جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 5538 - 2017 / 6 / 1 - 19:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"هذا المقال هو جزء من دراسة أوسع حول الإسلام السياسي وبخاصة أقسامه المحورية الثلاثة, التركي والفارسي والعربي, وقد سبق نشر أجزاء منه ويليه نشر أخرى, وهو يتناول هنا بشكل خاص المفارقة العامة التي تجعل الإسلام السياسي الشيعي العراقي متخلفا وتابعا بالمقارنة مع الإسلام السياسي الشيعي الإيراني "
في مقالة سابقة ذكرت التالي : على صعيد الإسلام السياسي (1), إن ما يصلح لإيران وتركيا لن يكون بالضرورة صالحا للعراق وذلك نتيجة لإختلاف العوامل البنيوية والبيئوية التي تجعل أحدهما عامل بناء وتجعل الثاني عامل تعطيل وتهديم.
لقد ساعد الوجود التاريخي للدولتين التركية والفارسية على أن يكون إسلامهما السياسي, إسلامَيْن قوميَيْن أو وطنيَيْن, في حين إفتقدت الإسلامات السياسية العربية هذه الصفة الأمر الذي جعلها عرضة لأن تكون تابعة لإحدهما.
من ناحية فكرية وفقهية مفترضة, فإن الإسلام السياسي بشكل عام, وسواء كان تركيا أو إيرانيا أو عربيا, يستند إلى قاعدة فقهية عابرة للحدود القومية والوطنية, غير أن ما يمكن الوقوف أمامه بإهتمام هو أن الإسلامَيْن التركي والإيراني يمتلكان خاصة (قومية) عالية بحكم صلتهما بتجربة وتاريخ وإمتداد وإنتماء لدولتين تمتلكان إمتدادا تاريخيا غير مبعثر, وهي مسألة تفتقدها الإسلامات العربية التي يصعب إنتسابها السياسي لواحدة من الكيانات القومية التاريخية الكبرى, كالأموية والعباسية. والنتيجة إسلام عثماني متوحد وممتد عبر مستقبل لا يملك أية خصومة مع ماضيه, ومثله إسلام سياسي فارسي يمتلك ذات الخواص.
فإذا ما ألقينا بحجر الطائفية والمذهبية في وسط هذه البحيرة الإقليمية فسنجد أن الإسلامات السياسية العربية المبعثرة, اللاقومية واللاوطنية, سرعان ما تجنح للدوران حول واحد من ذينك المركزين اللذين يمتلكان خاصية الجذب بِندية موظفة لمصلحتهما ومُفعلَّة بخطاب سياسي تسوده وحدة الزمن بثلاثية أبعاده.
في قضايا العمالة والتبعيات السياسية سوف يكشف المشهد عن حقيقة إن الإسلام السياسي العربي, بشقيه الشيعي والسني, لن يكون, في الأغلبية من حالاته, غير تابع لإحدى الدولتين اللتين تناوبا على توجيه بوصلة التاريخ السياسي الديني في المنطقة, وأقصد بهما تركيا وإيران, والتي وفر لهما التاريخ قدرة نسبية عالية للخروج من مساحة التمزق المذهبي المُفعَّل ومكن حركاتهما الإسلامية على وضع صياغات إيجابية معقولة لعلاقة السلطة بالدولة والمجتمع*.
لنأخذ حزب الدعوة العراقي مثلا, فلو أن هذا الحزب كان قد نشأ في إيران فلربما كانت فرص نجاحه أفضل بكثير من فرصته العراقية, لكون الظرف المذهبي المحيط, والأقل إحتداما وخصومة وعراكا في الحالة الإيرانية, أضعف من أن يعرقل من إمكانات الحزب الذاتية حتى يكون لها مقام المبادرة والفعل وقدرة الهيمنة على المحيط الموضوعي, إضافة لإمتلاكه الصفة الأهم كونه مهيأ لكي يكون إسلاما قوميا ووطنيا مدعوما بتجربة ذات عمق تاريخي متماسك وغائبة عنه صفة الندية أو الضدية.
إن إفتراض أمر كهذا, اي أن يكون الدعوة حزبا إيرانيا من حيث التأسيس والوظيفة, كان سيجعله كما إسلاميو إيران الذين نراهم في حالة توائم وتجاذب مع الدولة الإيرانية الوطنية وعمقها القومي الفارسي فصارت مهمتهم إعادة تكوين الدولة الإيرانية لا تهديمها مع الحفاظ على صفتها القومية الفارسية التي أدت من جانبها إلى ضبط منهج تصدير الثورة بحيث يتناغم مع مفهوم الدولة الفارسية كمركز للدولة الإسلامية الواحدة المفترض أن تُنتجها مهمة التصدير.
