جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 5445 - 2017 / 2 / 27 - 22:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الفترات التي تلي الهزائم الكبيرة يحدث أن يهرب العقل من مراجعة الذات, لغرض تشذيبها, إلى محاولة البحث عن ذات جديدة لا علاقة لها بتلك التي يلقي عليها سبب الإندحار.
بعد هزيمة العرب الكبرى عام 1967 أمام القوات الإسرائيلية, حاولت نسبة لا بأس بها من المثقفين المصريين الهروب إلى الأمام عن طريق البحث عن إنتماء وهوية خارج مساحة العروبة المنكسرة أمام الغزو الإسرائيلي. كانت أهرام الجيزة على مرمى البصر, أما منظر أبي الهول فكان مغريا على التسمك بهوية ولا أحلى منها. فجأة صرخ أحد أولئك المثقفين صرخة أرخميديسة مٌدَوّية, لقد وجدتها, ثم خرج من حوض إستحمامه, إرتدى أجمل ثيابه, وضع وردة في عروة سترته, رش على نفسه عطرا فاخرا, بعدها ذهب إلى صحيفته ليكتب : المصريون ليسوا عربا بل فراعنة.
وبعد أن أنجز الرجل مقالته الأرخميديسية العصماء إستطاع أن يتنفس من جديد. لقد زرع, بنفسه لنفسه, رئة جديدة لا علاقة لها بالقديمة التي أتلفتها أكاسيد الصدمة.
ثم إذا بالزمن يدور ليشمل العراقيين بعطاياه, فبعد أن تم سحق الهوية العراقية على أيدي الإحتلال والآتين بصحبته, وصار الناس اما قاتل أو مقتول, وأما سارق او مسروق, وإنتقل العراق من زمن اللامعقول إلى زمن المستحيل, فإن البعض من مثقفينا لم تفته الصرخة الأرخميديسية فأعلن أحدهم من الجنوب أن أهله لا علاقة لهم بالعراق والعرب وأن أهل الجنوب هم بالأصل سومريون وبابليون.
ولآن العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه كان موطنا لإمبراطوريات عظمى, لم يجد أحد الموصليين ما يمنعه عن التأكيد على أصوله النينوية الآشورية, ومثله كان الكردي مهيأ للفخر بدمه الآري وإعلان تقززه من كل ما يمت بصلة إلى العراق العربي البدوي, أما التركمان فلم يفتهم التذكير باصولهم التركية.
ثم أتت هزائم ما بعد الكويت, لا لتنال من صدام حسين وحده, وإنما للفكر القومي الذي يمثله, ومن بعدها زاد الإسلام السياسي على سوء الحشف كيلات. دستوريا تقسم العراق إلى مكونات دينية وقومية وتوزع أهله بين شيعي يتغنى بإيران وسني يتغنى بتركيا ومسيحي يتغنى بالغرب, أما الإيزيديون والصابئة, فلم يجدوا وطنا يتكئون عليه غير العراق, وأما الإنتماء العراقي, وهويته العربية خاصة, فقد اصبح سبة يهرب منها البعض محاولة منهم للبحث عن ذات جديدة لا علاقة لها بالذات العراقية المتتالية الإنكسار.
وعلى طريق تأسيس خلفية ثقافية لهذا التشرذم الهوياتي فقد راح البعض يؤكد على أن العراق لم يكن ليمت إلى العرب بصلة, وإنما هو كان قد ذهب ضحية لغزوة بدوية عربية أتت من عمق الصحراء وإحتلت كل ما يجاورها من أراضي وصولا إلى اسبانيا وأرض الصين والهند والسند وكادت أن تعصف بباريس, ولولا رحمة الخالق لكانت جادة الشانزليزية قد تغير إسمها إلى جادة البخاري ولكان حي سوهو شبيه بحي الحسينية, ثم رأينا كيف إمتد الثأر فلم يقف عند الإطاحة بتمثال صدام وإنما هو إمتد ليشمل رأس أبي جعفر المنصور.
أسئلكم هنا.. كم كان عدد العرب المسلمين البدو (الأجلاف) القادمين من عمق الصحراء العربية حينما إختطفوا العراق من مواطنيه المسحيين الأصليين مثلما إختطفوا مصر من مواطنيها الأقباط وأرض سوريا من مواطنيها الفينيقين وأرض لبنان من الموارنة, ثم إذا بهم يغزون أرض فارس لكي يدمروا حضارتها القورشية, قافزين إلى شمال أفريقيا لكي يستولوا على أرض المغرب وليبيا والجزائر ويسلبونها من الأمازيغ سكانها الأصليين.
إن قوما يفعلون ذلك وينتشرون على نصف الكرة الأرضية لا بد وإنهم كانوا وقتها بتعداد يفوق تعداد سكان الصين حاليا, لأننا مع التنظير الحالي أصبحنا أمام ثقافة تقول أن المسلمين العرب القادمين من عمق الصحراء لم ينشروا ديانتهم فقط وإنما عملوا أيضا على إستيطان الأرض وسلبوها من سكانها الأصليين, وهو أمر, مع تعداد أهل الصحراء العرب قبل اكثر من أربعة عشر قرنا, لا بد وأن يراه العاقل مستحيلا.
