طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5509 - 2017 / 5 / 2 - 00:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بخصوص المسرح الملحمي لبريخت, يؤكد الفيلسوف وعالم الجماليات والتر بنيامين, (Benjamin, (1) أن استجابة المتفرج للمسرح الملحمي هي بهيئة ان: "الأمور يمكن أن تحدث هكذا, ولكن يمكن أن تحدث أيضا بطريقة مختلفة تماما" (2)، واستراتيجية المسرح الملحمي التغريبي هي إنتاج تجربة تتسم بالفضول، الدهشة, والصدمة: اي طرح أسئلة مثل: "كيف يمكن للأشياء ان تحدث على هذا النحو؟ ما الذي أنتج او سبب هذا؟ إنه امر فظيع! كيف يمكننا تغيير الأشياء؟". مثل هذا التساؤل النقدي يتم تشجيعه أيضا من قبل "مونتاج الصور" وسلسلة من التابلوهات النموذجية الاجتماعية التي اطلق عليها بريخت تسمية ال gests. لقد اراد بريخت من مشاهديه التفاعل مع هذه الاحداث الدرامية، وذلك للمشاركة في عملية تنشيط الفكر النقدي الذي من شأنه أن يوفر نظرة ثاقبة في حيثيات المجتمع، ورؤية الحاجة إلى تنفيذ التغيير الاجتماعي الراديكالي.
أمران، في الأساس، ربطا بريخت وبنيامين: التماثل في الخيال التاريخي والتماثل الإنساني. فمثلَ غرامشي, كانا هما كلاهما متميزيين عن الحركة الشيوعية الرسمية لثلاثينيات القرن الماضي بتشاؤم تاريخي عميق الذي هو، وفقا لصيغة رومين رولاند Romain Rolland(ملحمي وكاتب ومؤرخ اساطير فرنسي, 1944-1866), "تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة", والذي يزرع شتلات الأمل، ويرتكز على فهم ديالكتيكي للماضي والمستقبل. فكما هو الحال مع غرامشي, تَشكلَ تشاؤمهما من خلال انتصارات الفاشية. ويبدو ان ألمانيا كانت عازمة على اقامة إمبراطوريتها النازية التي كانت ستعمر على الاقل ألف سنة, على حد تعبير هتلر نفسه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن انحطاط الاشتراكية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية إخمد الشعور بالأمل. وكان التشاؤم استراتيجيا، يهدف إلى توليد الأمل، وليس عن طريق الانتصارات المنظورة أو ارجاع عجلة الساعة الى الوراء, ولكن من خلال السعي الى ابقاء الجنس البشري على قيد الحياة. لم يكن العصر النووي قد ولد بعد، ولكن بريخت تكلم كنبي: "انهم يخططون من قبل لثلاثين ألف سنة...انهم عازمون على تدمير كل شيء. كل خلية حية تنكمش تحت ضرباتهم ...أنهم يعيقون الجنين في رحم أمه". فالولايات المتحدة تهدد الآن بحرب نووية مع كوريا الشمالية وفناء العالم باكمله, علما ان الولايات المتحدة هي التي تهدد وتلعب دور شرطي العالم, وليس كوريا الشمالية!
في صديقه بريخت، اكتشف بنيامين "قوة انبثقت من أعماق التاريخ ولا تقل عمقا عن قوة الفاشية". واكتشف الأثنان التفاؤل في أقدم المعلمين: "الشيء الصلد يتحطم", وهي الحكمة الصينية التي تجسدها قصيدة بريخت Legend of the Origin of the Book Tao-Te-Ching on Lao-Tsu’s Road into Exile (اسطورة اصل كتاب تاو تي تشينغ حول طريق لازو تزو في المنفى, 3) .
