سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن-العدد: 5509 - 2017 / 5 / 2 - 00:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الماسونية في منظور علي الوردي
كان من اهم التمازيات التي انفرد بها علي الوردي عن السديم الثقافي الايديولوجي السائد في عصره هو خروجه عن الانساق الخطابية الثورية والايديولوجية الحماسية التي ارتكزت على مفاهيم من التعصب واحتكار الحقيقة والغاء الاخر وعصاب الغرب والتلقين الاعلامي والسياسي , وهذا التفرد لم ياتي من فراغ او قدرات خارقة يمتلكها الرجل بقدر ما جاءت من التماهي المطلق مع القيم التنويرية والليبرالية التي تبناها والحرص عليها وعلى المنهج او المشروع الاصلاحي والثقافي المتفرد الذي نادى به . وكان من اهم تلك التمايزات هو الموقف او الرؤية الخاصة من المفاهيم والمصطلحات التي وفدت من الغرب والرائجة في وقته , فالسديم الثقافي والايديولوجي او ماتعرف بالانتلجنسيا الثورية العراقية التي تبلورت في العراق بعد الحرب العالمية الثانية والمستغرقة في اتون الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي (الليبرالي) والشرقي (الشيوعي) والمنحاز كليا للمعسكر الثاني على حساب الاول , قد اتخذت موقفا لاشعوريا وعصابيا من تلك المفاهيم والمفردات المتعلقة بالغرب وقيمه وانماطه من قبيل الاستعمار والديمقراطية والراسمالية والطبقة الوسطى (البرجوازية) والبرلمان والحرية وغيرها , واخذت تردد ببغاويا ماتروج له الانظمة السياسية الثورية والمؤسسات الثقافية التابعة لها دون وعي او تحقيق , الا ان اهم المصطلحات والمؤسسات الغربية التي اتخذ منها المثقف العراقي منها موقفا عصابيا وعدائيا - محددا سلفا - هو (الماسونية) .
ان الموقف الشائع والشامل الذي اتخذته الانتلجنسيا العراقية من الماسونية هو الموقف نفسه الذي اتخذته الانتلجنسيا العربية الثورية (الشيوعية والقومية والاسلامية) من جانب والحكومات الفردانية والاستبدادية والكهنوت الديني التابع لها من جانب اخر, دون تغيير او تعديل في الرؤية والمساروالمنهج , وهو اعتبارها منظمة عالمية صهيونية يهودية حاقدة على الاديان عموما والاسلام خصوصا , هدفها السيطرة على العالم والتحكم بمقدراته الاقتصادية والسياسية , وتخريب القيم والاخلاق في المجتمعات العربية وجعلها مرتعا للالحاد والفساد والاباحية , , غيرها من السلبيات والاتهامات التي الصقتها بها من خلال الاعلام الحكومي التابع لتلك الانظمة الثقافية والسياسية اولا , والقرارات والقوانين الرسمية التي تجرمها ثانيا . ولم يتم التعاطي معها او دراستها وتبيان حقيقتها بموضوعية وعقلانية او ضمن سياق الافق المعرفي الذي ترتكز عليه تلك المنظمة , وانما ادانتها ببغاويا واتهامها لاشعوريا , ولم يحصل التفرد والعقلانية والدراسة الموضوعية عند تلك الانتلجنسيا الا من خلال كتابات الدكتور علي الوردي .
كتب الدكتور الوردي عن الماسونية في ملحق الجزء الثالث من كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) الصادر في عقد السبعينات من القرن العشرين الماضي , وهو العقد الذي وصلت به المفاهيم الثورية والعصابية ضد الغرب والقيم الليبرالية الى قمتها , بعد اعلان الجبهة الوطنية والقومية التقدمية بين حزب البعث الحاكم والشيوعيين عام 1973 . وقد بين الوردي في كتابه هذا ان الماسونية منظمة اخوية سرية تنويرية ظهرت في اوربا لمواجهة سلطة البابوات المتعصبين والحكام والملوك المستبدين خلال مرحلة عصر التنوير الاوربي , واعلنت اهدافها (الحرية والمساواة والاخاء) (وهى نفس اهداف الثورة الفرنسية الليبرالية عام 1789).
