عامر الدلوي
الحوار المتمدن-العدد: 5425 - 2017 / 2 / 7 - 00:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الموضوع مهدى إلى روح أخي " أبو ماجد - محمد أمين الخياط "
لم يكن لك من العمر سوى إثنا عشر عاما ً , عندما طاف ببالك ذاك الحلم الجميل الذي نشأ مع عودتك من بغداد إلى مدينتك البائسة ( بعد المحاولة القذرة لإغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في منطقة رأس القرية من قبل شرذمة من " الهتلية " ) و أنت طالب في الصف الثالث من المرحلة الإبتدائية وتلقفك من قبل ذلك الأخ الأكبر الذي لم تلده أمك , لكنه شريكك في الرعاية سواء من أبيك أو من أمك , و الذي يكبرك بعدة أعوام رغم كونك إبنهما البكر , الذي لمس فيك ما لمسه الآخرون في بغداد من أقارب و أصدقائهم من العوائل المجاورة من قدرات على القراءة وبلغة فصيحة بليغة حتى في الكتب و المجلدات المخصصة للدراسة في الكليات , و أنت في المرحلة الثانية منها في تلك المدرسة الخالدة معنا ً و إسما ً , " السرمدية الإبتدائية المختلطة " المحاذية لجامع الحيدرخانة .
ليطلب منك أخاك " محمد " أن تقرأ له بعض الأوراق التي تحمل كلمات و معان لم تكن كتلك التي كنت تقرأها في بغداد في صفحات الكتب , بل هذه الوريقات مملوءة بمفردات غريبة على أذنيك و ناظريك , طبقة عاملة , حزب طليعي , شيوعي , العدالة الإجتماعية , النضال المستمر , و ما أن تفرغ من قرائتها حتى يقوم أخاك محمد بحرقها و رمي الرماد على الأرض الترابية للغرفة .
لقد كان " محمد " كريم العين اليمنى , أمي , يعمل مع والدك في محل الخياطة العائد له وسط سوق المدينة , و غالبا ما يعود ليلا ً و معه ورقة أو رقتان من تلك الأوراق , ليبدأ معها مسلسل القراءة والحرق الذي أستمرت ايامه طيلة أعوام 1960 / 1962 و أنت تنمو تدريجيا ً وبدأت تلاحظ تطورات الأحداث اليومية و ما تفرزه من نتائج تقرأ عن بعضها في وريقات " محمد " تلك التي تحرق بعد القراءة .
و " محمد " هذا من قضاء آخر تابع للوائكم يتيم الأب جلبته أمه ليكفله أباك و يعلمه مهنة الخياطة , التي أتقنها بعدذاك و أصبح ماهرا ً فيها , و منه أيضا ً و مع مرور الأيام صرت تعرف ماذا يعني الحزب الشيوعي العراقي , وبدأ يسرد عليك بالتدريج و على قدر إستيعاب مخك الصغير أحداث مرت عبر تاريخ البلد و الحزب , و منه عرفت من هو " فهد " و رفيقيه و المآثرة الكبرى التي أجترحوها في حينه لأجل الوطن و الناس .
تمر الأيام مسرعة مليئة بالمعارك التي تطورت من استخدام العصي الخشبية و الهراوات إلى السلاح الأبيض من سكاكين و خناجر و ما شاكل بين الشيوعيين و من عرفت فيما بعد بأنهم يدعون القوميين العرب ( من مؤيدي " جمال عبد الناصر " والعاملين على المطالبة بوحدة العراق مع مصر و سوريا اللتان كانا قد أعلنا إتحادهما و قيام ما سمي في حينه الجمهورية العربية المتحدة ) أثناء إنتخابات نقابة المعلمين و التي أندلعت يومها في بعقوبة لتمتد إلى المقدادية , و تسارعت الأحداث بعدها لتصل إلى الساعة المشؤومة , الساعة التاسعة صباحا ً من يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان , الثامن من شباط عام ألف و تسعمائة وثلاثة و ستون , عندما حمل المذياع خبر الإنقلاب في بغداد على حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم .
صدمتك الكبرى كانت عندما خرجت إلى الشارع و رأيت الحثالات التي أرتدت الملابس الكاكي الغريبة نوعا ً ما عن ملابس الجيش العراقي و قد وضعوا على ذراعهم الأيمن شرائط خضراء اللون و حملت الحرفين ( ح ق ) باللون الأبيض و أبتدأوا يطرقون أبواب البيوت شانين بذلك أوسع حملة إعتقالات بحق الرجال و النساء للدرجة التي أصبحت فيها شوارع المدينة مقفرة صبيحة اليوم التالي الذي أعلن فيه إستسلام المقاومين المدافعين عن وزارة الدفاع .
لتبتدأ عنها رحلاتك شبه اليومية إلى مركز شرطة البلدة الذي أضحى معسكر إعتقال كبير , و أنت بقيت ( الرجل ) الوحيد المؤهل لحمل ( سفرطاسات ) الأكل لأبناء جيران العمر الذين كان نصيبهم جميعا ً ذكورا ً و إناثا ً الإعتقال و تبدأ معها المغامرات اليومية مع ذلك ( الحارس القومي .. البعثي لاحقا ً ) البدين جدا ً المكلف بحراسة المعتقل و منع وصول المواد و اللوازم الضرورية للمعتقلين ... في اليوم الأول الذي طاردك فيه عبر الممر الرئيس لمركز الشرطة , إنتبه أحد أفراد الشرطة للحالة ممن تبقت لديهم الغيرة و الشهامة و لقنك الدرس المضحك جدا ً للتغلب على هذا البدين الشرير .