كان التاريخ بالنسبة لبريخت ساحة دائمة الحضور، وليس أبدا (كما مع لوكاش) مجرد "الشرط المُسبَق للحاضر". معارك الماضي يجب أن تخاض وتخاض من جديد؛ والا سوف تٌخسر مرة أخرى. في نهاية "المحادثات" (4)، يستعير بنيامين عبارة بريخت: "لا تبدأ من الأشياء القديمة الجيدة, بل ابدأ من الجديدة السيئة!". ونعثر على نفس العبارة في مقال بريخت حول لوكاش، الذي ينتقد فيه لوكاش لتعلقه المستديم بالسادة القدماء وبالأيام القديمة الجيدة للثقافة البرجوازية. في "المحادثات" يتهم بريخت بنيامين بإطالة امد كافكا في احالة نفسه الى لغز. ولكن في مكان آخر يشمل بريخت كافكا ضمن "وثائق اليأس" التي قد يتعلم منها الكتاب الاشتراكيون بسبب ابتكاراتها الأدبية.
بالنسبة الى بريخت, ان المسرح الملحمي هو نتاج الخيال التاريخي. بريخت "مارس الانتحال"، وإعاد كتابة شكسبير و كريستوفر مارلو (Christopher Marlowe كاتب مسرحي وشاعر انكليزي 1593 – 1564)، وذلك لأجل اجراء تجارب بخصوص في ما إذا كان الحدث التاريخي ومعالجته الأدبية يمكن أن يكونا مختلفين أو على الأقل أن يُنظر إليهما بشكل مختلف، إذا أُعيد تقييم (احداث) التاريخ. دراما بريخت تهدف الى "خلخلة" سطوة المأساة والحتمية المأساوية (واني اعتقد اننا بحاجة الى معالحة بريختية لمأساة الامام الحسين لاخراجها من حيز المأساة وحتميتها الى الحيز الذي تصبح فيه المأساة باعثا لاستنهاض البشر وتحررهم من المأساة التي تتحكم فيهم الآن وهم ينصاعوا لها بمازوخية عابرة للآيدولوجيات وتستكملها سادية السلطة كالوجه الآخر للمازوخية): ان مأساة الحسين بروايتها الرسمية الحالية تشكل وصفة جاهزة لنشوء الفاشية (الدينية).
يشكل "التشاؤم التاريخي" نقيض التفاؤل "المتشائم" لكل من يضع إيمانه في التاريخ كحتمية. مرددا اصداء كتابه "أطروحات حول فلسفة التاريخ"، يقول بنيامين: "يمكن للتاريخ ان يحدث بهذه الطريقة، ولكنه يمكن أيضا أن يحدث يحدث تماما بطريقة مختلفة "- وهذه هي الخاصية الأساسية لكل من يكتب للمسرح الملحمي. "إمكانية أن يكون مجرى التاريخ مختلفا سوف تلهم ال tua res agitur في أذهان المتفرجون (في القرن الذي سبق ولادة المسيح، كتب الشاعر الروماني العظيم هوراس قولا حكيما: "“Tua res agitur paries cum proximus ardet." (الترجمة العربية : "إن الامر سيخصك عندما يكون جدار جارك قد شبت فيه النيران". لقد علمنا هوراس بأننا على اتصال ببعضنا البعض - أن البشر مسؤولون عن رفاهية بعضهم البعض، وأن مصائب الآخرين يمكن أن تعرض للخطر كل واحد منا. هوراس يعلّمنا أننا بحاجة إلى الاستجابة عندما يواجه الجيران الخطر - أن العدالة والمحبة تستدعيان منا بأن نهتم باحتياجات ألآخرين في مجتمعاتنا) (5).
