زردشت صابر
الحوار المتمدن-العدد: 1474 - 2006 / 2 / 27 - 09:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمكن اختصارالدوغمائية بكلمات قليلة تسطح الحقيقة والواقع وتجعلها ضحلة تمنع الفهم الصحيح المتكامل ,وتجعلنا نتوهم اننا بعيدين عن تاثيراتها في افكارنا وعقلياتنا وتصرفاتنا وسلوكنا ,فالقول ,ان الدوغمائية تستند اساسا الى المثالية في تقييمها للامور ,وتقسمها الى ابيض واسود , لا يكفي , فهي متجذرة ومنتشرة ومسيطرة ومتسلطة على كل التفكير المجتمعي والسياسي في الشرق الاوسط , نظرا لسيطرة العقل الايماني المستند الى اليقينيات , والى افكار كثيرة خاطئة منتشرة مختلطة بالاوهام والاساطير والخرافات والمفاهيم الخاطئة ,التي ترى كل ما هو خارجها كفرا او الحادا او اشراكا ,فتحدد الفكر وتاسره وتمنع انطلاقته وبذلك يغيب التجديد والتغيير والابداع والخلق , مما يؤدي الى الانغلاق والتقوقع والتحجر والاندثار .
هذا الامر لا يتوقف على المذاهب الدينية بل ينسحب على الايديولوجيات والسياسات والافكار الحزبية والطبقية بما فيها "الاشتراكية " و" الثورية " , فتخنقها وتفرغها من جوهرها , وتدفعها مع الزمن الى مواقع تتنافى مع الهدف المرسوم , فتفقد مبررات وجودها , وتتحول الى بلاء على نفسها واصحابها وجماهيرها ,بدرجة تصل الى عرقلة ولادة البدائل .
لا يمكن لاحد انكار ان التطرف في النظرة المادية للامور تلتقي مع النظرة المثالية الى حد كبير , ولهذا فالمادية الفظة مثلها مثل المثالية تخلق لونها الخاص من الدوغمائية , تنعكس في ايديولوجيات الحركات السياسية بمفهومها الحديث ,رغم تشدقها بالعملية وأزياء الحداثة ,تجعلها تعاني نفس المعاناة ,تجهل او تتجاهل اننا بتنا في عصر جديد متعولم له براديغمائياته الاساسية الخاصة التي تفرض حقائقها ومتغيراتها , حتى باتت اهمية الايدولوجيا وضروراتها وموقعها ودورها الان ومستقبلا خاضعا للنقاش , لان المفاهيم الخاطئة وغير المتجددة في معني الايديولوجيا كاصطلاح سياسي يضع خطوطا رفيعة للالتزام , تفرض نوعا من الشمولية والاحادية في الفكر تتناقض مع المعطيات الديمقراطية التي ارتقت او لا تزال ترتقي الى مستويات تجاوزت معها اعتبار الديمقراطية مجرد اسلوب للادارة , نحو كونها ايديولوجية عامة قابلة للتطور والتكيف مع العصر , تغرد بعيدا عن الثنائيات الطبقية والقومية والدينية والمذهبية والفكرية الحادة والمتصارعة والمتناحرة , وتؤمن بضرورة المختلفات والتعدديات .
الدوغمائية نتاج العقل الايماني الذي يستند الى اليقينيات , وبهذا تختلف مع العلمية المستندة الى الشك الذي يؤكد بالعلم , لكن المشكلة الراهنة تتمثل في أنه حتى من ادعى الفلسفة والعلمية والمنطق الحديث والمعاصر في شرقنا هذا , لم ينج من الدوغمائية , نظرا لخلفيته الثقافية والاجتماعية والتاريخية المثقلة بها والمتجذرة والتي لم تتغير عبر ثورة تنويرية جادة واصيلة .
ولهذا كانت الدوغمائية معاناة جدية تظهر في كل مكونات الفكر والحياة باشكال مختلفة يعب حصرها , لكن فهمها يحتاج منا ان نعيد الظاهرة الى منابعها الاساسية , وحينها سندرك كم نعاني من هذه الظاهرة .
