|
وداعاً للتشيخوفي عدي مدانات
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 5360 - 2016 / 12 / 3 - 10:56
المحور:
الادب والفن
رحل قبل أيام القاص الأردني المعروف عدي مدانات بعد مشوار حافل بالعطاء، نعاه رفاقه القدامى في الحزب الشيوعي الأردني، وزملائه في رابطة الكتاب الأردنيين،ورموز الأوساط الأدبية الأردنية، كما نعته وزارة الثقافة الأردنية، ووصفه وزير الثقافة الأردني بأنه أحد الرواد الذين أسهموا في ترسيخ فن القصة القصيرة في الأردن، واهتموا بشكل خاص برعاية الشباب وتدريبهم على الكتابة الإبداعية الأصيلة. . برحيل عدي مدانات تفقد الثقافة العربية قامة كبيرة وعلماً متميزاً من أعلامها، غيابه مصاب كبير، ويؤلمني كثيرا هذا الموقف للكتابة عن صديق عزيز بعد رحيله، ولكن عزائي في ذلك هو أن ما تركه من مؤلفات كثيرة ستخلده في قادم الأيام، ستبقى ابداعاته المتميزة ماثلة في ذاكرة القراء بأحرف متوهجة. للراحل تجربة أدبية متميزة، قدم فيها العديد من الروايات والقصص القصيرة والدراسات الادبية ،اهتم بدراستها النقاد أثناء حياته، واعتبره بعضهم في طليعة كتاب القصة العرب لإسهاماته الإبداعية البارزة، ولكونه صاحب أسلوب متميز في كتابة القصة القصيرة، وثيق الصلة بالأمور الحياتية السائدة ، يختار مواضيعه بعناية فائقة من صميم الواقع ، ويعالجها بموضوعية شكلاً ومضموناً، وبهذا يقيم في أعماله علاقة وثيقة بين الادب والحياة بدقة وعمق لا مثيل لهما ... يصور الحياة تصويراً موضوعياً بعيدًا عن المثاليات والتخيل والإنفعالات الشخصية ، ويتلمس في صوره أدق التفاصيل الجزئية للمكان ونبض المشاعر والصلات الإنسانية. . لحسن حظي أنني اطلعت على عدد كبير من قصصه ، وجدتها ذات خصوصية واقعية متميزة ، تلامس قضايا كثيرة شديدة الحضور في نسيج الحياة الانسانية، استوقفني كل ما فيها على اختلاف مواضيعها من حيث اللغة والبناء ، تلمست فيها جماليات فنية تمنح نصوصه رشاقة لغوية بعيدة عن الغموض والتعقيد، وتعرفت فيها على قدرته في انتقاء شخوصة من الواقع ، يتنقل بهم في مشاهد مكانية معروفة ، تدور حواراتهم فيها في نسيج محكم ومتوازن يمتزج فيه السرد بالحوار،معتمداً في كل هذا على عناصر فنية لافتة في بناء الحدث والمشاهد والمتن الحكائي، وفي تشكيل الأمكنة بتراكيب وصفية واضحة لها، ولأهلها وتفاصيل حياتهم وحتى تفاصيل أحاسيسهم الداخلية. . وعلى هذا الأساس اعتمد الراحل عدي مدانات في قصصه على لقطات صور حياتية حقيقية صادقة استلها من أمكنة حولنا، إنتقي شخوصه من الناس الذين يعيشون بيننا من الفقراء والمهمشين والمقهورين والكادحين ، وبخاصة من المرضي وكبار السن الذين قابلهم في مجريات الحياة العادية، إنتقى لهم أسماء ثلاثية وكشف عن وقائع حياتهم التي يعيشونها على مدار أيامهم ، تحسس معاناتهم اليومية وأحزانهم وأحلامهم المسلوبة وأزماتهم الأسرية، وجسدها في مشاهد متلاحمة في نصوصه. . . قصصه وليدة خبرته بالناس ، ومعرفته الثرية بشؤون الحياة ، وبالأمكنة بكل ما فيها من بيوت وشوارع وأزقة وأرصفة ... خبرته وتجاربه واهتمامه المهني كمحامي بقضايا العمال ومختلف القضايا المدنية زودته بافكار لقصص كثيرة مليئة بالمشاغل اليومية الصغيرة، تفيض بأحاسيس وصلات إنسانية بامتدادات وتفرعات كثيرة تجسد عواطف وأحاسيس وهموم شخوصه، سجلها