المفكرون الثوريون لا يرحلون.. وسيبقى تراثهم وارثهم الفكري والنضالي سلاحا للاجيال القادمة.
طلعت الصفدي
2017 / 8 / 31 - 08:32
حفل تأبين للمفكر الشيوعي د. رفعت السعيد في غزة يقيمه حزب الشعب الفلسطيني
كلمة الرفيق / طلعت الصفدي عضو المكتب السياسي للحزب
الرفيق رئيس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي / سيد عبد العال .
الأخ / الدكتور زكريا الأغا عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية .
الأخ / الدكتور رياض الخضري عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية .
الرفاق والأخوة الحضور قادة العمل الوطني والمجتمع المدني .
باسم فلسطين التي ننتمي اليها.. باسم الأرض التي نتجذر فيها.. باسم الشعب المعلم والقائد الأول... ننحني اجلالا واكبارا، لكل الشهداء الثوريين، المدافعين عن حق الانسان في الحرية والحياة، والذين تصدوا للاحتلال والاستغلال والاستبداد. نحيي اليوم، حفل تأبين للمفكر الشيوعي المصري، والمناضل الوطني الكبير د. رفعت السعيد، الهامة العالية الذي يناطح السماء، بعلمه وثوريته وايمانه الراسخ بالاشتراكية العلمية. وبرغم رحيله القسري عن الحياة، فان جذوره وشخصيته وعظمته تنبع من أرض مصر السمراء، معمدة بالدم والسجون والمعتقلات، وقناعته الراسخة مع رفاقه الشيوعيين، والديمقراطيين في التصدي لظلم الانسان لأخيه الانسان. وتأكيده بان مشاكل المجتمع لا حلول لها في السماء، بل على الأرض، وهي تحتاج لحزب سياسي ثوري، وطليعيين ومفكرين، ملتزمين بالدفاع عن مصالح الجماهير الشعبية، من العمال والفلاحين والمرأة والمثقفين الثوريين في المجالات كافة. ينخرطون مع جماهيرهم، يحرضونهم، ويرشدونهم على طريق الخلاص من الاستغلال والظلم، والنضال من أجل بناء دولة وطنية حديثة، مجتمع تقدمي علماني، دولة المواطنة التي يحكمها القانون وحرية الرأي والتعبير والمعتقد، مجتمع اشتراكي خال من الاضطهاد الفكري، والقومي والطبقي، مجتمع تتمتع فيه المرأة بحقوقها السياسية والمجتمعية، بعيدا عن التطرف والتأسلم .
برغم السجن وبطش السجان في الواحات، وابي زعبل والقناطر وليمان طره، وفي صحارى الجوع والعطش والتعذيب والشمس الحارقة، ومحاولات النظام السلطوي سلخهم عن أهلهم ومجتمعهم، الا أن الشيوعيين المصريين صمدوا في أقبية التعذيب والتشويه، وحولوا مع رفاقهم الشيوعيين الفلسطينيين، المعتقلات لمدرسة حزبية وثقافية، وخلقوا داخل السجون مجتمعا تعاونيا لا تمييز فيه بين الرفاق، سواء بانتمائهم الطبقي، أو الاكاديمي. وعلى الرغم من الاعتقالات المتكررة، للشيوعيين والديمقراطيين المصريين، فلم تفلح السلطة وأجهزة مخابراتها البوليسية الوحشية، ومحاولات كلابها المسعورة نهش لحمهم، وتشويه عظامهم، من أن تنال من عزيمتهم وصلابتهم.
لقد مزج الرفيق رفعت السعيد، النظرية العلمية بالممارسة العملية، فلم يكن منظرا فقط، فكانت حياته مع رفاقه الشيوعيين، مسيرة طويلة من الكفاح، متمسكين بهوية الحزب الفكرية والطبقية ومتسلحين بالعلم والمعرفة، وقناعتهم بأن الماركسية كمنهج ومرشد عمل، هي المخلص الحقيقي من بشاعة ووحشية النظام الرأسمالي، والامبريالية العالمية والعولمة المتوحشة، التي تسعى جاهدة لاستعباد الشعوب ونهب خيراتها.
لقد أدرك رفيقنا الواقع المر الذي يعيشه الشعب المصري، منذ سنوات حياته الاولى، واكتشف الصراع الطبقي، والفروق الشاسعة بين مجتمعات العشش، وبيوت الصفيح، وحياة المقابر، وبين مجتمع القصور، والباشوات والاقطاعيين، وبرجوازية المال والشركات الاحتكارية والبنوك والمصانع، وكيف يُمتص دم الفلاحين والعمال والشغيلة، ويُنهب جهدهم وتعبهم. وفي نفس الوقت، فان دراسته المعمقة للفكر الماركسي، ومعرفته لقوانين التطور، وجدل الحياة، ورصده لمواقف الحركات الأصولية الارهابية التكفيرية التي تتمسح بالدين، وتبحث عن تضليل الناس، وحرفهم عن معركة التحرر الوطني والاجتماعي، واشاعة خزعبلات الجهل والفكر الظلامي الوهابي، مما دفعه ليخوض صراعا فكريا، ومواجهة تيارات التأسلم، وعلى رأسها الاخوان المسلمون.