كان من الممكن ان يكون التاريخ قد اتخذ مسارا مختلفا؛ وهذا امر في متناول اليد، على الرغم من أن الوسائل المتوفرة تحت التصرف هي طفيفة والصفات المطلوبة غير درامية او غير رومانتيكية. وبالتالي، في استعادة الماضي، فإن الدرامي الملحمي "يميل إلى التأكيد ليس على القرارات العظيمة في مجرى التاريخ الرئيسي, ولكنه يؤكد على ما هو فردي ومتناقض incommensurable. وهنا يكمن التناقض الهائل يين ماركسية ماركس, كما في كورش وبريخت, من جهة, والماركسية الارثودوكسية للاحزاب الشيوعية عموما, من جهة اخرى. فالاحزاب الشيوعية, في مجملها وخصوصا في منطقتنا, لا تزال اسيرة الفهم الميكانيكي الحتمي للتاريخ وتفسير مساره, ناهيك عن تغييره. ان هذه الاحزاب هي في واقع الامر احزاب نيوتينية (نسبة الى الفيزياوي الكبير اسحق نيوتن وفيزياءه الحتمية), ونيوتينية هذه الاحزاب قد سلبتها ماركسيتها ومنهجها الديالكاتيكي واحالتها الى كيانات محتضرة تنتظر انقاذها او انقاذ طبقتها العاملة بواسطة (قيام) المسيح, ظهور المهدي المنتظر (عجل الله فرجه!), او غودو صاموئيل بيكيت. المسيح او المهدي اوغودو هي كلها دالات لمدلول واحد فقط. والمدلول هو "المٌنَتظَر" او "الُمنقِذ". الاحزاب الشيوعية تسقط في مستنقع المثالية ليس لأنها تنتظر فقط, بل لانها اوكلت اداء مهماتها الملحة الآن الى الطبقة المناقضة او النقيض الطبيعي للطبقة العاملة, الطبقة الرأسمالية. انه ليس فقط قصر نظر لهذه الاحزاب. بل انه العمى بالكامل! اليست هي سذاجة ما بعدها سذاجة عندما توكل هذه الاحزاب الطبقة النقيض مهمة ان تُعبّد لها طريق السير نحو انجاز مهماتها التاريخية؟ نعم, ان الرأسمالية تحفر قبرها بنفسها. ولكن السؤال الاول والأخير هو: من سيقبر الرآسمالية؟ فما دامت الرأسمالية "منهمكة" في حفر قبرها بنفسها, فهذا يعني بداهة بقائها على قيد الحياة. وحتي تستطيع ان تستمر في الحفر الى ابد الآبدين, اذا لم تكن هناك قوة قادرة او فاعلة تقوم بقبر الرأسمالية وان يهال التراب عليها. ان ماركسية الاحزاب الشيوعية الارثودوكسية او الرسمية قد تصالحت مع الرأسمالية (تحت مُسميات مثل "الديمقراطية التوافقية"!) بسبب ايمانها بحتمية نيوتينية ان الرأسمالية تحفر قبرها بنفسها! ولكن ماركسية ماركس ترفض الانصياع الى اية حتمية ميكانيكية تنيط بمعتنقيها دور المنتظر السلبي- تفسير العالم وليس تغييره, لان الماركسية هي فلسفة التغيير وليست فلسفة للتفسير كما هو الحال في عموم الفلسفات الاخرى, كما نعلم. وهنا يكمن بالضبط الجوهر الثوري لماركسية ماركس. ان تصالح احزاب شيوعية مع نقيضها يسلبها بالضرورة منهجها الديالكتيكي, وبذلك تصبح كل برامجها, مهما بلغت جزالتها وبلاغتها ومهما كان اطنابها في وصف الواقع, لا تسوى شروى نقير. السؤال الذي ينبغي ان يطرحه ماركسيو ماركس, او من يريد ان يكون احدا منهم, هو: من سيقوم بقبر الرأسمالية عاجلا وليس آجلا, وكيف؟ واذا لم بطرحوا هذا السؤال او ان يسعوا الى الاجابة عليه, فهم من سيقبرون انفسهم بأنفسهم, بمعونة الرأسمالية او بدونها!
