|
فضاء لطيور الموت - قصّة (الحلقة الأخيرة)
محمود الخطيب
الحوار المتمدن-العدد: 5510 - 2017 / 5 / 3 - 00:10
المحور:
الادب والفن
(14)
كان في الشقّة سريران ووسائد، وفي غرفة المعيشة (الصالون) كرسيّان من النوع الذي يستخدم على الشرفات، وفي المطبخ ثلاثة صحون وإبريق شاي مع أربع كؤوس صغيرة وكأسان كبيرتان للماء و"غلاّية" للقهوة العربية مع فنجانين صغيرين. وبالإجمال، كان لدينا ما يكفي للإستمرار دون الحاجة إلى إنفاق الكثير في ظروف لا أعلم كم ستطول الإقامة فيها. في اليوم التالي لوصولي، أخذت موقعي في الجريدة، ووطدت العزم على أن أذهب يوم عطلتها (الأحد) الى درعا والعودة، في اليوم نفسه، مع أسرتي. كان طاقم الجريدة قليل العدد وجديداً عليّ، باستثناء واحد من فريق بيروت هو الزميل الشاعر فيصل قرقطي. أمّا الباقون، وعددهم حوالي ستة أفراد من الجنسين، فقد تمّ توظيفهم من البدّاوي وطرابلس، وهم على قدر من العلم (معلمون ومعلمات) ولكن بدون خبرات صحفية سابقة، الأمر الذي تطلّب منّي بذل جهد إضافي من جهة، وتقليل عدد الصفحات بما يتلاءم مع القدرات المتوفرة من جهة أخرى. إثنان آخران من طاقم بيروت تواجدا في البدّاوي آنذاك، جرى فرزهما، مؤقتا، الى وكالة "وفا" للتعاون مع زياد عبدالفتاح والتواصل مع مكتب الوكالة في نيقوسيا، هما أمل غانم وزوجها غسّان حسام الدين. وهما، بالنسبة إليّ، أكثر من زميلين. إنهما صديقان وتربط فيما بيننا صداقة عائلية منذ التحاقهما ب"فلسطين الثورة" في العام 1978. ولم يخطر على بالي، في يوم، أن يكون لهما إسمان حقيقيان غير الإسمين اللذين أعرفهما. وهما، من ناحيتهما، لم يخبراني طوال السنين العابرة، الى أن التقيت ب"أمل..." في كندا، في نهاية 1992، لتعلمني بأن اسمها الحقيقي هو نوال الحاج، واسم زوجها هو رياض الحسن. في أول "أحد" لي استفقت قبل بزوغ ضوء النهار، وشربت قهوتي على عجل، ومع شروق الشمس كنت على الطريق الساحلي باتجاه الحدود السورية من ناحية طرطوس هذه المرّة، تفادياً للإشتباكات التي كا نت دائرة في الجرود قبل "نهر البارد" بين قواتنا من جهة، وبين المنشقّين وحلفائهم من فلسطينيين وسوريين من جهة أخرى. ومن طرطوس توجهت مباشرة ودون توقف، إلاّ للتزود بالوقود، الى درعا، فوصلتها قبل الظهر. مكثت هناك نحو ساعتين، وعدت مع أسرتي من الطريق ذاته، فكنت في طرابلس قبل الغروب. أمّا على الجبهة، فقد دخل الجيش السوري في الشمال علناً في القتال الى جانب المنشقين و"الصاعقة" و"القيادة العامة" و"النضال الشعبي" وتمكّن هذا التحالف من دحر قواتنا نحو "نهر البارد" بعد وقوع قائدها "أبو طعّان" في الأسر ومن ثمّ نقله الى أحد السجون السورية. كنت عندما أحاول أن أنظر الى ما يجري من نقطة خارج دائرة الفعل وعلى مسافة منها أرى رحى حرب تدور ذات شقّين ، وبوجهين مختلفين: ظاهرها "حرب نكايات" عنوانها "الأسد - عرفات" ولا صلة للثورة بها إلاّ بمقدار التكلفة البشرية الذي ستدفعه من أرواح أبنائها، موالين ومعارضين، في سبيل قائدين ركب كلٌّ منهما رأسه واستخدم موقعه لنفسه؛ وباطنها "حرب مؤامرة" عنوانها "شارون - الأسد" التي حان وقت انجاز شقّها الشمالي المكمّل للشقّ الجنوبي من أجل الإجهاز على الثورة الفلسطينية في حملة مشتركة. وبهذا نوغل نحن، من حيث لا ندري، في اللعبة الدموية الدائرة تحت وهم الإصلاح وبذريعة التصحيح، في حين نكون بالفعل نحفر قبورنا بأيدينا. لعبة أنا منخرط فيها وأحد اللاعبين في المربّع المنوط بي وعلى الجانب الملزم لقناعاتي: لا رغبة لي فيها. ومع ذلك، ينبغي أن أستمرّ في ممارسة دور المنضبط، المؤتمن على عمله بعيداً من ارتكاب حماقة تراكم ضرراً على أضرار، شبيهة بما اقترفه بطلنا "أبو موسى" ورفاقه الذين يتوعدوننا اليوم، من على قمّة جبل تربل، بلقاء عسير في القريب العاجل. ولمّا أعود مسرعاً الى الوضعية السابقة التي غادرتها للحظات، الى الحدث الجارية وقائعه على مساحة