لقد انتشر أخيرا في العالم العربي والاسلامي، فيروس الارهاب، والتكفير وفتاوى التضليل، والصراع المذهبي والطائفي، ليحولها الى ساحات للصراع الداخلي والعنف، والحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، بتشجيع من الانظمة العربية والاسلامية الرجعية ،وبدعم مطلق من الغرب الاستعماري، والامبريالية الأمريكية واسرائيل الصهيونية، وتحويل المجتمعات العربية الى مجتمعات متخلفة، تغيب فيها لغة العقل والعلم والمعرفة، ويحل مكانها القتل والتدمير، والتفجير لتطال حتى المساجد ودور العبادة، وتتحول فتاوى المتطرفين من الفكر الى العنف الجسدي لكل من يخالفهم الرأي، فتصدى رفيقنا د. رفعت السعيد للإرهاب ومموليه في أبحاثه وكتاباته، وضرورة التمييز بين الدين كإيمان وبين التطرف والتعصب الديني .
وبرغم انشغاله في الهم الوطني المصري، وصراعه مع الاخوان المسلمين، فلم ينس للحظة فلسطين، والواقع الفلسطيني، وتراجع القضية الفلسطينية عربيا ودوليا. وكان دائم المتابعة لنضال الشعب الفلسطيني، وتضحياته دون تحقيق أهدافه الوطنية حتى الآن والتحركات المشبوهة للولايات المتحدة الامريكية. ويحاول برفاقية عالية، على اسداء النصح والمشورة للقيادات الفلسطينية. ولن ينسى شعبنا الفلسطيني عام 1952،كيف استقبل الشيوعيون المصريون المعتقلون في السجون المصرية، بالأناشيد الوطنية والأممية، رفاقهم من قطاع غزة فخري مكي وعبد الرحمن عوض الله وعبد القادر المغربي وسعيد الطحطاوي وعبد المجيد كحيل وحسن ابو شعبان بعد أن صدرت بحقهم أحكاما جائرة بالسجن. وقدموا لهم الدعم والاسناد ، واشراكهم في دورات التثقيف في الفكر والتنظيم، والعمل الجماهيري، ومعرفة قوانين تطور المجتمع وتسليحهم بالفكر الماركسي. كما استقبلوهم في السجون بعد هبة مارس 1955، ضد مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء وعلى رأسهم معين بسيسو الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني في غزة. لقد امتزج نضال الشيوعيين الفلسطينيين، بنضال الشيوعيين المصريين بعد ثورة تموز في العراق، على اثر الخلاف بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، لتشن حملة مكارثية ضدهم، حيث اعتقل العشرات من قطاع غزة في السجن الحربي، وتم ترحيلهم مجددا الى سجن الواحات، وكان في استقبالهم قادة الحركة الوطنية والشيوعية وعلى رأسهم الرفاق د. فؤاد مرسي، د. اسماعيل صبري عبد الله، ود. رفعت السعيد، ود. عبد العظيم انيس وزكي مراد وفخري لبيب وميشيل كامل واديب ديمتري واحمد صادق سعد وصنع الله ابراهيم ونبيل زكي، والمئات من الشيوعيين والمناضلين المصريين .
لقد أكد حزب التجمع الوطني، ورئيسه الرفيق الراحل المناضل الكبير الرفيق خالد محي الدين، في برنامجه السياسي أن الصهيونية حركة عنصرية رجعية، معادية للشعوب العربية وللاشتراكية، وهي جزء لا يتجزأ من المعسكر الامبريالي، وضرورة النضال لفضح وتآمر الرجعية العربية التي ساهمت في خلق القضية الفلسطينية، والعمل على التفرقة ما بين اليهودية كدين، والصهيونية كحركة سياسية عنصرية رجعية، والعمل بين أوساط اليهود بهدف عزلهم عن النشاط الصهيوني .
لقد رحل النجم الساطع، وهو يعطي دروسا للأجيال القادمة، في معنى حب الانسان لوطنه ولشعبه ولتراثه التقدمي، ومعنى ان يكون مناضلا، وكيف يكون ثوريا يهب حياته من أجل القيم الانسانية، قيم العدالة الاجتماعية وحرية الانسان والمساواة بين شعوب الارض. فالمناضل لا يعرف الاستسلام، فرفيقنا السعيد أحب مصر مع رفاقه ،ودافع عن قضاياها، وبرغم تعرضه للقمع والسجن، والظلم والاضطهاد والسجون، فلم تلن له قناة، وبقي يناضل بشرف الثوري، حتى ينعم الشعب المصري والشعوب العربية بالاستقلال السياسي والاجتماعي وبالحرية والاستقرار والتطور حتى اختطفه الموت منا جميعا.