لقد كان حزب الدعوة العراقي أكثر تماسكا في اثناء حكم صدام حسين لكونه كان يمتلك محرك التشغيل الفاعل الذي صنعته له ضديته للنظام كوظيفة تطغى على بقية الوظائف الأخرى مستغلا عمق الخطاب الشيعي التاريخي النقيض مع حالة الدولة العراقية أو المتحفظ عليها. لكن هذا المحرك التشغيلي الفاعل في زمن المعارضة سرعان ما إنتهت صلاحيته حال سقوط النظام الصدامي, بما وضعه في حالة سياسية ضدية خطيرة مع الدولة العراقية ومع مفهوم الوطن العراقي, النقيض لهما أصلا, فراح يقود الدولة من موقع الخصومة بدلا من موقع الحكومة, ومن موقع التبعية الفاقد لأي بوصلة وطنية.
وبدلا من السعي لإعادة تكوين هذه الدولة من جديد, كما فعل إسلاميو إيران, فقد راح الدعوة يتحرك في مساحة تهديم الدولة القديمة غير مهتم ببناء دولة وطنية جديدة, لأنه لا يملك بالأصل مشروعا عراقيا للبناء بل يملك مشروعا نقيضا لحالة الدولة الوطنية الذي يقوم على مفهوم الأمة الإسلامية ذات المركز الإيراني.
ولنتذكر أن حزب الدعوة, ودون الدخول في عِرقية مؤسسيه الأصليين وعلاقتهم بإيران, كان قد تأسس بإعتراف الكثير من قادته, لغرض مقاومة الحركة العلمانية في العراق, وكان حينها النسخة السياسية الشيعية من حركة الإخوان المسلمين, وسوف يزداد إفتراقه عن الحالة الوطنية العراقية و إلتزامه بفقه الثورة الخمينية في إيران بشكل لا يمكن تبويبه في عالم اليوم بغير مفردات أخفها وقعا مفردة التبعية لدولة مجاورة, وهي مفردة لا يمكن وضعها قانونيا إلا في خانة العمالة لدولة أجنبية.
وبدا الأمر سياسيا وأخلاقيا في نهايته وهو يعرض نفسه من خلال نوعين من الإسلام السياسي, إيراني وهو يقاتل من أجل وطنه وعراقي وهو يقاتل ضد وطنه. صحيح أن هناك إجتهادات متباينة حول من بدأ الحرب العراقية الإيرانية, غير ان إنحياز الدعوة العراقي لإيران لم يكن قد تأسس على ذلك الموقف, بل أنه كان قد بدأ قبله.أما مجموعة الحقائق التي تصف المشهد العراقي الإيراني حينها فتؤكد أن الدعوة كان سببا رئيسيا من اسباب نشوء تلك الحرب المهلكة لأنه وضع نفسه مباشرة إلى جانب النظام الإيراني الجديد الذي اسسه الخميني, أما قائده الروحي واحد ابرز مؤسسيه محمد باقر الصدر فقد إعتبر نفسه ومؤيديه جزءا من ذلك النظام ومؤسسا من مؤسسيه داعيا مريديه إلى أن (يذوبوا في الخميني).
وبغض النظر عن الإختلافات الجزئية بين مكونات الحركة الإسلامية السياسية الشيعية فإنها على العموم لا تملك اصلا اية علاقة مع الهم العراقي الوطني بنسخته المعروفة بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة, ذلك ان جذور هذه الحركة تمتد عميقا في مساحة ثقافة المظلومية التاريخية التي وضعت الفقه السياسي الشيعي في موضع الضد وجعلته عاجزا تماما عن مغادرة مساحة المعارضة إلى مساحة الدولة الوطنية.
ويوم إشتدت شكيمة الحركة الإسلامية السياسية في إيران وصار لها دولتها ومشروعها التوسعي المعروف فإن هذه الحركات, ومن ضمنها حزب الدعوة, وبمساعدة من عامل التمزق المذهبي العراقي الذي تفعل وتصاعد بعد الإحتلال, سرعان ما بدأت تعمل وكأنها مندوبة لإيران في العراق بدلا من أن تسعى لبناء كيان عراقي مستقل. إن العامل الموضوعي المتمثل بمشهده المذهبي كان سيتراجع كثيرا لو أن الأحزاب الشيعية التي هيمنت على السلطة كانت تمتلك فكرا ومشروعا وطنيا, وبهذا وجب التعامل مع حالة الفرقة المذهبية وتصاعدها كناتج للعطل الذاتي المتمثل بغياب المشروع الوطني العراقي (2).