الكيلومترات المربعة الممتدة من جبل تربل الى البداوي مروراً بنهر البارد، أجد أنني لم أعادرها في الواقع، وإنما انتقلت الى حالة ذهنية استقصائية يمكن اعتبارها "حالة تنفُّس"، أو "صحوة مصطنعة"، أو "شجاعة في غير أوانها" لا حاجة الى التسلّح بها الغرض منها فقط أن أشير بسبابتي الى حيث ينبغي أن أشير، الى الوجوه ذات الأقنعة متعددة الشكل واللون، حتى وإن كان لا جدوى تُرتجى من ذلك الآن. لقد وقعت الفأس في الرأس، كما يقال. وأنا ما زججت نفسي في ما يجري إلاّ بإرادتي ومعرفتي بحتمية حدوثه، لأن وجود عرفات في خاصرة الأسد سيقضّ مضجع هذا الأخير ولن يجعله ينام ليله هانئاً. في صباح يوم الأحد (1983/11/6)، اقتحم المنشقون وحلفاؤهم نهر البارد من ثلاثة محاور، هي: محور المحمّرة - البارد، ومحور المنية - النبي يوشع - دير عمّار، ومحور حريقص - برج اليهودية - دير عمّار، فأقاموا الحواجز وأعلنوا سيطرتهم على المخيّم. وفي مساء اليوم ذاته، أخلى أبو عمّار مقرّقيادته في البدّاوي وانتقل الى حيّ الزاهرية في طرابلس، ولحقنا نحن به، أيضاً، الى طابق أرضي من بناية في الشارع الرئيسي، في حين آثر العاملون في الجريدة من أبناء البداوي عدم الإنضمام الينا في الزاهرية والبقاء بين ذويهم في المخيّم. وبعد عشرة أيام من القتال الشرس في المنطقة بين قواتنا وقوات المنشقين والفصائل المتحالفة معهم، وبدعم لوائين من الجيش السوري وكتيبة ليبية، تمكّنت مجموعات تابعة للجبهة الشعبية القيادة العامة، يوم الأربعاء الموافق 1983/11/16، من اقتحام البدّاوي والسيطرة عليه. وقام أحمد جبريل بتفقّد المخيم، ثمّ عقد فيه مؤتمراً صحافياً. وبهذا التطور الميداني أصبح المهاجمون على مدخل طرابلس. وراحوا، منذ صباح 1982/11/17، يقصفون مناطق عدّة في المدينة مع تكثيف على الزاهرية حيث يتواجد عرفات. وفي اليوم التالي، اعترف أبو عمّار، في مؤتمر صحافي، بأن المنشقين، بمساندة السوريين والليبيين، سيطروا على "معظم مخيم البداوي"، ثمّ قام بجولة مسائية على مواقع المقاتلين وطلب منهم تحضير انفسهم لشن هجوم معاكس، بقيادته شخصياً، لطرد المنشقين واسترداد المخيم. وختم بالقول: "إن شاء الله سنصلي صلاة الفجر معاً في مسجد البداوي". وروى أحد الذين خاضوا المعركة في تلك الليلة ان القتال كان ضارياً، ودار من شارع الى شارع، ومن بيت الى بيت، بحيث لم نعد نعرف إن كان الرصاص المنهمر والقذائف المنطلقة في كل اتجاه هي منّا عليهم، أم منهم علينا. ومع حلول الفجر، تمّ طرد المنشقين واسترداد المخيم كاملاً، ووقف أبو عمار في المسجد يؤذن ويكبّر ويصلّي. غير أن ذلك لم يدُم طويلاً. فقد جمع المنشقون صفوفهم وعادوا الى مهاجمة قواتنا تحت غطاء من القصف السوري العنيف الذي استمر دون توقف وطاول مختلف المناطق في طرابلس، فأُحرق المرفأ، وشبّت النيران بست سفن راسية في مياهه، ودُمّرت مصفاة النفط في المدينة، عدا عن الأضرار الكبيرة في المناطق السكنية. وكان الغرض من استهداف المدينة بهذا العنف، على ما يبدو، هو إجبار الفعاليات الطرابلسية على المطالبة بخروج قواتنا، لا سيما بعد التصريح الذي أدلى به رشيد كرامي من دمشق، ودعا فيه عرفات الى مغادرة المدينة. كما تمكن المنشقون، تحت الغطاء السوري، من استعادة السيطرة على البداوي والتقدم نحو الزاهرية حيث دارت معارك ضارية. * * * بحلول المساء، دهمنا الخبر عنوة على غير توقّع، وعلى غير رغبة !في سماعه، أو تصديقه: "اللعنة! لقد وصلوا أول الشارع!" للوهلة الأولى صرنا ننقل نظراتنا الى بعضنا البعض. تساءلت: أول الشارع؟ يعني مئة متر! كنّا نسمع اطلاق النار وانفجار القذائف في الجوار طوال النهار، لكننا لم نتوقع أن يصلوا الى هذا القرب منّا: "استعدّوا"، وأضاف ناقل الخبر: "رجالنا يتصدّون لهم، ويتهيأون للإشتباك معهم بالأيدي وبالسلاح الأبيض." تساءلت مرة أخرى: نستعدّ بماذا؟ بأقلامنا؟! ليس لدينا حتى سكاكين لندافع بها عن أنفسنا! كنّا جالسين في صالون الشقة، يلفّنا الصمت، ولكن كلاًّ منّا لا ريب في أنه مثلي، وحيد نفسه. وصارت حياتنا رهينة المئة متر، وتقاس بالقَدَم والشِبْر: كم قدماً، يا ترى، تقدموا؟ وكم شبراً، يا ترى، رددناهم على أعقابهم؟ كنت أرى شحوبي في وجوه الجالسين معي، وأقيس خوفهم بخفقات قلبي المتسارعة. أسرتي هي، وحدها، الحاضرة في عالمي، وهي المهيمنة على كامل اهتمامي الآن. لا الثورة، ولا الوطن. أسرتي هي "الأولويّة". ولقد حاصرتني المعركة المستعرة ومنعتني الإشتباكات من العودة الى منزلي في حيّ الراهبات. أسرتي هي حاضري، وهي مستقبلي، ولا أدري إن كان سيتاح لي، بعد هذه الليلة الملعونة، أن أراها أم لا. أين الثورة في هذا الدم المسفوك؟ هذه ليست معركة من أجل فلسطين حتّى لو رفع رايتها أبو عمار وأبو موسى. فلسطين، ههنا، هي السبيّ المنسيّة والأمّ الثكلى بأبنائها الغارقين في وطيس حربهم على .بعضهم، حرب قابيل وهابيل. ماذا تجني فلسطين، غير طول السبي وحرقة الثكل، من معركة يخوضها عرفات في جرود الهرمل وطرابلس ويعرف أن خاتمتها رحيل آخر؟ وماذا تجني الثورة، غير ملاقاة حتفها، عندما يستأسد أبو موسى بالأسد الذي تآمر على الثورة منذ اليوم الأول لاستيلائة على الحكم في سورية. كنت في حالة الغائب والحاضر في آن. غائب أتابع بسمعي صوت الرصاص والإنفجارات, ففي غياب الأخبار، الصوت هو، وحده، الذي يمكن أن ينبئنا بسير المعركة، باقترابها منّا أو بعدها عنّا؛ فارتفاعه وقوته هما نذير شؤم، وخفوتهما هو الفأل الحسن. وحاضر لعلني أسمع الهاتف يرن ويحمل الينا أخباراً مطمئنة. طال ليلنا ولم تغمض لأحد منّا عين. أحد الحاضرين كان لاوي العنق نحوي، ذابل الجفنين وبنصف إغماضة، ووجهه شاحب. سألته: - ما بك؟ لا أراك كما أنت؟ أجاب متلعثماً بأربع كلمات مبعثرة: - تعبان ... وحاسس ... بحالي ... دايخ. فعرفت انه ثمل. وخمّنت أنه، لشدة خوفه، كان يغافلنا، من حين الى آخر، فيلجأ الى مكان ما في الشقة ليتجرع بعض الخمر، ثمّ يعود دون أن يشعر به أحد. مع الفجر، بدأت حدة الإشتباكات تخفّ، ثمّ تتقطّع. ولم نعد نسمع انفجارات القذائف الصاروخية إلاّ بين الفينة والفينة، فخفّ توترنا وعادت الطمأنينة الى النفوس رويدا رويداً. وفي الصباح، توقّفت المعركة، وجاءنا الخبر اليقين: اتفاق على وقف القتال، وعلى الرحيل (*). __________________
(*) نصّ الإتفاق على أن يكون رحيل قواتنا في 1983/12/14، غير أنه تمّ في 1983/12/21 بطلب من ياسر عرفات. (انتهت)
#محمود_الخطيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (13)
-
فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (12)
-
فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (11)
-
فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (10)*
-
فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (9)*
-
فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (8)*
-
فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (7)*
-
فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (6)*
-
فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة (5)*
-
فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (4)
-
فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (3)
-
فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (2)
-
فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعية بحلقات (1)
-
في حالة ما
-
النكبة 68
-
على شُرفة حلم
-
يوم الأرض (حكاية فلسطينيّة)
-
الضحيّة
-
... ليس كأيّ صيف (أقصوصة)
-
من ذاكرة الحرب (أقصوصة)
المزيد.....
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
-
”أحـــداث شيقـــة وممتعـــة” متـــابعـــة مسلسل المؤسس عثمان
...
-
الشمبانزي يطور مثل البشر ثقافة تراكمية تنتقل عبر الأجيال
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|