة، أو وضع قائمة بالاحتجاجات والإضرابات التي شاركن فيها، أو الاعتراف بتضحيات نساء البروليتاريا وإخلاصهن لمباديء الاشتراكية، لتحتم علينا وصف أحداث الثورة بالتفصيل مشهداً تلو الآخر".
وتقول الباحثة البريطانية كاثي بورتر، مؤلفة كتاب (الكساندرا كولونتاي: سيرة ذاتية) إن "كولونتاي عرفت، بشكل أساسي، من خلال كتاباتها حول العلاقة بين الاضطهاد الجنسي والطبقة، على الرغم من أن تلك الكتابات كانت واحدة من العديد من الإسهامات التي قدمتها للحركة الماركسية في ذلك الوقت.
في ذلك الحين كانت الحركة النسائية تتبلور دولياً مما منح النساء مزيداً من الثقة. لكن الحركة النسوية آنذاك، بقيادة نساء الطبقة العليا اللواتي ركزن بشكل أساسي على العمل الخيري والمطالبة بحق الاقتراع للمرأة المالكة، أثبتت أنها غير كافية لتلبية مطالب نساء الطبقة العاملة والفلاحات المختلفات تماماً عن أولئك النسوة".
وتشير بورتر الى أنه "في هذا السياق، خاضت كولونتاي معركتين: واحدة ضد النسويات "البرجوازيات" اللاتي عارضن الحركة الثورية لأنها هددت مكانتهن داخل المجتمع الروسي، والأخرى داخل الحركة الثورية الروسية من أجل أن تتبنى المطالب الخاصة بالنساء. ونجاحها على الجبهتين يقدم لثوار اليوم وسيلة لفهم الطبيعة الطبقية لاضطهاد المرأة، ولماذا يجب أن تندمج جميع النضالات ضد كل أشكال الاضطهاد مع معركة الطبقة العاملة الأكبر من أجل التحرر الذاتي".
وردا على قرار دعم الحرب، ساعدت كولونتاي، بمشاركة الثورية الألمانية كلارا زيتكن، في تنظيم مؤتمر للمرأة حيث نجحتا في كسب الأصوات النسائية ضد القرار. ثم طلب منها لينين، الذي شاركها معارضة الحرب، كتابة كراس تحريضي بغرض ترجمته وتوزيعه دولياً. وأملا أن يمكنهما توزيع الكتيب، مصحوباً بجولة دولية، من الحشد لمؤتمر زيمرفالد بديلاً عن الأممية الثانية المنهارة.
وتذكر بورتر أن "كتيب (من يريد الحرب؟) ترجم إلى عدة لغات، ووزع على الجنود. ونجح الكتيب في منح كولونتاي الاعتراف الدولي، ووجهت لها دعوة رسمية من الحزب الاشتراكي الأمريكي. وهكذا بالإضافة إلى جولة في جميع أنحاء أوروبا، زارت كولونتاي الولايات المتحدة. وفي شيكاغو ومن على منصة مناهضة الحرب ألقت كلمتها بجانب يوجين ديبس وبيج بل هايوود. وصفت كولونتاي ديبس بأنه "جريء كالأسد، ذو عينين برّاقتين، وقالت أنها ممتنة للغاية لمعاملته الدافئة التي تنم عن قلب كبير سخيّ". أما عن هايوود، فقالت: "عانقني كرفيق قديم. كان قوياً، راوياً جيداً للحكايات ورومانسياً، ومقاتلاً شديد الإخلاص".
وقد كتب صحفي بجريدة اشتراكية سويدية، بعد سماعه لكلمة ألقتها كولونتاي، يقول: "نحيلة، ذات ملابس سوداء اللون، عيناها تتوهجان حماساً ثورياً وكأنها استدعت فيهما كل مشاعرها وطاقتها التي لا تكل وشغفها اللامتناهي. وحين تصمت، يُسمَع دوي تصفيق عاصف يكاد يُسقط عرش القيصر ذاته".
ومن طريف ما يذكر أن مكسيم غوركي يروي على لسان مارتوف: "يوجد في روسيا شيوعيان اثنان فقط: لينين ومدام كولونتاي".
المرأة في الاسلام الحقيقي
سأتناول، هنا، جانباً واحداً حسب من كفاحنا الراهن، الفكري والسياسي. سأترك التحليل وتحديد المهمات والأساليب والصراعات الأساسية. وسأتجاوز الحديث عن الأمثلة التي قدمتها نساء لامعات في تاريخنا القديم والحديث، وأكتفي بما اقتبسه من كتاب الباحث القدير الراحل هادي العلوي، الموسوم (فصول في المرأة). وأرى أن هذه الاقتباسات الوجيزة تصلح للرد على "الاسلاميين"، الذين يدعون الدفاع عن الاسلام، وهو دفاع عن "اسلامهم" لا الاسلام "الحقيقي".
وما أذكره هنا، وهو غيض من فيض، يكشف عن صفحات مضيئة من تاريخ الاسلام الحقيقي، قبل أن يتحول الدين على أيدي مسيّسيه الى "فتاوى" تسيء الى الدين، بما عرف عنه، من بين أمور كثيرة أخرى، من تسامح وانفتاح على المعرفة، وعدالة بين البشر ...