مثل العرب القادمين من عمق الصحراء, جاء المغول أيضا ليكتسحوا كل ما أمامهم من أراض وأقوام وصولا إلى بغداد, لكن بغداد المسلمة وقتها لم تتحول إلى مغولية لسبب بسيط وهو ان المغولية ليست دينا بل اصول عرقية, وحينما إنسحب المغول ظلت بغداد مسلمة بهوية عربية. وكذلك فإن العثمانيين الذين غزوا كثيرا من أراضي أوروبا كانوا حولوا بعض أهلها إلى مسلمين ولم يحولوهم إلى أتراك. ويوم إنهارت إمبراطوريتهم عاد من عاد إلى دينه المسيحي وظل من ظل على دينه الإسلامي, غير أن الإثنين ظلوا على أصولهم العرقية, وكذلك كانت حال بلاد فارس مع (العرب) في القادسية, فبعد أن تحول الفرس إلى الإسلام فقد ظلوا على هويتهم الفارسية. لقد صار الفرس مسلمين ولم يتحولوا إلى عرب, كذلك ظلت بغداد عربية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية.
المشكلة الحقيقية اننا لم نعد نميز بين الهويات الدينية وبين الهويات القومية والعرقية, وبيين هاتين الهوتين من جهة والهوية الثقافية والروحية على الجهة الأخرى, فبتنا نتعامل مع الديانة كقومية, لنقول مثلا, المسيحيون هم سكان العراق الأصليين وكذلك نقول الأقباط هم سكان مصر الأصليين, ولو أن الأمر على هذه الشاكلة لكان العراق ومصر, لا لهؤلاء ولا لأولئك, بل سيكونا بحكم اليقين للوثنيين والملحديين الذين كانوا هم سكان العراق ومصر قبل إنتشار المسيحية والإسلامية. أما اليوم, وبمناسبة إنتشار الإلحاد في كل من هاتين الدولتين بسبب خيبات أهل الدين المتتالية, عمائم وسياسيين, سيكون من حق الملحدين أن يرفعوا شعار (ايها المسحيون والمسلمون إخرجوا من أراضينا لأننا نحن بالأصل سكان البلد الأصليين).
إن من صالح نائب عن المسيحيين في مجلس نواب دولة المكونات العراقية أن يتحدث عن المسيحيين, لا كديانة فقط وإنما كقومية أيضا, وهو بهذا يرتكب إثمين كبيرين, واحدا بحق أهل ديانته حينما يحولهم إلى أقلية ضئيلة بدلا من أن يكونوا جزءا لا يتجزء من أهل العراق الوطني العلماني, شأنهم في ذلك شأن المسلميين تماما, فالأقلية الدينية ليست أقلية مواطنة, وإن أية دولة تقوم على ذلك هي دولة فاشلة, او كما يقال فاسدة في البيضة. أما الإثم الثاني فهو مساهمته, لأسباب ليس منها الإخلاص لأهل دينه, في منح دولة المكونات الفاسدة مشروعية لا يقدر النائب المسلم أن يحصل عليها لدولته بدونه وبدون ممثل عن الإيزيدين أو الكورد الفيلية.
إن الدخول في مساحة الإلتزام بالهويات الثانوية هو فخ ينصبه اصحاب الهويات الدينية المتغلبة لأصحاب الأقليت الدينية, وإنه لمن المؤسف ان يقع فيها المنتسبون للأقليات الدينية الذين يرتضون لأنفسهم التحول إلى أقلية إجتماعية ويفقدون بالتالي شرعية ان يكونوا من أصحاب الوطن الأصليين والاصلاء.
إن منطقتنا, بما فيها مصر والعراق, هي عربية الثقافة والإنتماء, والمسيحيون فيها, وكذلك الصابئة والإيزيدون, هم مواطنون مصريون وعراقيون, شأنهم في ذلك شأن المسلمين أنفسهم, وإن الطريق لتحقيق ذلك لا يتم من خلال القبول بالتشظي الهوياتي وإنما من خلال التمصير والتعريق أولا, ثم البحث من خلال ذلك, وإعتمادا على أساسيته أو تداعياته, عن المحيط الإقليمي الأوسع الذي لا يتقاطع أو يتعارض مع هذه الأساسيات ولا يؤدي إلى تداعيات ضدية, وإن من الطبيعي أن تكون الهوية العربية حينها خيارا أفضل يوم لا يخلق ذلك الخيار إشكالات متخاصمة مع الهويات الفرعية, دينية كانت أو قومية.
والحال أن الإنكسارات الكبيرة المتتالية وعمليات الإحباط المرافقة وبعدها دخول الفكر السياسي الإسلامي على منظومتنا العربية قد أدى إلى جملة من التداعيات الخطيرة كان في مقدمتها التمسك بالهويات الثانوية والتأسيس عليها لثقافات هجينة لا تحقق الغلبة لأحد, وفي المقدمة منهم أصحاب الديانة المتغلبة, اي المسلمين انفسهم, والذي عليهم ان يقدروا أن تأسيس الدول المتحضرة لا يقوم على أسس دينية بل على أسس الهوية الثقافية الجامعة التي لا تأكل من الهويات الثانوية, بل أنها بكل تأكيد ستكون مصدر قوة لها يوم يكون صاحب الديانة الأقلية هو جزء لا يتجزأ من أكثرية المواطنة ذات الهوية العراقية أو المصرية المتفتحة على محيطها العربي والإنساني.
غير ذلك سيكون البحث عن الإنتماءات الثانوية, عرقية كانت أم دينية, وإعلاء شأنها, هو بمثابة هزيمة من الهزيمة, وليس بمثابة التصدي لمعالجة الهزيمة ذاتها.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