إن إسلاميو إيران, كانوا أقدر على الإحتفاط بعلاقات إيجابية مع مفهوم الدولة الوطنية والقومية التي تركها لهم الشاه, وهذه العلاقة وضعت في ايديهم مهمة إعادة بناء الدولة الوطنية والقومية لا تهديمها.
ثم أن هذه الوظيفة خلقت مستوى من الشد الأخلاقي مع الأعراف الأخلاقية, إذ رغم تأشير حالات الفساد المرافقة التي جاءت بعد إستلام السلطة, إلا أن هذا الفساد ظل يدور في مساحته الشخصية, أما في حالة الدعوة, فإن غياب هدف بناء الدولة وغياب الصفة الوطنية والقومية للتنظيم, التي يتحلى بها الإسلام السياسي الإيراني, لا بل ووجوده في موقع الخصم الحاكم للدولة الوطنية مع وجود خطاب نقيض ومعادي وذا خصومة شديدة مع التاريخ العراقي القومي جعلته يفقد بوصلته الأخلاقية فصارالفساد, في جانب كبير منه, حالة عامة وليس حالة شخصية, وحالة سياسية وليست شذوذا أخلاقيا, وحالة بنيوية وليس كحالة مرافقة.
النتيجة أن الحالة السياسية الإسلامية الإيرانية تمتلك خاصية التماسك الوطني القومي الذي جعلها أقدر على عملية بناء الدولة الوطنية. اي جعل لها هدفا (أخلاقيا) متحكما بالسلوك العام للسلطة فصار الشذوذ أقرب لأن يكون نتيجة عرضية في حين أن فقدان الدعوة العراقي وغيره من التنظيمات على شاكلته لهذه الخاصة قد جعله في موقف الضد للدولة الوطنية وغيب تماما نوايا وخطط البناء أو إعادة التكوين وجعل الدولة برمتها ساحة للفساد والتهديم.
هنا قد تكفي المقارنة التالية بين نوعين من الشخصيات وبين نوعين من الإفعال لكي نكون أقرب إلى حديث الوقائع. على مستوى الشخصيات: نجادي الإيراني والمالكي العراقي, الأول وقد خرج من السلطة بنفس القميص الذي جاءها به, والثاني الذي صارت أمواله تعصى على العد.
صحيح ان النظام الإيراني فيه ما فيه من حالات الفساد التي يمكن تفسيرها على اساس كونها من أمراض السلطة وذات علاقة بإستعدادات سلوكية شخصية غير أن الفساد في النظام العراقي هو فساد بنيوي, اي ان النظام هنا هو حالة فساد وليس حالة يرافقها الفساد كواحد من أمراض السلطة, وحتى أن بالإمكان القول ان الفساد في إيران هو نتاج سلطة أما في العراق فإن السلطة هي من إنتاج الفساد, أو بالمفردات العراقية (فاسدة وهي في البيضة) لكون الدجاجة التي باضتها مصابة بمرض إفلونزا الطيور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حديثنا هذا له صلة بما يسمى الإسلام السياسي المعتدل ولا صلة له بتلك المتطرفة أو التكفيرية بشتى تكويناتها وصولا إلى القاعدة وداعش.
ثمة فرصة أخرى لحديث خاص ومختلف عن التيارات السلفية التي تتأثر سياسيا وفقهيا بمركزها السعودي والوهابي مثلما كشفت عنه بشكل واضح أزمة الإخوان المسلمين في مصر في زمن مرسي العياط, حيث وقف الإسلام السلفي إلى جانب حركة السيسي ضد الأخوان مصطفا مع أو تابعا للموقف السعودي.
(2) الحركة الصدرية بحاجة إلى بحث مستقل يعطي إهتماما لهويتها العروبية أولا والمكون الطبقي لجماهيرها ثانيا كونها أقرب إلى تمثيل كادحي الشيعة, في حين يمكن وصف حزب الدعوة بأنه يمثل (أفندية الشيعة) أما باقي الحركات مثل المجلس الإسلامي وحزب الله وعصائب الحق وغيرها فيمكن وضعها في خانة (عمائم الشيعة السياسيين). كما ويجب الإهتمام بموضوعة العمائم السياسية والعمائم غير السياسية في الوسط الشيعي, وهذه الموضوعة يمكن مراجعة بعض أبرز مشاهدها في الصراع الذي دار بين مرجعيتي السيدين محسن الحكيم والخوئي الداعيتين إلى عدم زج الشيعة في المعترك السياسي وبين السيد محمد باقر الصدر الأب الروحي لحزب الدعوة, وهو صراع يمكن ملاحقته حتى في السنوات التي سبقت تأسيس حزب الدعوة, وهذا ما سنفرد له مقالة أخرى أو أكثر.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