الماسونية (Freemasons) - بحسب الوردي - هى لفظة ماخوذة من كلمة (ماسون) الانكليزية التي تشير الى المعمار او البناء , فيما تعني مفردة (فري) الحر , فتكون بذلك (البنائيين الاحرار) وتلفظ من قبل العامة في العراق (فرصمولي)(ومنهم الرئيس عبد السلام عارف الذي كان يلفظها بهذه الصورة !!) . وقد ارجع البعض تاسيس هذه المنظمة او جذورها الاولى الى نقابة البنائيين الذين بنوا هيكل سليمان في اورشليم عام 1012 قبل الميلاد , الا ان التحقيق العلمي والتاريخي لايؤيد ذلك , وان اصلها ربما يكون الى النقابات التي ظهرت في القرن الثاني عشر الميلادي في بريطانيا بعد الفتح النورماني , حيث شهدت البلاد خلال هذه الفترة ثورة في بناء دور العبادة المسيحية , بلغت اكثر من (500 ) كنيسة خلال عشرين عاما فقط . فيما يذكر راي اخر استنادا الى بعض الوثائق المكتشفة حديثا ان شركة البناؤون الأحرار في لندن قد تاسست عام 1356 وتم اختيار كاتدرائية (يورك) كمقر للمجموعة. وبعد ( 20 ) عاما - اي في سنة 1376 - تم لأول مرة استعمال كلمة (الماسونية ) حيث تم أختياراربعة اشخاص ليمثلوا البنائيين في مناقشات هيئة التجارة , واطلق الوفد على نفسه البناؤون Masonry , ولم يستعمل معها مفردة الأحرار آنذاك . وفي عام 1390 تم كتابة ما يعتبر اول نص ماسوني صريح , وكان عبارة عن (64 ) صفحة من الكتابات المدونة باسلوب شعري مبسط , وهذا النص محفوظ حاليا في المتحف البريطاني , واستمرت الاوضاع على ماهو عليه حتى عام 1717 , حيث شكل هذا التاريخ اهمية كبرى في تاريخ الماسونية , حيث انتقلت فيه من طورها النقابي القديم الى طورها الحديث التنويري , حيث اجتمع في لندن هذا العام نفرا من الماسونيين القدماء , وقرروا تاسيس جمعية جديدة تختلف في اهدافها وطبيعة اعضائها عن عن النقابت القديمة , اطلقوا عليها تسمية البنائيين الاحرار , وبهذا نشات الماسونية بشكلها الجديد الذي يواكب العصر الحديث وتطلعاته ومتطلباته .
ذكر الوردي ان فلسفة الماسونية حول الدين تقوم على على وجود الله وخلود الروح , وانها تكتفي من العضو المنضم اليها الايمان بهذين الامرين فقط , وتترك له حرية العبادة والعقيدة كما يشاء , واختيار اي من الاديان والمذاهب التي يريد , لذا يصح القول ان الماسونية دعوة للتاخي بين الشعوب والمجتمعات والامم المتباينة في الرؤى والمنطلقات والاديان, ومن هنا جاءت مبادئها الثلاث (الحرية والاخاء والمساواة ) . لذا فان ظهورها في بريطانيا لم يكن مصادفة تاريخية بقدرماكان انعكاس للواقع المتجسد في اوربا انذاك , وهو ان لهذه الدولة المسار الابرز والبواكير الاولى لظهورعصر التنوير وانتشار القيم الليبرالية والحقوق الطبيعية في اوربا بعد الثورة الجليلة عام 1688 , والتي تجلت من خلال تنظيرات رائد التنوير الاوربي الاول الفيلسوف الانكليزي جون لوك , وتابعه بعد ذلك التنويريين الفرنسيين امثال روسو ومونتسكيو وفولتير وغيرهم .
