هل التصّوف وسيلة للقضاء على الارهاب ؟
مولود مدي
2017 / 9 / 30 - 18:25
ظهر التصوف فرديًا وبدأ بوصفه ظاهرة فردية، وانتشر تدريجيًا بدخول الكثرة فيه لأنه لا يحتاج إلى عقل كبير وبحث كثير وعلم غزير، ولقد كانت حركة التصوف ثمرة طبيعية للأوضاع السياسية المتدهورة أيام الإمبراطورية الأموية والعباسية والتي دفعت بالكثير من الفقهاء إلى طلب العزلة وحياة الزهد والذي يعد النواة الأولى للتصوف، حتى إذا جاء العصر المملوكي أصبح التصوف فيه ظاهرة بارزة أي يمكن أن نقول أنه تحول إلى مذهب رسمي للدولة، بحيث شهد العصر المملوكي سيادة التصوف ومن ثم اختلاط هذا الأخير بالسنة، حتى تأثر الدين السني بالتصوف فظهر من السنيون من يؤمنون بكرامات البشر.
من أسباب انتشار التصوف امتلاء هذا الدين الأرضي بالخرافات، والإكثار من تقديس البشر واختلاق المعجزات لهم، بحيث كان التصوف مناسبًا لعقلية مسلمي القرون الوسطى الذي شهد طغيان الخرافة على العلم، لكن هذا الانحراف لم يحدث لولا مظالم السلطة المملوكية الجائرة، لأنه في الحقيقة التصوف ليس وليد الصراعات المذهبية بل عرف المسلمون التصوف المتسامح المعتدل والذي جاء به القرآن وعرف به الصحابة ثم أخذ هذا التصوف منحى آخر بعد انهيار الخلافة الراشدة، وأصبح محصورًا في الفرار عن الدنيا والتطرف في الزهد في العصر الأموي والعباسي.
والعجيب أن أكثر من يدعي الزهد وعدم طلب الدنيا في هذه الفترة هم أصلًا من الفقراء، ثم أصبح التصوف دينًا أرضيًا في العصر المملوكي له تعاليمه الخاصة وكهنته، بحيث ابتعد المسلمون عن مجالس العلم ومجالسة العلماء، وبتأثير القصاصين أصبح قبول المعجزات المختلقة وكرامات الأولياء شيئًا عاديًا عند المسلم، ترتبط الكرامات بالمعتقدات الدينية، فتعيد وتثبت ما جرى من معجزات للأنبياء، لكن الاختلاف هو أن الكرامات تشرب من المعتقدات الشعبية والقصص الشعبي، فتأخذ شيئًا من الأسطورة والخرافة وشيئًا من المثل الشعبي والثقافة السائدة والألغاز، وتحضن رواسب معتقدات قديمة.
حتى إن بعض أساطير الفكر الديني الإسلامي نجد ما يشبهها في الكثير من بلاد العالم وخصوصًا أساطير الفرس مثل المهدي وعودته ليملأ الأرض عدلًا وإسرائيليات البخاري المأخوذة من خرافات الكتاب المقدس، وتصورات طقوس واحتفالات ورموز ومواسم فصلية، وتنمو هذه الكرامات في النفس البشرية إلى جانب الآداب والشعر والفنون وشتى وسائل التعبير البشري.
والكرامة عمومًا هي كالكذبة على الذات والغير، وهذا القول قاس لكنه ضروري في المجتمع الذي تكثر فيه وتعشعش بقوة، وهي تسود في حالات عجز العلم عن تقديم إجابة وفي الحقيقة العلم لا يعجز إلا عندما يتم حشره في الغيبيات لأنه ليس مجاله أصلًا، والكرامة موجودة مثل الأسطورة، فقط هناك اختلاف في درجة تأثيرهما، لكن الكرامة في مجتمعاتنا هي أشد فعالية وأكثر حدة وديمومة، ويذكرها الصوفي مقتنعًا ويعرضها على أنها حصلت فعلا، ويتهم كل من يشكك فيها بعدم الفهم، ولذلك التصوف الغالب حاليًا هو التصوف الذي تعامل بسلبية مع الثقافات الأخرى في العصر المملوكي، لكن هذا لا ينفي وجود أئمة متصوفين معتدلين مثل «شهاب الدين السهروردي».
في بادئ الأمر كان الصوفية الأوائل يكرهون الحديث وروايته ويقاطعون مجالسه، لأنه يعبر عن دين السنة المخالف لدينهم، وهذا ما كتبه ابن الجوزى في كتابه «تلبيس ابليس». ولكن عقد الصلح بين ديني السنة والتصوف ترتب عليه اشتغال كبار الصوفية بالحديث، بمعنى آخر تأليفه ووضعه وتزويره ونشره، وتبارى أئمة التصوف اللاحقون في تأليف أحاديث تدافع عن عقائد التصوف وتخترع المناقب للأئمة المتصوفين. ووضع الأحاديث في تدعيم التصوف السني حتى اشتهر به الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) الذي قال عنه النووي (كاد الإحياء أن يكون قرآنًا). وقد قام الإمام العراقي بتخريج أو نقد الأحاديث التي ذكرها الغزالي في (الإحياء)، وأثبت بطلان معظمها بمنهج المحدثين، وقال عن المئات منها أنه (لا أصل لها) أي أنها لم تعرف من قبل، بمعنى آخر أن الغزالي هو الذي اخترع تلك الأحاديث بنفسه.