فأولئك الذين يريدون أن يحجبوا وجه المرأة وعقلها ببراقع الظلام، ويغسلوا دماغها على طريقة "طالبان" و"داعش"، ويحجروا "ناقصات العقل والدين" في المنازل، ترد على ظلامهم تلك الصفحات المشرقة من التاريخ الاسلامي.
فلم تُمنَع النساء في صدر الاسلام، كما هو معروف، من حضور المسجد والمساهمة في فعالياته. ولم يُفرَد لهن مكان مخصوص فيه، وإنما كان يُفصَل بينهم في قاعة الصلاة، فتكون بين النساء والرجال مسافة بضعة أذرع.
وفي "المسند" عن عبد الله بن عمر أن النساء والرجال كانوا يتوضّأون معاً في زمان رسول الله.
وكان الرسول الكريم يصطحب النساء في حملاته الكبيرة، وقد شهدن معه صلح الحديبية. ويناهز عدد الصحابيات بالوصف المقبول للصحابي أربعمئة من مجموع عشرة آلاف، وهو عدد مرموق في قياس الدائرة النسوية.
ومن بليغ الدلالة على عدم إيذاء مشاعر المرأة ما أورده (صحيح البخاري) من أن زوجة ثابت بن قيس جاءت الى النبي محمد فقالت: يا رسول الله! ثابت بن قيس ما أعتب عليه في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الاسلام (تعني أنها لا تحبه). فقال لها: أتردين عليه حديقته ؟ قالت: نعم. فأرسل إليه النبي، وقال: إقبل الحديقة وطلِّقها (والحديقة بستان قدمه ثابت مهراً لها).
وكان رسول هذه الأمة يسلّم على المرأة إذا صادفها في الطريق، ثم صار السلام عليها من المحظورات. وما أكثر هذه المحظورات اليوم.
ولم يكن من المستغرب أن بعض رجال الدين المتزمتين تشددوا في منع النساء، بل وضعوا أحاديث على لسان الرسول والصحابة وأئمة أهل البيت تقضي بإلزام المرأة بيتها. ونسبوا وصية الى الامام علي بن أبي طالب تقول: "إذا استطعتَ أن لا يرَيْن غيرك فافعل". ومعروف أن الامام علياً هو الذي استخدم المحرِّضات في صفين لتأجيج حمية مقاتليه، وكان فيهن من يتفوق على رجاله في شدة الصوت وبلاغة الخطاب.
* * *
أليس حريّاً بمن يريدون أن يعيدونا الى عصر وأد النساء أن يعرفوا بأن رجلاً كان جالساً مع الرسول الكريم فجاء ابن له، فأخذه فقبّله وأجلسه في حجره، ثم جاءت ابنة له فأخذها فأجلسها الى جنبه. فقال رسول الله: هلاّ عدلت بينهما ؟ (أخرجه ابن عساكر عن أنس بن مالك) ..
أليس حرياً بمن يعتبرون النساء ناقصات عقل ودين أن ينظروا الى تلك اللوحة التي رسمها يحيى الواسطي من القرن السابع والتي تصور امرأة تلقي دروساً على الرجال وهي مكشوفة الوجه ؟
أليس حرياً بهم أن يفهموا أن التأنيث والتذكير متعادلان في اللغات السامية، حيث يقول هادي العلوي إننا نجد العربية، وهي أكمل وأحدث اللغات السامية، تؤنث الكثير من مظاهر الطبيعة والمجتمع الكبرى كالشمس والسماء والأرض والحرب والسلم والقبيلة والدولة والحكومة والسوق... وتؤنث جموع التكسير كلها، واليه يشير القول المشهور لأحد النحاة:
لا أبالي بجمعكم ... كلُّ جمعٍ مؤنث
* * *
ومما قاله الجاحظ في المرأة:
"ولسنا نقول ولا يقول أحد يعقل: إن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر. ولكنا رأينا ناساً يزرون عليهن أشد الزراية، ويحتقرونهن أشد الاحتقار ويبخسونهن أكثر حقوقهن.
وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال".
ومما قاله ابن رشد:
تحدث ابن رشد عن المرأة في كتاب (جوامع سياسة أفلاطون) وهو من كتبه المفقود أصلها العربي وصلنا عنه تلخيص للمفكر الفرنسي ارنست رينان (1823-1892) في كتابه (ابن رشد والرشدية). ورأي ابن رشد في المرأة هو رأي المعاصرين من غلاة أنصارها، ونقتبسه بنصه كما أورده رينان مترجماً عن اللاتينية إلى الفرنسية وترجمه عادل زعيتر إلى العربية في لغة ليست قريبة من لغة ابن رشد. وقد حاول المفكر هادي العلوي (1932- 1998) تقريبها جهد الإمكان بالتصرف في عبارات المترجمين:
"تختلف النساء عن الرجال في الدرجة لا في الطبع. وهن أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما. ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض الدول في أفريقيا على استعدادهن الشديد للحرب. وليس من الممتنع وصولهن إلى الحكم في الجمهورية (يشير إلى جمهورية أفلاطون) أوَلا يُرى أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرسه الذكور؟"
* * *
أول قصيدة كشف عنها التاريخ حتى الآن، وهي "ابتهال أنخدونا لإنانا في أور" السومرية، كانت من إبداع إمرأة .. وأول شهيدة في الاسلام كانت امرأة هي سميّة أم عمار بن ياسر .. و"المرأة مستقبل الرجل" يقول أراغون