في عام 1723 كتب الناشط في محفل اسكتلندا جيمس أندرسون (1679 - 1739) دستور الماسونية ، وهو عبارة عن تاريخ انشائي يضم اربعين صفحة عن تاريخ الماسونية من عهد آدم، نوح، إبراهيم، موسى، سليمان، نبوخذ نصر، يوليوس قيصر (حسب ادعائه) إلى الملك جيمس الأول من إنكلترا، مع وصف تفصيلي لعجائب الدنيا السبع التي عدها إنجازات خالدة ومفصلية لعلم الهندسة والبناء . كما ادرج في الدستور ايضا تعاليم وأمور تنظيمية اخرى للحركة الماسونية ، مع ذكر خمس من الأغاني التي يجب أن يغنيها الأعضاء عند عقد الاجتماعات . فيما قام بنجامين فرانكلين (1706 – 1790) (احد مؤسسي الولايت المتحدة الامريكية ) بعد احدى عشر عاما - اي في عام 1734 - بإعادة طبع الدستورعند انتخابه زعيماً للمنظمة الماسونية في بنسلفانيا (احدى الولايات الامريكية ). ويشكل فرانكلين تياراً جديداً في الماسونية ، وهذا التيار أضاف عدداً من الطقوس الجديدة لمراسيم الانتماء للحركة , اهمها اضافة مرتبة ثالثة للتنظيم الماسوني وهي مرتبة الخبير (Master Mason) للمرتبتين القديمتين المبتدئ وأهل الصنعة . و في عام 1877 بدأ المحفل الماسوني في فرنسا بقبول عضوية الملحدين والنساء إلى صفوف الحركة ، مما اثار نوعا من الخلاف والانشقاق بين محفلي بريطانيا وفرنسا. وكان مصدر هذا الخلاف تحليلاً مختلفاً من قبل الفرعين حول بند دستور الماسونية الذي كتب عام 1723 م والذي نص على مايلي :
(لا يمكن أن يكون الماسوني ملحداً أحمقاً) .
ان الدعوة الى التسامح والمساواة وحرية الاديان والتعددية الثقافية والسياسية التي نادت بها المحافل الماسونية في ذلك الوقت , الذي كانت تسيطرعليه الافكار الاحادية والدينية مع هيمنة البابوات المتعصبين والملوك المستبدين , لابد ان تجلب لها الاعداء والمنافسين من المتضرين والمعارضين لتلك الافكار والقيم الليبرالية والتنويرية , واهمهم الاكليروس المسيحي او المؤسسة الدينية في الفاتيكان . ففي عام 1737 - اي بعد تاسيس المنظمة الماسونية باحدى وعشرون عاما - اصدر البابا كليمنت الثاني عشر بيانا اعلن فيه تحريم الماسونية , واعتبر كل من ينضم اليها مرتدا عن دينه ., ومنذ ذلك الوقت بدا الصراع بين المسيحية الكاثوليكية والحكام المستبدين من جانب والمحافل الماسونية من جانب اخر , واتخذ صورا واشكالا متعددة من التشويه والتهميش الى التخوين والتكفير وانتهاء بالملاحقة والمصادرة والتهجير . وفي تشرين الثاني عام 1983 م صرح البابا يوحنا بولس الثاني ( لا يمكن أن تكون كاثوليكياً وماسونياً في نفس الوقت) , الا ان هذا لايمنع من انتشار المحافل الماسونية في العالم , لاسيما بعد انتشار القيم التحررية والمساواة في العالم , واصبحت تلك المبادىء في موضع اقوى مما كانت عليه سابقا , حيث قدرت دائرة المعارف الدولية عدد المحافل باثنين وثلاثين الف محفل , عدد اعضائها بين الخمسة والستة مليون عضو . ويعتقد البعض أن أقوى دولة علمانية ليبرالية - وهي الولايات المتحدة - قد بنيت أساساً على المفاهيم الماسونية , إذ كان ثلاث عشر ممن وقعوا على دستور الولايات المتحدة عام 1784 - واهمهم بنجامين فرانكلين - وستة عشر من رؤساء الولايات المتحدة - واهمهم جورج واشنطن - هم من الماسونية .