- إنتبه بني .. الممر من المدخل و حتى المعتقل طويل نسبيا ً و فيه رواقات جانبية ... ضع ما تحمله في أحدها و تقدم نحوه خالي اليدين ... سيلاحقك محملا ً بكل ما يحفظ من كلمات سباب بذيئة ...و يطاردك حتى المدخل ... لف أنت من الممر الخارجي و تعال و إحمل اللوازم و سآخذها منك لأيصالها للجماعة حسب الورقة المكتوبة فيها . و أستمر في عودتك من الممر الجانبي .. و عندما يعود ولا يجدك سيسألني : أين ولى هذا اللعين ؟ جوابي سيكون جاهزا ً .. تراه الآن في بيتهم يبكي خوفا ً منك .
ما افزعك يومها هو ما سمعته من " محمد " عن التكالب الرجعي ضد الثورة و زعيمها الشهيد عبد الكريم قاسم متمثلا ً بإنصياع بعض القيادات الكردية لمطالب الأغوات الذين تضررت مصالحهم بقانون الإصلاح الزراعي و إبتدأوا بحرب ضد النظام الجمهوري منذ أيلول 1961 و كذلك إنصياع المرجعيات الدينية في النجف لمطالب الإقطاعيين في الوسط و الجنوب و تهديداتهم بعدم دفع الخمس مستقبلا ً الأمر الذي دفع بالمرجع " محسن الحكيم " لإصدار فتواه الظالمة بحق الزعيم الشهيد و حق الحزب الشيوعي العراقي عندما أعلن إن " الشيوعية كفر ٌ و إلحاد " و حرم بذلك الإنتماء للحزب .. رغم يقينه و معرفته إن معظم المنتمين لهذا الحزب من فقراء مقلديه المتجرعين لظلم الإقطاع و البرجوازية .
ترسخ كل هذا ببالك و أنت تسمع آلاف القصص كل يوم حول أشكال و أصناف التعذيب الذي يلقاه حتى الموت الكثير الكثير من الذين قادتهم سوء حظوظهم إلى زيارة حمامات الدم في " قصر الرحاب " الذي تحول أسمه إلى " قصر النهاية " و الذي يعني إن من يدخله يعرف النهاية المحتومة لحياته و عن مئات لا بل آلاف حالات الإغتصاب التي حصلت للنساء و التي وثقها بعد ذاك كتاب " المنحرفون " الذي فضح جرائم الحرس القومي بحق أبناء و بنات شعبنا .
ترسخ كل هذا ببالك و أنت يافع ليكون عامل دفع و زخم للإختيار الصح لمسيرة حياتك المستقبلية و التي سترتبط حتى آخر صعدة للنفس فيها بالدين الذي آمن به حزب الشيوعيين و آمنت به الشيوعية العالمية ألا و هو دين الإنسانية .. دين رفع الظلم البشري الدنيء الذي يمارسه بني البشر بحق أخوتهم في الإنسانية .. كانت أحداث ذلك اليوم المشؤوم و ما تلاها من أيام سوداء في تاريخ شعبنا و وطننا عامل دفع و زخم متواصل لتتحدد بموجبهما مسألة إرتباطك بهذا الحزب الذي قدم أروع الدروس في حب الوطن و الناس طيلة مسيرة وجوده منذ العام 1934 .
ولتكون تلك الأحداث و معايشتك لها و معايشتك و أنت طفل صغير لفترة أواخر عهد النظام الملكي و البؤس الذي كان يلف حياة معظم العراقيين الذين كانوا يرزحون تحت سياط الفاقة و الجهل و المرض و كانت معظم المدن و القصبات بما فيها مدينتنا لم تشهد شوارع مبلطة حتى بداية عهد الزعيم عبد الكريم قاسم و شروق فجر ثورة الرابع عشر من تموز الموؤدة في هذه الذكرى المشؤومة .
لتكون خير رد على من يحاول اليوم تبييض وجه النظام الملكي و إلقاء تبعة ماجرى على العراق من أحداث في سفسطة كلامية و ربطها بأمور غيبية و غبية مثل " حوبة الملك " و " حوبة العائلة المالكة " و " لو كنا قد بقينا على عهدهم لكنا في مصاف الدول المتقدمة " متناسيا ً في الوقت ذاته إن مصاب بريطانيا كان جللا ً بخروج العراق بكل خيراته من تحت سلطتها و إنها سعت للإنتقام حتى ولو ببحور من الدماء و نجحت في مسعاها بالإنسياق الغبي وراء مخططاتها من قبل القيادات المتخلفة للحركة الكردية وفلول الإقطاع في الوسط و الجنوب و المراجع الدينية بشقيها وحزب البعث الفاشي و توحد تطلعاتهم إلتقائهم في " عرس الدم " في هذا التاريخ و أعني به 8 شباط 1963 .
و يشهد على صحة كلامي الواقع المر الذي تقبل العيش فيه على ضفاف " إشطيط " و " الشاكرية " أبناء مدن جنوب العراق النازحين إلى بغداد هربا ً من جور سلطة الإقطاع المتسلط عليهم آنذاك بفعل موالاته للنظام الملكي الذي بدوره يطلق يده عليهم نظير تلك الموالاة و خدمة رجال الدين الشيعة للإقطاعيين ما داموا يدفعون لهم الخمس الذي يوفر لهم رغد العيش لقاء تخديرهم فقراء الفلاحين بأحابيل كالأفيون في قوتها .
#عامر_الدلوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