اننا كشعب يناضل من أجل كنس الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967،واقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم طبقا للقرار 194. فبوصلتنا نحو القدس، وأي صراع داخلي لا يشكل خطرا على القضية الفلسطينية فحسب، بل وعلى الهوية الوطنية ووجودنا على ارضنا. الانقسام يشكل خطرا، والحصار يشكل مأساة ومصيبة. ان المسئولية الوطنية والاخلاقية تحتم على طرفي الانقسام، ومعهما القوى الوطنية والمجتمعية كافة، العمل على استعادة الوحدة الوطنية، والتصدي لمجموعات المصالح المستفيدين من الانقسام. ولأننا لا نرى مبررا للجنة الادارية التي شكلتها حماس، ولا للإجراءات التي اتخذتها السلطة بحق أهلنا في غزة، ولا تخدم صمود شعبنا على ارضه بل وتعزز الانقسام، وتزيد من عمق الازمة، فإننا ندعو الأخوة في حركة حماس، حل اللجنة الادارية فورا، وبالتزامن وفي الوقت نفسه، على الحكومة إلغاء كافة القرارات والاجراءات الادارية والمالية التي تم اتخاذها تجاه قطاع غزة، وتمكين الحكومة بعملها والقيام بواجبها ولمدة محدودة، بهدف توحيد مؤسسات السلطة الوطنية، وحل المشاكل المتراكمة، ورفع الحصار عن قطاع غزة، والتحضير لإجراء الانتخابات العامة، كما ندعو الاخ ابو مازن بالبدء الفوري في اجراء مشاورات مع القوى والكتل البرلمانية والشخصيات الوطنية، لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ونؤكد هنا أن المصالحة السياسية هي الأساس في الحفاظ على وحدة الشعب، وعلى المشروع الوطني الفلسطيني.
ان انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني هو مهمة وطنية وضرورة ملحة في هذه المرحلة، وقضيتنا الوطنية بحاجة ماسة لإعادة تشكيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية وجبهوية، لضمان أوسع تمثيل لمكونات المجتمع في الداخل والخارج، وأوسع مشاركة في اتخاذ القرار السياسي، ورفدها بدماء شبابية مؤهلة، وتجديد هيئاتها، مما يتطلب تنفيذ قرار اللجنة التحضيرية، والتشاور لتحديد مكان وزمان انعقاده دون ارتهان انعقاده، بالفيتو من أحد الاطراف، او وضع اشتراطات تعطل انعقاده الضروري، حتى تتجسد وحدة الشعب الفلسطيني، ورسم استراتيجية سياسية وكفاحية، لمواجهة الاحتلال والاستيطان.
ان ممارسات حكومة المستوطنين، وتصريحات نتنياهو بأنه لن يتم اقتلاع أية مستوطنة بعد اليوم، وما صرح به كوشنير مستشار الرئيس الاميركي للرئيس ابو مازن، بأن وقف الاستيطان كشرط لإعادة اطلاق المفاوضات هو ضرب من العبث، والسماح لأعضاء الكنيست المتطرفين لاقتحام المسجد الأقصى، تعكس زيف تحركات الادارة الامريكية الأخيرة، ومحاولاتها استخدام بعض الدول العربية للضغط على القيادة الفلسطينية، وهو ما يتناقض كليا مع قرارات الشرعية الدولية التي أكدت على حل الدولتين، واعتبار الاستيطان غير شرعي. لقد سقطت كل المراهنات على تعديل الموقف الامريكي، منذ أكثر من عشرين عاما من المفاوضات العبثية.
في شهر ابريل عام 2010 ،كان لنا لقاء مع الرفيقين د. رفعت السعيد وحسين عبد الرازق في مقر حزب التجمع، حيث دار نقاش وحوار حول الأوضاع المأساوية التي يعيشها شعبنا الفلسطيني في الاراضي الفلسطينية المحتلة وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصا في قطاع غزة، حيث بادرنا الرفيق رفعت السعيد بسؤالين هامين لماذا لا يغضب الشعب الفلسطيني ضد مضطهديه؟؟ ولماذا لا تتوحد قوى اليسار الفلسطيني في بوتقة واحدة للدفاع عن القضية الوطنية والاجتماعية والديمقراطية؟؟
كل التحية لرفاقنا الشيوعيين في حزب التجمع، ولكل الاحزاب الشيوعية والحركات اليسارية والتقدمية في العالم ونتقدم باسم حزب الشعب الفلسطيني، وقوى شعبنا الديمقراطية والتقدمية باحر التعازي، والمواساة لخسارتنا جميعا، برحيل د. رفعت السعيد ولأسرته وعائلته الكريمة وللشعب المصري العظيم. وسيبقى رفيقنا منارة خالدة لكل الوطنيين والتقدميين، في مواجهة أعداء الشعوب العربية، والتصدي للأفكار الظلامية التي تحاول، أن تحيل مجتمعاتنا مصيدة للتخلف والفقر والمرض والجهل والتبعية.
وشاعرنا الشيوعي سميح القاسم في احدى قصائده: أنا لا أحبك يا موت ... ولكنني لا أخافك ...
أما نحن فنؤكد ونقول: المفكرون الثوريون لا يرحلون.. وسيبقى تراثهم وارثهم الفكري والنضالي سلاحا للأجيال القادمة.
طلعت الصفدي عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
29/8/2017