الاسلاموية و مشكلة الديمقراطية


مولود مدي
2017 / 9 / 8 - 19:18     

المبدأ الديمقراطي هو من أحد أرقى المبادئ التي وصل اليها الانسان، بعد تجربة مريرة وطويلة مع الاستبداد والملكية الاقطاعية، فقد كانت هذه الأنظمة تحتكر السلطة بجميع أدواتها، ولم يكن بوسع الشعب المحكوم بواسطتها أن يحاسب حاكمه على تصرّفاته، وكانت صلاحيات الملك غير محدودة ومطلقة، بحيث يمكن له أن يتصرّف بأموال وأملاك الشعب دون أي ضابط مدعوم بـ”الحق الإلهي”، كما كان بامكانه التلاعب بمصير الأمة كاعلان الحروب دون استشارة الشعب، كما كان يسمح بهامش محدود جدّا من الحريّات الفردية، وفي ظل الأنظمة الاستبدادية كان يتم تمرير القرار السياسي ثم يتم تبريره دينيا، فنجد أسطورة الحق الالهي عند أروبا المسيحية ولا خروج عن الحاكم في الامبراطورية الاسلامية، فكان من مميزات النظام الاستبدادي غير الديمقراطي تحالف أهل الدين مع أهل السياسة، وهذا من اجل مصلحة دنيوية، فلا الحاكم يتم التعرض له ولسياسته، مقابل ان يترك للمؤسسة الدينية التصرّف بحريّة في القطيع باحتكار فهم الدين والتكلم باسمه، فأقرب مثال لدينا هو عندما قررت الحكومة المصرية رفع الاسعار ليخرج احد شيوخ الأزهر ليعلن ان القرار هو قرار الهي وما على المصريين الا الدعاء، وعموما كان هذا التحالف كان من اجل اسكات رأي سياسي معارض يدعم نفسه بقراءة متجددة للدين، كما يذكر التاريخ الاسلامي ما حدث لـ ”الجعد بن درهم” في عهد الحكم الأموي أول المسلمين قولا بخلق القرأن وبقدرة الانسان على خلق افعاله وبمسؤوليته عليها، فأرسل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك الى واليه على العراق خالد القسرى يأمر بقتله، فوقف على منبر المسجد يوم عيد الأضحى وأنهى خطبته بقوله ”أيها الناس، انصرفوا وضحّوا تقبّل الله منكم، فاني أريد ان اضحي اليوم بالجعد بن درهم، فانه يقول ما كلّم الله موسى ولا اتخذ ابراهيم خليلا، تعالى الله عمّا يقول الجعد علوا كبيرا” وكان الجعد مربوطا في السلاسل تحت المنبر فنزل اليه خالد القسرى وذبحه بيده في المحراب من الوريد الى الوريد.

مشكلة الاسلامويين مع الديمقراطية هي مشكلة افراغ المصطلحات القرأنية من معانيها، بحيث يخرجونها من السياق ويحمّلونها مالا طاقة لها به، ومشكلتهم الأخرى هي الأصالة الزائدة عن اللزوم، بحيث يقولون أن مثلما لدى الغرب مصطلح الديمقراطية، لدينا نحن أيضا الشورى، في اشارة ضمنية الى عدم حاجة الفكر الاسلامي الى التواصل مع الفكر الغربي بسبب العداء للحضارة الغربية المنتجة لهذه المفاهيم، فقولهم بالشورى يعني انها السبق الاسلامي للديمقراطية، ولاشك عندهم ان الشورى أقوى قيمة ورقيّا من الديمقراطية لأنها مبنية على العلم الالهي، في تناقض واضح بين مبادئ الديمقراطية ومبادئ الشورى على المذهب السنّي كمثال، فهذا المذهب يحتسب السلطة مشيئة الهية بشريةو والقوانين مصاغة مسبقا وموجودة في القرأن وليس بالارادة الجماعية والمجالس التشريعية التي لم يسبق وان عرفها المسلمون، ويجب التنويه أن قوانين الشريعة يجب أن تصبغ بالمذهبية الطائفية فلا يمكن في دولة سنّية مثلا أن يتم فهم الشريعة الاسلامية بمعايير المذهب الشيعي، كما أن الأمير أو الخليفة هو صاحب سلطة مطلقة دون الناس، عكس المبدأ الديمقراطي الذي يقول أن الحاكم متساوي الحقوق والواجبات مع المواطنين وعليه استخدام السلطة لخدمة الشعب وعزله هو ضرورة عندما يستخدم السلطة لأغراض هدّامة، لكن في الفكر السياسي الاسلامي الخروج عن الحاكم هو كفر بحدّ ذاته، والقول بكفر المعارضة السياسية هو في الحقيقة هو نتاج دعاية الفقهاء التي تقول أن الاسلام لم يعرف فصلا بين السياسة والتدّين رغم الفرق الشاسع بين الغاية السياسية وغاية التديّن.