الدوغمائية تعني تسلط وسيطرة ذهنية التحريم , فالامر حلال أو حرام بالمطلق يحدده فتوى شرعية تستند الى منظور قاصر غير مكتمل للامور ,وهذا ما ينسحب ايضا على الحركات السياسية التي تحولت بنفس الاتجاه المذهبي وان على اسس ايديولوجية سياسية , وباتت ترسم لنفسها نهجا أوخطا معينا دقيقا باليات معقدة وحساسة اكثر من المذاهب الدينية , وتسيطر الثنائيات , الثورة والثورة المضادة , الثوري والمرتد , الوطني و الخائن , المواطن و العميل , بشكل يدرك معه أي مراقب غياب الاختلاف في منطق الحالتين , اللتين تؤديان الى خنق العقل البشري الانساني واسره ومنع انطلاقه نحو فضاء القيم الكونية الاساسية بالمقاييس العالمية العلمية .
الدوغمائية تمنع رؤية الظروف الموضوعية والذاتية بشكل كامل وفي صورة متكاملة , فتراها مجثزأة تخضع للمزاجية تستند على التقسيم الى ثنائيات محددة على شاكلة "من ليس معنا فهو ضدنا ", ويجري تصنيف كل الآخرين اعداء ومتآمرين , وتسيطر نظرية المؤامرة على العقول الى حد الاستسلام لها فكريا ,وتزول الثقة حتى بالمستوى المطلوب , ويحدث الاختناق الذاتي بالتضييق على الذات وفصلها عن مؤثراتها وقواها الحقيقية وارضيتها الموضوعية .
الدوغمائية تمنع التجديد والابداع , تؤمن أن هناك اصيلا واحدا ثابتا يجب ان يقتدى , وما عداه تقليد وبدع يجب ان تنتفى , وتحت شعار التمسك بالاصالة والثوابت تظل تدور في حلقة مفرغة معيبة لا تخرج منها ولا تريد الخروج , فتخدع نفسها احيانا بتغيير لون الحلقة او شكلها , كأن تجعلها رباعية او ثلاتية او مضلعة ,متناسية انها لا تزال حلقة ومفرغة ومعيبة . وكأنها بذلك تستند الى المبدا لوهابي الأصولي السلفي الذي يعتمد مقولة " كل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار " حتى وان كانت الحركات سياسية وادعت العلمانية او الاشتراكيةاو العلمية .
الدوغمائية تولد التعصب الاعمى للحق الذي تعتقده انه حق , بمواجهة الباطل الذي تؤمن انه باطل لانه لا ينسجم مع اطروحاتها , فترفض كل ما هو على خلاف وتتهمه فكرا وممارسة وعقيدة وسلوكا , وبرفضها للتنوع والتعددية ترفض مشاركة الاخر او اشراكه , تريد لنفسها حقوقا لا تعترف بها للاخرين , لانها وحدها الحق والحقيقة , وانه " لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق , ولا حقوق للكفر على الايمان " ,وبهذا ترفض وتنسف اسس المنطق الديمقراطي من جذوره , برفضه للاخر ورفضه للتعددية والمشاركة والتوافق والحوار .
الدوغمائية هي التي خلقت وتخلق الحركات الاصولية السلفية ,الدينية منها والسياسية , ولانها تنفي الاخر و تجد ان واجبها المقدس يفرض عليها القضاء على الاخر , المختلف المضاد المرتد او الخائن او الكافر , لذل لا تتوانى حتى عن استخدام العنف الاعمى الحاقد داخليا وخارجيا وعلى كل المستويات , باعتباره عنفا مقدسا لانه يخدم الوصول الى اهداف مقدسة , مع ضرورة الاشارة الى تباين مستوى الاستخدام الفعلي للعنف ووسيلته وطريقته تبعا لعوامل اخرى تفرضها الظروف السائدة على الساحة ذاتيا وموضوعيا .