بقدرة تعبيرية عالية سردًا وحوارًا ، واستحضر لها في عمان وفي أمكنة أخرى غيرها مساحات أحداث واسعة بإنجاز بنائي متقن، واقعيتها المتميزة تغوي بقراءة قصصه نصاً ومضمونا. . تتوالى في قصصه مشاهد كثيرة رصد فيها كل ما يتعلق بحياة شخوصه ، بكل ما فيها من أسرار وحكايا وعلاقات وتفاصيل حياتية دقيقة ، أظهرها بمخزون وافر من الدلالات... تعمق في تحليلها من اجل معرفة حركية الحياة... الفرد والظروف المحيطة به عنصران أساسيان في هذا التحليل ... حلل جوانب كثيرة تحليلاً دقيقاً ضمن منظومة تركيبات نصية تزداد تدفقاً وانسياباً للوصول الى حقيقة النفس الانسانية بكل ما فيها من مضامين، لا يقف أمامها لتأملها فقط بل يواجهها كناقد يدعو إلى تغيير الواقع المعاش إلى واقع أفضل، يخلو من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. غني عن البيان بان قصص الراحل عدي مدانات توحي بأنه كان يلتقي في حياته مع شخوص قصصه في مختلف مناطق عمان ، كان يقترب منهم في أغلب الأحيان ، ويتعرف على دواخلهم بفهم عميق وانصاف، كان دوما على مقربة منهم ويصغي لهم ، لا حواجز تفصله عنهم ، كانت له نوافذ كثيرة تتسع على رحابة المجتمع ومساحته الواسعة المليئة بألوان كثيرة من تجارب الحياة ... تجارب نماذج كثيرة من مكامن الواقع ... تجارب أناس يتجمعون حوله ، وشيئا فشيئا يطلون من سطور قصصه،يعيد لهم في نصوصه إحساسهم بانسانيتهم وحماسهم للحياة... يحفزهم على تغيير واقعهم, ويضع خطواتهم على طريق صحيح. . يتوالى أسلوب عدي الواقعي في أعمال قصص كثيرة مزدحمة بافكار عالمه المتوهج ، لا يغرق فيها كغيره بالعموميات والرمزيات والإيحاءات وحكايا التاريخ ، بل يحصر كل عمله بالانسان ، بالكشف عن ما يستتر في داخله واجتلاء مشاعره وأحاسيسه وأماله وتطلعاته، وبكل ما يتصل به من أحداث ومشاهد وقضايا اجتماعية ، يعيد صياغتها في نصوصه من جديد بتأطير سردي ممتع ومؤثر وبناء فني محكم يجعل القارئ متابعا لقصصه حتى نهاياتها ، لا يتركها الا عند أخر فقراتها ، لأنها تذكره بالحياة الحقيقية التي تدور حولنا ، قصصه ليست متعة للقراءة ، بل هي تجسيم للواقع يرى القارئ نفسه فيه. الأسلوب الواقعي الذي أتقنه عدي مدانات ، أعطاه مكانة ريادية في هذا اللون الأدبي ، ثمة شهادات كثيرة من النقاد - منهم الناقد والاديب الفلسطيني الراحل إحسان عباس - تؤكد على انه تشيخوفي النزعة ( نسبة الى أنطون تشيكوف ) ، وأنه ساهم الى حد كبير في تطوير الشكل الفني للقصة القصيرة، ودفعها خطوات إلى الأمام، وجعلها زادًا ثمينا للمكتبة العربية.
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حيفا الكلمة التي صارت مدينة
-
مي صيقلي : مؤرخة من حيفا
-
لابد من تطوان وإن طال السفر
-
أيام في المغرب
-
أيامٌ في الناصرة
-
رواية - دنيا - للروائي عودة بشارات
-
بلغاريا بين الأمس واليوم
-
كتاب اعترافات قاتل اقتصادي
-
أيامٌ في براغ : مدينة الجواهري
-
شباك غرفة نومي
-
الأزهر وداعش وما بينهما
-
مخطوطات عربية مسروقة
-
البنوك الاسلامية بنوك ربوية بامتياز
-
مقتنيات تراثية حيفاوية
-
قراءة في كتاب - إنها مجرد منفضة -
-
ايام في اسطنبول
-
منْ مِثلُكِ
-
الكلمة الصادقة
-
الأوزون وظِلال الحُروب الموحِشة
-
مقتل فنان في بغداد
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|