الديمقراطية بالشكل الذي نعرفه حاليا عند المجتمعات الغربية هي نتاج تطوّر ورقي الانسان واسفادته من التجارب التاريخية وتعددها، لذلك القول بأن تواجد ما يسمّى بالديمقراطية الاسلامية هو تكذيب للتاريخ، فلا يمكن لامبراطورية قامت على الغزو، ان تكون ديمقراطية، اضافة أن الديمقراطية تمنع الحاكم ان يستعمل الدين في حكمه لأن ذلك يعني انحياز الحاكم لطائفة معيّنة من البشر ثم سيعني ضياع حقوق الطوائف الأخرى ويبدأ ظهور التفاوت الطبقي بين شرائح المجتمع الواحد مثلما ظهر في العصر الأموي التصنيف الطبقي ”عرب وموالي وخدم وأهل ذمّة” ويكفي فقط دراسة تاريخ الأقليّات غير الاسلامية في الامبراطورية الاسلامية لنعرف انها كانت منقوصة الحقوق، اضافة الى أن التاريخ الاسلامي المليء بحوادث الغزو المتستر بغطاء نشر الاسلام وهذا يعادي الديمقراطية في الأصل والاسلام ايضا فالديمقراطية لا تمنع التبشير بأي ديانة وتسمح لأي دين أو مذهب بالبوح بمعتقداته شريطة الاعتراف بنفس الحقوق لأصحاب الديانات الاخرى وهذا ما سيساعد في تنمية ثقافة الحوار بين أبناء المجتمع الواحد وتصبح الثقافة المتعددة مصدرا لتلاقح الأفكار وتجديدها أما الاسلام فنعتقد ان النصوص القرأنية قد اعترفت بحق الانسان في الايمان والكفر بشرط تحمّل نتيجة خياراته وتمنع البشر عن محاسبة الأخر حول ديانتهم وترفض أي اكراه للأخر على الاعتقاد، فعلى المفكّرين الاسلاميين وأنصار الاسلاموية الاعتراف بان المناخ السياسي في القرون الوسطى لم يكن مساعدا على انتاج فكر ديمقراطي سليم، فالفكر السليم لا يظهر في جو الحروب والغزوات وسلاسل المذابح البشرية بل يجب أن ينهض جيل يدرس هذه الحروب ونتائجها ليخرج بالنتائج والاستنتاجات، ان القول بوجود الديمقراطية الاسلامية لهو قول لا ينطبق على حقيقة أن العرب عاشوا في بيئة جغرافية لا تساعد على قبول المختلف، لقد كانت تلك البيئة تحتاج الى السيف من أجل صراع البقاء وحسم المشاكل، ان التربية الدينية الاسلامية التي أضافت الى شعائر الصلاة والصوم والزكاة والحج وجوب طاعة الحاكم لايمكنها أن تخرج بفكر ديمقراطي، فهذا الفكر جعل الانسان هو المركز وجعل حقوقه مقدّمة على واجباته، أما الفكر الاسلامي فتحوّلت طاعة الحكّام الى أساسيات الدين.

بعد الخلاف السياسي الذي حصل في السقيفة حول من الأجدر بخلافة الرسول في قيادة الدولة الاسلامية التي أسسها تم الاتفاق على تعيين ” أبوبكر ” خليفة للمسلمين فنظر بعض المعاصرين الى ما جرى في السقيفة على أنها عملية انتخابية بالمفهوم الحديث، ونحن نعلم أن الانتخاب هو ألية من أليات الديمقراطية لكن لو نعيد النظر في المدلول التاريخي لاجتماع السقيفة وبيعة ابو بكر تظهر جليا أنهما جريا وفق مبدأ مغاير لا علاقة له بالمبدأ الانتخابي المعروف حاليا، وهذا لأن اجتماع السقيفة لم يكن شاملا لجميع المسلمين وانما اقتصر على زعماء المهاجرين والأنصار، وبالتالي الاغلبية التي تحصّل عليها ” أبو بكر ” كانت أغلبية الحاضرين لمداولات السقيفة وليس أغلبية المسلمين فلم يذكر التاريخ مشاركة ممثلي القبائل حديثة العهد بالاسلام، ولما تمت بيعة ابو بكر في السقيفة من قبل اكثرية الحاضرين اعتبرت بيعته أمرا لا نقاش ولا معارضة فيها، وتم تكفير كل من رفضها والدليل على هذا الأمر الحروب التي شنها اول خليفة للمسلمين ضد القبائل الممتنعة عن البيعة فتم اتهامها بالردة لكن المؤرخين حاولوا التستر على هذه الحقيقة وقالوا ان سبب تلك الحروب هي رفض تلك القبائل دفع الزكاة، فهذا ادّعاء لا يستقيم حتى شرعا فالشريعة الاسلامية لم يسبق لها وأن أجازت قتل المسلم الذي لا يدفع الزكاة.