قلنا سابقًا إن في العهد المملوكي شهد التصوف ازدهارًا كبيرًا، ونحن نعلم أن عصر امبراطورية المماليك هو ذروة العصور الوسطى في التاريخ البشري، فقد تميز هذا العصر بالتعصب الديني الأعمى عند اتباع جميع العقائد، فلا نفوذ يفوق نفوذ الكنيسة في أوروبا التي كانت تحكم أنفاس الشعوب الأوروبية، ولا تفكير يخرج عن تفكير الكنيسة، وكانت محاكم التفتيش بالمرصاد لكل من تسول له نفسه معارضة تعاليم الكنيسة.
فنجد نفس الأمر في العالم الاسلامي آنذاك، فتراجع الاجتهاد في الفقه الإسلامي، وشهد صعود السلفية وتيارات الخرافة وكل تيار معادٍ للعقل، بظهور الفقهاء المؤيدين لهذا الاتجاهات مثل «محي الدين ابن تيمية» الذي نشأ أصلا في أحضان الصوفية وكان متأثرًا بها حيًا وميتًا، لذا قبل حدوث محنته وإدخاله السجن بتآمر فقهاء البلاط المملوكي نلمس في كتاباته قبل تطرفه حسًا تأمليًا رائعًا، وفي عصره تم اعتبار كتب الأحاديث من الكتب المعظمة والمقدسة التي لا يجوز انتقادها كـاعتبار أن مصنف البخاري من أصح الكتب بعد القرآن.
وكانت امبراطورية المماليك تنظم حفلات وجوائز لكل من حفظ صحيح البخاري، وكان الفقهاء يتلونه ويرتلونه في المساجد تبركًا به حتى أنه بدأ بإرساء عقيدة الاتحاد الصوفية في حديث مشهور يزعم أن الله تعالى قال فيما سماه بالحديث القدسي: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)، ثم شاعت صور التوسل عند المسلمين نتيجة للتصوف، فالأضرحة والمزارات للمسلمين تقابلها تماثيل العذراء والأيقونات لدى النصارى كأساس عقائدي لدى الفريقين مع أن الإسلام منع التوسل والالتجاء لغير الله.
ليس فقط طغيان الخرافة على العقل هو من تسبب بانتشار التصوف والإيمان بمعجزات البشر، بل الفقهاء كانوا يروجون لهذا الاتجاه أيضًا، فبعد موت أي فقيه له وزن ثقيل يتم اختلاق الكرامات والخرافات تعظيمًا لشأنه، فبعد وفاة «محيي الدين ابن تيمية» نسبت له بعض الكرامات وتبرك الناس بنعشه وبماء تغسيله ورأوا له منامات صالحة ودفن بمقابر الصوفية.
كما ساهمت السلطة المملوكية في انتشار التصوف، بتقريب الفقهاء المتصوفين من السلطان بوصفهم حراس الدين والمتكلمين باسمه نظرًا إلى وزنهم الثقيل في الإمبراطوية، بل واعتقدت السلطة المملوكية أنهم قادرين على النفع والضرر، فالظاهر بيبرس بما عرف عنه من صرامة ودهاء عسكري وسياسي، سمح بوجود نفوذ سياسي على حسابه لشيخه الصوفي خضر العدوي، بل وتغاضى عن انحرافات خضر وتجاوزاته، وذلك لأنه يعتقد فيه وفي معرفته للغيب، وهناك من الصوفية من عمل في خدمة السلطة المملوكية وتخلى عن منصبه ليتفرغ للعبادة، فنجد شاهين المحمدي مقربًا لدى السلطان قايتباي فطلب من هذا الأخير أن يسرحه لكي يتفرغ للعبادة، ففعل فساح في بلاد العجم ثم رجع ليقضى بقية حياته في جبل المقطم، ونذكر منهم أيضًا القاضي الشعراني أحد أعمدة التصوف الذي ترك وظيفته وتصوف.
وحاليًا هناك من العلماء المسلمين من يروج لفكرة أن الارهاب الحالي لا يمكن القضاء عليه إلا بنشر التصوف، لكن في رأيي المتواضع أرى أن هناك فرقًا كبيرًا بين العصر الذي شهد طغيان التصوف والعصر الحالي المتميز بإنجازات العقل وأفكار الحداثة وحرية الإنسان وغيرها، فإنسان العصر الوسيط كان رهينة المؤسسة الدينية ولا فرق عند مسيحي ومسلم في هذا الأمر، بل ولا فرق عند شيعي وسني، فالجميع كان متخلفًا حتى ورثنا هذا التخلف بجميع جوانبه، إن القضاء على الإرهاب يتم بنقد الموروث الديني من إعادة تفسير النصوص القرآنية بمنهج علمي موضوعي، ونقد الأحاديث النبوية التي تجيز قتل الإنسان ولو بمجرد الشبهة وكتب التفسير، لأنها أصبحت تستغل من طرف الجماعات الإرهابية دومًا في تبرير جرائمها، مثلما فعلت داعش مع الطيار الأردني الذي أحرقته داخل قفص حديدي واستندت إلى موروث أرعن نسبوه إلى الصحابي علي بن ابي طالب أيام خلافته عندما قام بإحراق الزنادقة، حتى أصبح الأئمة الشيعة يتبرؤون من هذه الجريمة الشنيعة بعدما كانوا من أشد المفتخرين بها على المنابر.