اما في البلدان العربية فان اول دخول لمنظمة الماسونية كان عن طريق مصر ثم بلاد الشام لاحقا . وقد تاسس اول محفل ماسوني في مصر ابان الحملة الفرنسية عليها عام 1798 – 1801 وتلاشى بعد انتهاء الحملة وفشلها في تحقيق اهدافها , ولم يتاسس محفل ماسوني وطني معترف به رسميا في مصر الا عام 1876 في عهد الخديوي اسماعيل , وقد نشر المحفل نشاطاته من خلال مجلة (اللطائف) التي كان يصدرها الماسوني المعروف شاهين مكاريوس , الذي اعتمد عليه الدكتور الوردي كثيرا في كتاباته عن الماسونية . ويعد جمال الدين الافغاني من اشهر المنضمين للمحفل الماسوني المصري في القاهرة , وكان ذلك عام 1875 (ومازالت وثيقة الطلب محفوظة في مكتبة البرلمان الايراني ) الذي استطاع اقناع الكثير من الاعيان والامراء والوجهاء من الانضمام الى تلك الحركة . كما انضم لهذا المحفل تلميذه الشيخ محمد عبده , الذي لم يبقى طويلا فيها , فانسحب لاحقا بدعوى (ان عملها في البلاد التي وجدت فيها العمل قد انتهى , وهو مقاومة الملوك والبابوات ) – بحسب رواية تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا - وهو تاكيد لقولنا السابق في ان هدف الماسونية هو مقاومة السلطات الاستبدادية والتقليدية الدينية . كما انضم لها لاحقا العديد من الشخصيات البارزة من جيل النهضة العربية في مصر وبلاد الشام اهمها السياسي المصري سعد زغلول والثائر المعروف عبد القادر الجزائري - ابان النفي في سوريا - والكاتب جرجي زيدان واديب اسحق وعبد الرحمن الكواكبي ومارون عبود وابو التنوير العربي بطرس البستاني وسامي الصلح وفارس الشدياق والشاعر إبراهيم اليازجي الذي كتب القصيدة التالية في نقد رجال الدين أواخر القرن الماضي :
الخير كل الخير في هدم الجوامع والكنائس
والشر كل الشرِ ما بين العمائم والقلانس
ما هم رجال الله فيكم بل هم القوم الأبالس
يمشون بين ظهوركم تحت القلانس والطيالس
الا ان الحملات والاشاعات ضد الماسونية من قبل الحكام المستبدين والثوريين قد تصاعدت وبخاصة بعد تولي الانظمة العسكرية والشمولية والقومية السلطة والحكم في الدول العربية , وقد استعانت تلك الحكومات بالمؤسسات الدينية والاعلامية التابعة لها في عملية التشوية والاتهام والتخوين , والسبب الاساس يرجع في تصاعد تلك الحملات هو الاحساس بالخطر على مراكزها وسلطاتها الاستبدادية من تلك المنظمات والقيم التنويرية والليبرلية التي تنادي بها . ففي عام 1964 قامت حكومة جمال عبد الناصر في مصر بغلق المحافل الماسونية ومصادرة اموالها وتجريم الانتماء لها , كما اصدر جامع الازهر عام 1984 فتوى هذا نصها :
(أن المسلم لا يمكن أن يكون ماسونياً لأن ارتباطه بالماسونية انسلاخ تدريجي عن شعائر دينه ينتهي بصاحبه إلى الارتداد التام عن دين الله) .
وفي عام 1979م أصدرت جامعة الدول العربية القرار رقم 2309 والذي نص على (اعتبار الحركة الماسونية حركة صهيونية , لأنها تعمل بإيحاء منها لتدعيم أباطيل الصهيونية وأهدافها (كذا) , كما أنها تساعد على تدفق الأموال على إسرائيل من أعضائها , الأمر الذي يدعم اقتصادها ومجهودها الحربي ضد الدول العربية ).
