زياد شاهين
الحوار المتمدن-العدد: 5721 - 2017 / 12 / 8 - 23:07
المحور:
الادب والفن
قراءة انطباعية
(الكلمة التي القيتها في أمسية أدبية بمناسبة صدور مجموعتي الشاعر أسامة ملحم في منتزه الحديد دالية الكرمل -7/12/17-بمبادرة الصديق الكاتب والشاعر مرزوق الحلبي صاحب دار نشر "جدل " )
بدايةً أودُّ أن أباركَ للصديق الشّاعر أسامة ملحم على إصداريه كطاوي ثمانٍ والرّساؤلات وأتمنى له المزيدَ من الإبداع والشعر، ومن ثمّ أودّ أن أثني على الجهود الّتي يبذلُها الصّديق مرزوق الحلبي من خلال "دار جدل" وكتاباتِه ونشاطاتِه الثّقافيّة، في هزّ المهد الّذي ترقدُ عليه حركتُنا الأدبيّة والثّقافيّة الّتي أخذتْها سِنَةٌ من النّومِ العميق لعلّها تستفيقُ ونستفيق!
قلتُ في نفسي بعد أن انهيتُ قراءةَ "الرّساؤلات" و"كطاوي ثمان":
- لو قُيّضَ لي أن أصْبحَ رسّاماً لأقمْتُ مَعْرَضاً من الرّسومات أو من اللّوحات الجدارية، أستلهمُ أفكارَها من جزءٍ كبيرٍ من قصائدِ المجموعتين، الزّاخرتين بالإيحاءاتِ والدّلالاتِ والصّور المُدهِشة، فالشّعرُ رسمٌ ناطق والرّسمُ شعر صامتٌ كما أشار الشّاعر اليونانيّ الغنائيّ سيمونيدس عن العلاقة الجماليّة بينهما.
جسدي جرّةُ الفَخّارِ/ تَنِزُّ الرّوحُ منها/ قَطْرةً قطرةً/ تتداعى إلى الحضيض/ تتجمّعُ مُجدّداً في قَصْعة التُّوتياءِ أسفلِها/ منْ قال" الروحُ تطلعُ " / حين تفارقُ الجسدَ؟
لا بدّ من قولِ كلمة حقٍّ كأحد المتابعين وليس كناقدٍ محترفٍ لنصوص الشّاعر أسامة، أنّ قِماشتَهُ الشّعريّةَ هي من نسيجِه وحدِه -كما يظهرُ في المقطع أعلاه -وليستْ مستوردةً من معاملَ أخرى، حيث أنّنا لا نستطيعُ أن نقبضَ على شاعرٍ واحدٍ يتنزُهُ بترفٍ في حدائقِ قصائدِه، كالآخرين المنتحلين لشتّى النّصوصِ والأفكار فالمشهدُ الأدبيُّ والثقافيُّ بائسٌ بائسٌ يطعنُ كلَّ مُحبٍّ للأدب، على اختلاف فروعِهِ، بخيبةِ أملٍ تصلُ بذروتها إلى أقصى حدود الاشمئزاز والتّقزّز وتُقْصيه بعيداً عن عوالمِ الفّكر والإبداع.
متبرّماً يصرخُ:/لا جدوى، أنا لا أشفقُ على سيزيف! / ذلك البليد/ لو قضم كلَّ عام من صخرته لكان اليومَ إذن في الأعلى/ لو كنتُ أنا سيزيف/ لأكلتُ صخرتي!
"قصيدة المتململ"
-2-
كيف استطاع الشّاعرُ هنا أن ينثرَ بذورَ كلماتِهِ خارجَ سياجِ العَروضِ والوزنِ والقّافية، لتنبتَ شعراً صافياً ذا هُويّةٍ وخصوصيّةٍ مميّزة؟!
أسامة ملحم هو من روّاد قصيدة النّثر في هذه البلاد، وهو مثالٌ جيّدٌ للشّاعر المثقّف الّذي استفاد من مخزونه الثّقافيّ في إغناء قصيدتِه وبلورة تمايُزِها ودلالاتِها، وقصيدتُهُ ,صوراً فكراً وصياغةً, تُمسكُ القارئَ من يدِ روحِهِ وتصحبُهُ في رحلة عشقٍ واستكشافٍ إلى عوالمَ لم ولن يتوقّعَها، هي اجتراحُ الواقع العام من خلال الألم والقلق الفرديّ، أنا شخصياً تُشعرُني نصوصُهُ بالحِرْفيّة إلى جانب المصداقيّة وصفاءِ الأحاسيس ووضوحِ الموقفِ بدون ضبابيّةٍ متلبِّدةٍ ومُجْتَمِعَةٍ لتحجبَ أشعّةَ الشّعر والأفكارَ الواقعيّة.
رَمادُ من هذا؟
رَمادُ ماذا هو ذا؟
أين أكفُّنا الّتي قبضتْ
على جمر حبّك يا وطن؟
استهلالٌ رائعٌ وموفّقٌ لقصيدة "الرساؤلات"، عنوانُ المجموعة الشعريّة وهو نحتٌ جديدٌ لكلمتي الرّسائل والتّساؤل، وُفّق الشّاعرُ بدمجِهِما ليؤلّفَ مُصْطلحاً جديدًا يمنحُهُ براءةَ الابداع مثال براءةَ الاختراع.
