مشكلة المسلمين مع السياسة
مولود مدي
2017 / 12 / 13 - 00:03
مشكلة العمل السياسي في العالم الإسلامي وشساعة الهوّة بين السياسة والمسلمين حتى أصبحت هذه الهوّة الكبيرة صعبة التجاوز هي نابعة من ثلاثة عوامل حاسمة وهي:
– الاستبداد السياسي بالدرجة الأولى بحيث كان في الوهلة الأولى استعمارًا خارجيًا ليتحوّل إلى استعمار داخلي بتواطؤ الأنظمة العربية مع الاستعمار الجديد.
– الخلط بين الديني والسياسي وعدم فهم علاقة الثابت بالمتغيّر بحيث بنيت السياسة على النسبية والتغيّر عكس الدين الذي يتميّز بالمطلقية بحيث لا يتغيّر ولا يقبل الحذف والإضافة.
– ضعف المساهمة العلمية للمسلمين في مجال السياسة.
فيما يخص الاستبداد المتعدد الأجناس الذي عرفه المسلمون دون الحديث عن الاستبداد الحالي، فتاريخيًا عانى العرب من تسلط القوى الأجنبية الحاكمة عليهم – كالترك والفرس – قرونًا طويلة، كما عانوا من انعدام استقرار الدولة بصفتها مدرسة السياسة فترات طويلة، وعلى عكس دولة معزولة كاليابان مثلًا، فقد عانى المسلمون من موقعهم الاستراتيجي المتوسط بين الدول والإمبراطوريات، فكانوا فريسة التدخلات والتأثيرات والأطماع الخارجية المستمرة وكانت أراضيهم مسرحًا للعديد من الحروب فترة طويلة جدًّا.
ولهذه الأسباب وغيرها تتابعت الكوارث والمآسي السياسية في ذاكرة العرب حتى أصبحت السياسة في أذهانهم مرادفة للصراعات والحروب والكوارث، وكما كان العرب عرضة للاستعمار الخارجي فما أن تخلّصوا من براثنه حتى فرض عليهم الاستعمار الداخلي الذي كان أبطاله حكّامًا عربًا مثل (السيسي، وابن علي، وعائلة آل سعود، والنظام العسكري في الجزائر الممثل من طرف بوتفليقة، وصولًا إلى الملك الذي تنحني له الرؤوس في العصر الحديث محمد السادس…) بوضوح هائل كيف مارست هذه الأنظمة شتى صنوف الفساد والإفساد بحق شعوبها، فقد حكمت بالحديد والنار وانتقلت بدولها من الاستعمار الخارجي لحالة من الاستحمار – بحسب تعبير شريعتي – يمكن وصفها بالاستعمار الداخلي، حتى وصل الحال بالمواطن العربي بأن يكون وجوده في بلده يعني فقدان الكرامة والحرية والعيش الكريم، ولذا أضحت الهجرة للخارج هي الحلم الأكبر لنسبة كبيرة من الشبان العرب.
الفكرة الشائعة لدى منتجي الخطاب الإسلامي أن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي لم يعرف التمييز بين الروحي والزمني، وأن الإسلام لم يعرف سلطة رجال الدين لأنه دين شمولي وحركي يشمل جميع مناهج الحياة وبسبب هذه الفكرة حدث الخلط بين السياسة والدعوة، فلا يكاد الإنسان الذي يطّلع على برامج الأحزاب الإسلاموية، أن يفهم ما هي مهمّة هذا الحزب؟ هل هي الوصول إلى السلطة وتطبيق برنامجه، أم مهمّته هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ليس من مهمّة رجال السياسة، ولهذا قال حسن البنّا يومًا عن حركة الإخوان المسلمين «دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية» أي هي كل شيء!.
وفي رأيي الشخصي هذه الرؤية تنبع من رومانتيكية زائدة ومراهقة فكرية في فهم الدين والحياة والعالم، لأن من طبيعة المفكّر الناضج أن يفهم أن الحياة مبنية على التشعّب والتعدد، أما المراهق فيحلم بأن يجمع كلّ شيء بين يديه، وللأسف لم تدرك الحركات الإسلاموية هذا الأمر إلى حد الآن باستثناء حركة النهضة التونسية التي تخلّت عن مراهقتها بعد أن عرفت تجربة الحكم في تونس، إن وجود قيم سياسية في الدين لهو أمر غير مستحيل، كحثّ الأديان السماوية على تحمّل المسؤولية وتبعات القرار، والصدق والأمانة… إلخ. لكن تناسى من يقول بالشمولية حقيقة عمومية هذه القيم، فليس الإسلام من دعا إلى هذه القيم وحده، كما أنها غير كافية لبناء نظرية سياسة واضحة الملامح، كما أن الدين ليس وحده مصدرًا للأخلاق التي يجب على السياسي أن يتحلّى بها.