لو نغوص أكثر في تاريخ دولة الخلافة ونبحث عن الكيفية التي مارس بها المهاجرون والأنصار مهمة اختيار الخليفة فانها لم تكن واحدة فكما قلنا سابقا ان اختيار ” أبو بكر ” تم بحضور زعماء المهاجرين والأنصار، في حين حصل خرق لمبدا الشورى عند تولية ” عمر بن الخطاب ” الخليفة الثاني للمسلمين فتم تعيينه خليفة للمسلمين بوصية من ” أبي بكر ” وعند تعيينه احتج المسلمون على ذلك خوفا من بطش وعصبية ” عمر بن الخطاب ” التي عرف بها عندهم لكن لا الشورى ولا غيرها حمت المعترضين على قرار ” ابو بكر ” فالمعارضين يعلمون تمام العلم أنه ان تصلّبوا في موقفهم سيتم سحقهم بعد تكفيرهم.

و عند تولية الخليفة الثالث ” عثمان بن عفان ” تم التعيين على يد لجنة من ستة صحابة اتفقوا على ” عثمان ” وبالتالي لا ذكر لعامة المسلمين هنا ولكن على ما يبدوا ان أنصار الاسلام السياسي لا يحسنون قراءة التاريخ أو يحاولون التستر عليه لان الشورى لم تكن يوماً سبباً لشرعية أحد، فلو كانت الشورى تعبيرا عن ارادة المسلمين فلما رفض الخليفة ” عثمان ” التخلي عن منصب الخلافة بعد مطالبة المسلمين بذلك ؟ لقد ردّ بـ “والله لا أخلع قميصاً سربلنيه الله ” لذا يرى ان توليته هو ارادة الله وبعد ذلك يخرج علينا الاسلاموييون ويقولون أنه لا دولة دينية في تاريخ الاسلام. !

أما بيعة ” علي بن أبي طالب ” فكانت الاستثناء فتعيين ” علي ” كخليفة للمسلمين كان ناتج عن غليان الجماهير وسيطرة الثائرين على الوضع العام والدليل ما قاله ” علي ” ” للزبير بن العوام ” و” طلحة بن الزبير ” عندما طلبا الاقتصاص من قتلة ” عثمان ” فقال ( كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ؟ ).

لا يمكن مقارنة الديمقراطية بالشورى، فالشورى تعني عدم الانفراد بالرأي وفي عهد الخلفاء تم عرض الشورى على أنها رأي الجماعة، لكن هذا المبدأ يعاني من نقص خطير، فالشورى تحصر حق الاختيار في المسلمين وتمنعه عن أصحاب الديانات الأخرى وهذا أول تناقض مع الديمقراطية التي تعطي حق الانتخاب والاختيار لجميع الناس دون النظر الى انتماءاتهم الدينية، وثانيا لا يمكن القول بأن الديمقراطية عبارة عن صندوق انتخابات، ان الانتخابات هي ألية من اليات الديمقراطية، فلو كان صندوق الانتخابات هو الديمقراطية بحد ذاته، فلماذا اعتبر ” هتلر ” فاشيا ؟ اليست الانتخابات النزيهة هي التي أوصلته الى كرسي الحكم في ألمانيا ؟ ان الديمقراطية تصبح خطرا على الشعوب عندما يتم فصل ألياتها عن مبادئها، فلو نفصل الحرّية عن حكم الأغلبية فسيأتي الى الحكم الفاشي والنازي والداعشي.

ان الشورى لم تكن يوما سببا في شرعية أحد، لقد كان انتقال السلطة في التاريخ الاسلامي يتم بالسيف والحديد والنار، ان الشورى لم ترقى أن تصبح نظاما ووسيلة للحكم، فمبدأ الشورى عندما تم ذكره في القرأن، جاء كتحذير من الله للمسلمين من مغبّة الانفراد بالرأي، وهذه هي ميزة الأحكام القرأنية التي لا تتعلق بالعبادة والتشريعات وهي التعميم وتفادي التفصيل والا لأصبحت حكما شرعيا لا يجوز الاجتهاد فيه، اذ وضع الاسلام أبسط الأسس لقيام حكم سليم، ثم ترك التفصيل للبشر ليجتهدوا فيه حسب ضرورتهم.