واما في العراق فان دخول الماسونية يرجع الى سنة 1917 ، وهي السنة التي احتل فيها البريطانيون بغداد . فيما ذكر العميد المتقاعد خليل ابراهيم حسين في الجزء الاول من كتابه :"موسوعة ثورة 14 تموز 1958 " ، بغداد 1987 ، " ان الثابت وثائقيا ان اول محفل ماسوني تأسس في البصرة سنة 1918 هو محفل (ميزوبوتواميا)( مابين النهرين ) على يد الضباط والموظفين الانكليز الذين دخلوا العراق مع الحملة البريطانية وبعدها " . وقد علق الوردي حول سبب انتشار الماسونية في البصرة الى طبيعة المدينة المليئة بالاجانب والانفتاح التجاري وتاثير الشيخ خزعل امير المحمرة الذي كان ماسونيا متمرسا . فيما وضع المندوب السامي البريطاني ( السير هنري دوبس ) الحجر الاساس رسميا للمحفل الماسوني ببغداد في 25 تموز 1925 ، وقيل ان ( الكولونيل جاب لاوارد ) - وهو ماسوني كبير - كان الى جانبه . واستمرت المحافل الماسونية قائمة في العراق حتى ثورة تموز 1958 حيث اسرعت الحكومة العراقية الى اغلاقها بدعوى ارتباطها بالدول الغربية وخاصة بريطانيا , وهى بذلك تكون اول حكومة عربية تقوم بغلق المحافل الماسونية . وقد اتهمت المحكمة العسكرية العليا التي تاسست لمحاكمة رجال العهد الملكي برئاسة المهداوي رئيس الوزراء السابق محمد فاضل الجمالي وعبد الجبار فهمي بالانضمام اليها , وقد دافع الجمالي عن الماسونية بشجاعة , ورد على دعواهم بانها جمعية صهيونية يهودية استعمارية تعمل تحت التاج البريطاني بالقول (انها جمعية سرية ذات رموز تستهدف العلاقات الانسانية والخدمة الاجتماعية دون ان تمس دين الرجل او عقيدته السياسية ) ونفى ارتباطها بالاستعمار او الانكليز باي صورة من الصور .
شهد العراق خلال مرحلة العهد الملكي شبة الليبرالي انضمام العديد من الشخصيات المتنفذه للمحافل الماسونية , الا ان اسمائهم لم تعرف او تعلن لان التنظيم الماسوني يعمل في السر اولا , والخشية من المالات والاتهامات الشخصية ثانيا , وقيل ان ابرز المنضمين رئيس الوزراء المزمن نوري السعيد وتوفيق السويدي وبرهان الدين باش اعيان وغيرهم . فضلا عن الكثير من الوزراء والمتنفذين والاكاديميين . وقد ذكر الدكتورابراهيم العلاف بانه تم العثور بعد ثورة تموز 1958على قائمة محفوظة في البنك المركزي العراقي تضم اسماء ( 150 ) عضوا ماسونيا عراقيا بدرجات مختلفة , واغلبهم من الشخصيات المتنفذة والمؤثرة اجتماعيا واقتصاديا وحكوميا , وقد اراد وزير الداخلية عبد السلام عارف فضحهم والقاء القبض عليهم , الا ان عبد الكريم قاسم رفض ذلك, وقال انهم يشكلون خبرات اقتصادية وادارية وعلمية للبلد , ومن الخطا التفريط بهم وجلب اخرين محلهم . فضلا عن عدم وجود مادة قانونية تجرم الانتماء للماسونية في العراق الملكي انذاك , كما ان نادي (الاخوة) في بغداد الذي كان واجهة غير مباشرة لهم يعمل باجازة رسمية وحكومية .