والرساؤلات هي مطولّةٌ شعريّةٌ مُقسّمةٌ إلى عدّة مقاطعَ تجاوزتْ ثلاثةً وخمسين مقطعاً بدون عناوين، والسّؤال هو هل هذا الأسلوبُ يخدمُ النصَّ الشعريّ، أم كان على الشّاعر أن يُجزّأَها ويعنونَها كمقاطعَ مستقلّةٍ يوثِقُها حبلُ المضامين والأفكار المختلفة خوفاً من التكرار والإسهاب ؟!
هناك مصطلحان في النّقد الأدبيّ هما النصُّ المغلق والنصُّ المفتوح، والأوّلُ هو الّذي يستوفي كلَّ الأفكار والصورَ وما يريدُ أن يعبّرَ عنهُ الكاتبُ أو الشّاعر وهذا المنهجُ يُوظّفُ في تقييم ونقد الرّوايات أو المقالات السّردية وقلّما يوظّفُ في نقد الشّعر , والثاني أي النصّ المفتوح فهو قابلٌ للتأويلات وللتفسيرات وللإيحاءات الكثيرة من خلال توالدِ الأفكارِ والصورِ وتشابكِها
-3-
في صيغٍ كلاميّة كثيرةِ المعاني والدّلالات، وهذا يتناغمُ مع العمليّة النقديّة للشّعر.
على ضوء ذلك، أكادُ أجزمُ أنّ الشّاعرَ نجح في المطلع أعلاه -وهو أُنْموذجٌ للنصّ المفتوح -أن يُنشأ الدّهشةَ لدى المتلقّي مُشبّعةً بالدّلالات والايحاءات وأن يجعلَهُ يفكّرُ ويتخايلُ أبعدَ ممّا ترسمُهُ الكلمات.
ونجح ثانيةً في تعزيز فكرةِ نحتِه الجديد "الرّساؤلات".
ولنعُدْ إلى الأبيات لنكتشفَ ذلك:
رَمادُ من هذا؟ / رمادُ ماذا هو ذا؟
فلو افترضنا أنّ المبتدأ: "رمادُ من هذا؟ رمادُ ماذا هو ذا؟ " أي مطلع القصيدة، هو بمثابة الرّسالةُ فسيكونُ السّؤالُ أو التّساؤل: أين أكفُّنا الّتي قبضتْ / على جمر حبّك يا وطن؟ وهذا يقود إلى أنّ دمج المضمونين كرسالة وتساؤل كوّن لدى الشّاعر بذكائه وأبداعه هاجساً لاستحداث "الرساؤلات",كمصطلح جامعٍ ومُعبّر عن ذلك!
ولو جازفتُ وتوسّعتُ قليلا في تقييم النصّ كنصٍّ مفتوح وليس شرحَهُ لأنّني لا أحبّذ ذلك لأردفتُ قائلا: إنَّ الرّمادَ هو العدمُ أو الموتُ أو خلاصةُ دمارٍ وفاجعةٍ واحتراقٍ حلّ بالمكان مثلاً، فمن أحرق المكان ولماذا أحرقَهُ؟ الشّاعر يكرر السّؤال: رَماد ماذا هو ذا؟,
هذه هي الرّسالةُ الواضحة التي أرادها الشّاعر أنْ تُدهشَ المتلقّي، والأخبار عن ذلك يأتي في المقطعين التاليين على شكل سؤال أو تساؤل: أين أكفُّنا الّتي قبضتْ على جمر حبّك يا وطنْ/ ويسألُ الشاعر بألم أين نحن الّذين احترقنا ونحن قابضون على جمر الوطن؟ , أين الوطن الذي أحببناه واحترقنا من أجله؟, كيف لم نحافظ عليه كفاية؟, هل نحن مذنبون؟, هل نحن مشاركون في ارتكاب الخطيئة أو الجريمة في إشعال الوطن؟.
-4-
كلُّ هذه الرّسائل والاسئلة، هي من مميّزات النصّ المفتوح، إلى جانب تصادي الصّورِ وتناسُلها ونموِّها العضويّ لتشكّلَ إيحاءاتٍ ورموزا عميقةَ المعنى وشامخةَ الألم والقلق والتّساؤل في كلّ أبيات القصيدة.
كذلك تظهر براعةُ الشّاعر في نضد الكلمات ومواءمتِها كي تَسْندَ بناءَهُ الشعريّ عبْرَ رصدِ المفردات والصور التوافقيّة المتماسكة التي تُأنّقُ النصّ كما في مطلع القصيدة أعلاه: الجمّر – الرماد – الأكف – الحب – الوطن.
الرساؤلات قصيدةٌ تستحقّ نقداً موسعّاً مختصّاً كأغلبية قصائد المجموعتين ولكن ما العملُ يا أحبّتي المغرمين بالأدب، إذا مات الطبيبُ عندنا أعني النّقد والمشهدُ الأدبيُّ مريضٌ يحتضرُ!
في النّهاية سأقرأ البّداية وهي عنوان لأحدى القصائد من مجموعة: كطاوي ثمانٍ:
في البّداية كانت البداياتُ تقلقُني/ثمّ اقتنعتُ/أنّ للنسورِ الحقَّ/في أن تحلّقَ أعلى فأعلى/ما دامتْ ستحُطُّ في الأخير/على جيفةٍ/ وللكلابِ أن تَهُشَّ عن مطعِميها/ ولو كانوا لصوصاً / ما دامتْ في الأخير/ ستستجلبُ الغرباءَ إلى حياضِهِم / بنُباحِها المُخلصِ/ وصرتُ أفرح بالقطر/ ما دام سيبلغُ السّيلُ الزُّبى.
رائع كعادتك يا أسامة ..وشكراً
#زياد_شاهين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