ان ماركسية بريخت منسجمة مع افكار ما بعد الحداثة (6) وعلومها ((فيزياء الكم، نظرية الفوضى الرياضية، نظرية الكارثة الرياضية ومنطق غودل Goedel الرياضي ,7). وهي توفر نظاما فكريا ثوريا قادرا على انقاذ الاحزاب الشيوعية من حتميتها النيوتينية-الميكانيكية, التي تجعل من الماركسية صنوا لفلسفة الموت-ان كان للموت فلسفة, بدل كونها فلسفةَ للحياة. وهنا يسترعي انتباهنا "تشدق!" البعض ان حزبهم الشيوعي هو "حزب الشهداء"! ونحن هنا لا نحتاج للاستعانة بفرويد وتحليله النفسي لنقر لأنفسنا ان مفهوم "حزب الشهداء" هو استدعاء لفلسفة الموت وقبر لفلسفة الحياة او للماركسية الحقة باعتبارها فلسفة الحياة. ان ماركسية بريخت وتجسيدها في مسرحه الملحمي هي ما نحتاجه كترياق لانقاذ الماركسية الارثودوكسية من ميكانيكيتها, حتميتها, فكرها الارسطي الشكلي المناقض للديالكتيك, ومن مثاليتها (الميكانيكية) التي تتجلبب بجلباب المادية (الديالتكيكية), و هوسها وعشقها للموت وحنينها المَرضي (pathological) الى الماضي وبعقلية استعمرتها "كنا وكنا!" والتي استفحل وباءها كطاعون البير كامو (8) او حتى ما اكثر بشاعة وقبحا ومناقضةً لما هو جمبل. ان ماركسيتهم هي ماركسية القبح كنقيض للجمال.
ويبدو ايضا ان نظرية وممارسة المسرح المحمي من قبل بريخت منسجمة بشكل او بآخر, وبشكل خفي او غير مباشر, مع ما تدعو له الكاتبة والناشطة الهندية أرونداتي روي Arundhati Roy بان سلطة الشركات سوف تنهار إذا رفضنا شراء ما يبيعونه - أفكارهم، نُسخَهُم من التاريخ، حروبهم، أسلحتهم، حتمية مفاهبمهم. تَذكْر: انهم بحاجة لنا أكثر من حاجتنا إليهم (9)!
يتبع
............
المصادر
1. W. Benjamin
https://plato.stanford.edu/entries/benjamin/
2. Understanding Brecht
W. BENJAMIN
p. ix onwards
https://monoskop.org/images/1/17/Benjamin_Walter_Understanding_Brecht.pdf
3. Bertolt Brecht, Legend of the Origin of the Book Tao-Te-Ching on Lao-Tsu’s Road into Exile
https://vula.uct.ac.za/access/content/group/4662c9ae-5287-4ba3-8688-6a62b7d344ce/All%20Chapters%20Huma%20Dialectic/seminar%203%3A%2013%20August/Brecht%20legend%20of%20the%20origins%20of%20tao%20te%20ching.pdf
4. W. Benjamin: Conversations with Brecht
http://www.versobooks.com/blogs/2820-walter-benjamin-conversations-with-brecht
5. tua res agitur: it concerns you
http://www.lincolndiocese.org/op-ed/bishop-s-column/3135-tua-res-agitur-it-concerns-you
6. Postmodernity And Brecht In Contemporary Theatre Film Studies Essay
https://www.ukessays.com/essays/film-studies/postmodernity-and-brecht-in-contemporary-theatre-film-studies-essay.php
7. Grant, L. H. (1998). Postmodern science and technology. In: S. Sim (Ed.), The Icon Dictionary of Postmodern Thought. London: Icon Books
https://philpapers.org/rec/SIMTIC
8. Troubled times
How The Plague infects the modern political mood
http://www.economist.com/blogs/prospero/2017/04/troubled-times?fsrc=scn/tw/te/bl/ed/troubledtimeshowtheplagueinfectsthemodernpoliticalmood&utm_content=buffer61844&utm_medium=social&utm_source=facebook.com&utm_campaign=buffer
9. arundhati roy
http://www.weroy.org/arundhati.shtml
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