قدر عدد العراقيين المنضمين للمحافل الماسونية - حسبما ذكر العميد المتقاعد خليل ابراهيم حسين في كتابه موسوعة ثورة 14 تموز 1985 - باربعمائة عراقي ، ثلثهم من المسيحيين - منهم اثنا عشر ارمنيا - والثلثين الاخرين مسلمين , ربعهم شيعة وثلاثة ارباعهم سنة , منهم اثني عشر كرديا وثلاثة تركمان , وليس بينهم ماركسيا واحدا . وكان من بين هؤلاء رئيس وزراء واحد ووزراء لايتجاوز عددهم العشرة , وضباط لايتجاوزون الثلاثة , انتموا الى الماسونية عندما خدموا في البصرة وتركوا انتماءهم الماسوني عندما نقلوا خارجها . وكان من بين المنتمين ايضا العديد من النواب والمتصرفين والمهندسين والاطباء والتجار والمحامين والسفراء والمدراء العامين والموظفين من جميع الوزارات وحملة الشهادات العليا (الدكتوراه ) وغيرهم . وبعد انقلاب تموز 1968 تصاعدت الحملة الرسمية والاعلامية ضد الماسونية , تجلت بمظاهر عدة ابرزها اصدار مجلس قيادة الثورة البعثي الحاكم في العراق عام 1975 قرار الحكم بالاعدام لكل من انتسب الى المحافل الماسونية او روج لها , هذا نصه (يعاقب بالاعدام كل من حبذ أو روج مبادئ صهيونية بما في ذلك الماسونية أو انتسب الى أي من مؤسساتها أو ساعدها ماليا أو ادبيا و عمل بأية كيفية كانت لتحقيق أغراضها ). واعتقد ان هذا القرار ربما جاء بعد نشر الدكتور علي الوردي موضوعه الخاص عن الماسونية عام 1972.
اعتبرت الحركة او المنظمة الماسونية بعد الحرب العالمية الثانية وتصاعد وتيرة الحرب الباردة ين المعسكرين الغربي (الليبرالي) والشرقي(الاشتراكي) تهمة فظيعة وسبة خطيرة عند الانتلجنسيا العراقية المازومة الموتورة , فقد كان انحيازها الاعمى للحكومات الراديكالية والقومية والمعسكر الاشتراكي , جعلها تنظر الى جميع القيم الليبرالية والمتعلقات المتلازمة معها نظرة شك وريبة , واصبحت الماسونية تهمة جاهزة تطلق على كل انسان لاينضم الى السديم الثوري و القطيع اليساري انذاك . واما الدكتور علي الوردي فلانعرف على وجه التحقيق هل كان منضما الى الحركة الماسونية خلال مرحلة دراسته العليا في جامعة تكساس في الولايت المتحدة الامريكية ؟ وهل انتمى الى احدى جمعيات الاخوة المنتشرة في الجامعات الامريكية التي قيل بانها واجهة للحركة الماسونية ؟ وهل اراد تقليد رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي الذي انضم الى جمعية الاخوة في الجامعة الامريكية في بيروت في مطلع العشرينات ؟ في الواقع ان تهمة الانتماء للحركة الماسونية قد اشاعها اتباع السلطة البعثية الحاكمة في عقد السبعينات من اجل النيل من الدكتور علي الوردي والاساءة اليه في المحافل الاجتماعية والثقافية على اعتبار ان اصطلاح الماسونية قد تماهى مع النظام المعرفي في المجتمع العراقي بكل سلبيات نظرية المؤامرة القائمة على التخوين والتسقيط والارتباط بالدوائر المشبوهه والصهيونية العالمية واليهودية (كذا)وغيرها , فقد ذكر سلام الشماع – الذي كلف من قبل الحكومة العراقية بمراقبة الدكتور الوردي - بان الاخير عندما قدم كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) (الجزء الثالث) - الذي ادرج فيه الملحق الخاص عن الماسونية - الى رئيس قسم الرقابة والنشر في وزارة الاعلام الشاعر البعثي المعروف حميد سعيد , قال له (انهم رفضوا اجازة كتابك لانك ماسوني) , فامتعض الوردي من عبارة حميد سعيد واراد سحب الكتاب , الا ان الاخير استدرك ذلك بالقول (ان قصده هو المزاح لااكثر ), وذكر حميد سعيد لاحقا انه قد ساهم في الموافقه على طبع هذا الجزء من كتاب اللمحات رغم خوف الكثيرين من الموافقة عليه , وهذا يؤكد ان تهمة الانتماء للحركة الماسونية كانت مشاعة على الدكتور علي الوردي قبل طبع كتابة هذا والملحق الخاص عن الماسونية.
#سلمان_رشيد_محمد_الهلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