أما العامل الثالث أو, الغياب شبه التام لبصمة العلماء المسلمين على العلوم السياسية، فيصعب على أي ناشط سياسي أو شخص مهتم بالسياسة أن يذكر نظرية سياسية كانت من إبداع عالم مسلم، ولم نر أي شخصية سياسية أو تنظيم سياسي معروف في العالم العربي أو الغربي تأثر بأفكار سياسية من إنتاج المسلمين، بحيث كان لهذه الأخيرة الحظ الأسوأ من بين جميع العلوم الأخرى مثل الرياضيات والفيزياء والفلك والصيدلة، وكان وجودها أضعف وجود، فلسنا نعرف للمسلمين مؤلفًا في السياسة ولا حتى مترجمًا، ولا نعرف لهم بحثًا في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليلًا لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية أيّام العصر العبّاسي الأول بالضبط، ويجب أن نعود للجذور لكي نفهم السبب، فالجذور تعود إلى أيام قيام الخلافة ولا يهمّني من الأحق بالخلافة هنا، لأن مشكلة المسلمين ليست في أحقية صحابي على آخر بالخلافة بل المشكلة هي هل يوجد في الإسلام نظرية سياسية؟.
لم يسبق وأن تم إزالة أي خليفة من منصبه بطريقة سلمية وبالاختيار الحر من طرف المسلمين، ومن يزعم أن البيعة هي اختيار حرّ فهو إما كاذب وإما لا يعرف تاريخ الخلافة، لأن كل من سوّلت له نفسه معارضة البيعة يتم قتله فورًا فماذا نقول عن انتقال السلطة، لقد كان انتقال السلطة يتم بامتشاق الحسام وقطع الرؤوس بالسيوف الذي لم يسلم منه حتى صحابة الرسول وأبناؤهم، والسبب في هذا أن الخلافة والحكم عمومًا عند المسلمين يقوم على الغلبة والقوّة المادية، فكانت العروش تقوم على رؤوس البشر فكيف يكون هذا الجو مناسبًا للعالم المسلم أن يكتب في السياسة وأن يبدي رأيه في الحاكم الفلاني وأن يعارضه أو يطالبه بالتنحّي من الحكم وسلاح العالم الوحيد هو القلم؟.
لذلك لم يعرف المسلمون أي ممارسة سياسية سليمة متّفق عليها في اختيار الحاكم وإزالته، فأبو بكر تمت مبايعته من طرف الحاضرين في السقيفة، وعمر بن الخطّاب جاء إلى الحكم عن طريق وصيّة من أبي بكر، وعثمان جاء إلى الحكم بواسطة لجنة من الصحابة شكّلها عمر بن الخطّاب، وعلي بن أبي طالب تم تنصيبه في الحكم بضغط من الجماهير. لذلك ما حدث في صدر دولة المسلمين نفهم منه أنه لم يكن ثمة نظرية أو تصوّر سياسي، بل حتى شكل المبايعة لم يتّفق عليه المسلمون الأوائل، ولم يتصوّر أحد منهم ولا بعدهم صحابة وفقهاء شكل السلطة ومؤسّساتها وما علاقة الإنسان بالسلطة… إلخ. وهذا الوضع هو بمثابة معضلة حقيقية يعاني منها العرب المسلمون في عصر أصبحت السياسة فيه علمًا يعتمد على الكثير من العلوم الأخرى لبناء نظرية سياسية، لكن المرض الإسلامي ما زال غارقًا في فكرة أن ما لدينا من الدين يكفي لبناء نظرية سياسية تجيب عن جميع الأسئلة المطروحة في كل زمان ومكان.
ولذا فإن حل الأزمة العربية في السياسة لم يكن يكمن في تبدل النخب والأيديولوجيات التي تحكم، بقدر ما يتمثل في الحاجة إلى اختراق معرفي للسياسة وتطبيقاتها المدنية وفهم العلاقة بين الثابت والمتغيّر، والحرص والتشديد على التطبيق العملي لها. وهي مسألة تتعزز صعوبتها حين ندرك كيف أن التاريخ العربي والإسلامي ضعيف من ناحية الفكر السياسي علمًا وممارسة وتنظيمًا، وهذا يثبت من جهة أنه لا نظرية سياسية في الإسلام، وأن الدول الإسلامية تقوم وتنهار بسبب اجتهادات البشر وليس بسبب الدين، ومن جهة أخرى هذا يسحب البساط من الإسلام السياسي الذي يتحجج بذريعة شمولية الإسلام، وتناسى أنه لو كان شاملًا لكل شيء لما تقاتل الفقهاء فيما بينهم قرونًا على الفروع إن لم نقل صغائر الأمور.