الدوغمائية تمنع التغيير والتجديد سنة الكون الاساسية, فتتوجه للوقوف خارج الحقيقة الموضوعية والواقع , ولا تكف عن اتهام الواقع نفسه بالخطا , تخدع نفسها على انها تلتزم باصالتها , فتنسى حاجة الاصالة نفسها الى التجديد ان ارادت الاستمرار , كل ما عندها وضعي , حتى ان لم يكن من صنع الالهة السماوية , فلا باس من ان يكون من صنع الهة ارضيين , او ممثلين للالهة , او بشر يتمتعون بصفات الالهة , من زعماء ورؤساء وقادة وموجهين على شاكلة , الرمز والضرورة والابدي والسرمدي ...الخ .
الدوغمائية تولد الشمولية , ويجب ان لا ننسى ان كل الانظمة الشمولية تبدا من مقولة "انا هو الوحيد الصحيح وما عداي خاطيء ", لتتطور الشمولية وتتصاعد نحو حكم القلة حتى حكم الفرد ,وهذا ينطبق على كل الشموليين بدءا من الدينين نحو الثوريين مرورا بالقوميين , فلانها الصح ترفض الخطا او ما تراه خطا , وهو بالطبع كل ما يختلف عنها رايا وممارسة , فلا تتردد في ضرب وخنق الكافر او الخائن , حسب تعابيرها , ولا تنسى ان تتصدى للمتآمرين في الداخل من العملاء وممثلي الاعداء , تسيطر على كل شيء حتى التفاصيل .
الدوغمائية مرض اجتماعي يصيب البشر ولا يتناسب ابدا مع حقيقة الانسان الطبيعية السليمة ,منتشرة في كل المجتمعات وان اختلفت درجاتها , لكن الشرق الاوسط لا يزال يعاني منه بشدة حتى درجة السيطرة على فكره , لاسباب كثيرة منها انها كانت مهد الديانات التوحيدية المستندة الى المنطق الدوغمائي المثالي , خصوصا في انطلاقاتها الناجحة , مما يشكل حجة كبيرة في ايدي المدافعين عن صحتها , ليس هذا فحسب بل ان المنطقة لم تحيا ثورة ومرحلة تنويرية جادة كما حصلت في اوربا , وكل ما جرى لم يتجاوز محاولات بسيطة استندت للترجمة والتقليد , بعيدا عن احداث تغيير جدي ومعقول .
فهل ان لنا ان نفهم أن الدوغمائية مكمن الداء , وان الفكر الديمقراطي الحر هو اساس الدواء ,
تلك هي الحقيقة , لكن الحقيقة الاكثر مرارة ان الجهود المبذولة في هذا الاطار غير كافية كما ونوعا فلا تفي بالغرض , ونظل ندور في حلقة الابيض والاسود , رغم ان الوقت حان ان ننطلق نحو قوس قزح جميل , يبدا بحملة تنويرية تستند الى تغيير هذه العقلية الجامدة المجمدة المتجمدة .
الدوغمائية مرض , وكل ما فيها سوء , يخطئ من يربط بينها وبين الاصالة , ويخطيء من يعتقد أن الدوغمائية قد تقي من الانحلال والانصهار في اتون التيارات المستحدثة الصنعية التي تفتقر الى منظومات قيمية انسانية راقية , فهي مرفوضة كلها جملة وتفصيلا , شكلا ومضمونا .
والمعالجة تبدا من المنظومة الفكرية العقلية للافراد والمجتمعات ,عبر تحريرها بثورة تنويرية حقيقية تحقق الانطلاق الحر للانسان فكرا وممارسة بشكل يليق بالانسان المعاصر في عالمنا الراهن .
ماذا عن الكرد في هذا الاطار وهم مكون اساسي من مكونات الشعوب الشرق الاوسطية , عانى من كل الام المنطقة عبر التاريخ , ونادرا ما حصل على فرصة او مهلة للتفكير الحر , ولهذا فهو احد اكثر من يعاني من الدوغمائية وظواهرها ونتائجها , فحدث ولا حرج , لكنه موضوع يطول لن ندخل في تفاصيله هنا .
#زردشت_صابر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