|
امي المؤمنة ونار جهنّم
موفق كمال قنبر وفي
الحوار المتمدن-العدد: 5348 - 2016 / 11 / 19 - 01:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
امي المؤمنة ونار جهنّم
د. موفق كمال قنبر وفي
بقيت والدتي وحيدة في العراق بعد وفاة والدي الذي عانى طويلا من شلل نصفي نتيجة جلطة دماغية اصابته في الثمانينيات من القرن الماضي ، فحثها الاخوة والأخوات المقيمون خارج العراق للسفر والاقامة معهم. فكان نصيبي ان اقامت والدتي في مسكني في مدينة برمنكهام في انكلترا لفترة قاربت الثمان سنوات وكانت آنذاك في الثمانين من عمرها. كانت امي رمزاً للمرأة العراقية المكافحة والمضحية بزهرة حياتها في سبيل عائلتها ، فقد نجحت في تربيتنا ودفعنا للدراسة حتى حصل سبعتنا على شهادات محترمة من معاهد عليا ومضى بعضنا لاكمال دراسته خارج العراق. كل ذلك رغم الظروف الصعبة التي مرت بها العائلة نتيجة انغماس الوالد بالعمل الوطني وسجنه في سجن نقرة السلمان (1) لثلاث سنوات في ايام العهد الملكي ثم اضطراره للعمل بما دون تحصيله الدراسي كمهندس. كانت والدتي متوقدة الذكاء ومؤمنة ايمانا قاطعا بالدين ولا اتذكر يوما انها كذبت او نافقت او آذت احداً قط ، ولذلك كنت اسميها النبية. عندما سكنت عندي كنت أسألها كثيرا عن ذكريات ماضيها كمعلمة ومديرة لأول مدرسة ابتدائية للبنات في سنة 1936 في لواء العمارة، محافظة ميسان حاليا، في جنوب العراق. كانت تصلّي صلاتها المعتادة كل يوم ، وكنت اتطلع اليها وهي تصلّي كلما سنحت لي الفرصة من فوق حافة كتاب مفتوح اتظاهر بقراءته. كانت قطتنا السوداء سوتي (sooty) التي يدّل اسمها على لون سخام المداخن لا يغيب عنها مشهد الصلاة ، فتجلس قرب ألسجادة قبالة والدتي تتطلع اليها بدهشة متجددة في قيامها وقعودها وسجودها واعتدالها وترديدها الايات القرأنية. نظرت عن كثب الى عيني امي الصافيتين وهي تناجي الله وكانه صديق حميم عرفته منذ الازل فرأيت في الصلاة تواصل، فكأن الصلاة المخلصة صِلة مع إله لا يرى بالعين الظاهرة بل بعين العقل الباطنة . تفكرت في التشابه الغريب بين كلمة صَلاة وكلمة صِلات فقفزت الى ذهني فكرة عجيبة ، فكلمة صِلات بتائها طويلة تعني كما هو معروف تواصل شئ مادي مع اشياء مادية اخرى عبر قنوات اتصال خارجه. فكأن كلمة صلاة بتائها الساكنة المدورة هي تواصل النفس المتأملة مع ما في النفس ، فهي دورة تتواصل فيها الذات المنفصلة عن الوجود مع مافي النفس من امتداد للوجود الكلّي ، ألا وهو الله. كنت واثقاً من أيمانها الصادق بالله فسألتها بعد صلاة العشاء : يُمّه (يا أمّي بالعراقي) هل تخافين الله ، اجابت : بس شلون (كيف) ما خاف الله ... كل مؤمن يخاف الله. عاجلتها بسؤال اخر لا اود فيه احراجها بل لعلي افهم كيف يتوافق الخوف مع الحب : يمّه تحبين الله ، اجابت : طبعاً انّه اقرب الاحباب الى قلبي ، قلت : كيف تخافين الله وتحبّينه في ان واحد ... الا يتعارض الخوف مع الحب ... انا شخصياً لا احب من اخاف منه واعتقد ان الذي يحب من يخاف منه امّا مصاب بشئ من الماسوخية (وهي التلذذ بعذاب النفس) او انه يكذب. اجابت بتروّي بعد ان استوعبت بفكرها التناقض بين الخوف والحب وكنت اعلم انها سوف تقول ما تؤمن به فعلاً من دون تبرير كاذب : اراك قد نظفت ارض المطبخ بعد اسقطت اقداح الشاي على الارض وكسرتها ؟ استغربت سؤالها الذي شذ عن الموضوع ولكني اجبتها : لان اخاف ان تأتي مرتي من السوق مع ابني الصغير وترى الشاي وشطايا الزجاج المبعثر على الارض واخاف على ابني منه ايضاً . قالت : أتحب زوجتك وابنك ، فهمت قصدها فضحكت وقلت : طبعاً. قالت : انا اخاف عدم رضا الله عنّي لأني احبه ولا اخافه لانه يعذّب المخطئين في الاخرة ... لا اخافه حتى ولو كنت قد اخطأت في حياتي. كلام مقنع وعلى راسي ، قلت لها ، ولكن لماذا عذاب جهنّم في الاخرة ؟ لماذا العذاب في نار جهنّم أليس في مقدور الله الذي خلقنا اصلاح عيوبنا التي ادّت الى ارتكابنا الخطايا في الدنيا ... او لعله يفعل ذلك لارواحنا في الاخرة فيعيش الجميع في سلام ووئام ابد الابدين ... في جنّات الخلد طبعاّ ... استطردت بعد ذلك متسائلاّ : قبل لحظة قلت انك لا تخافين عذاب الاخرة حتى لو أخطأت في حياتك ... لماذا؟ نظرت اليّ وخيّل لي ان بريق الذكاء الذي يشع من عينيها العسليتين ينذر بجواب فيه درس من دروس الاقناع بالمنطق الذي عهدته منها في صغري وقالت : هل تؤمن بالروح؟ اجبت : هكذا يقول الدين وعامة الناس ايضاً ، قالت : نعم ... الدين يقول بوجود الروح التي تحتل الجسد وتفارقه لتذهب الى بارئها عند الموت ... اليس كذلك؟ قلت : نعم هذا ما يصدقه من يؤمن بالدين ، قالت : ومن يؤمن بالدين يعرف ان الروح ليست شيئاً مادياً بل هي شئ من عند الله ، قلت : صحيح ، قالت : ما هي النار ؟ استغربت سؤالها فأستفهمت : اتسأليني ما هي النار؟ اومأت برأسها نعم. قلت هي شعلة من مواد ملتهبة تفوق حرارتها عدة مئات من الدرجات الحرارية ، قالت : فهل تؤثر النار بكل شئ مادي ، قلت : طبعاً ، قالت : الروح ليست مادة فهل تؤثر فيها النار ، فهمت قصدها فضحكت ملئ فمي ثم قلت : لا ... فما هو في رأيك تأثير نار جهنم على الارواح الضالة؟ قالت وهي تومئ بيديها بالنفي : لا شئ ابني لاشئ ... العذاب هو عذاب معنوي لأرواح غير معمولة من المادة هدفه الاصلاح ... نار جهنم نارمعنوية تكشف الخطايا وتؤنّب المخطئين. قلت محتجاً : ولكن القران ملئ بأيات الويل والثبور للكفرة والمخطئين الذين سيلاقون عذاباً شديداً في النار... في جهنم التي وقودها الناس والحجارة ... وهي تطلب المزيد ايضاً. قالت : الذي يعرف الاسلام حق المعرفة يعرف ما قلت لك للتو. انقطع الحديث وانشغلت امي برفع سجادة الصلاة وطيّها وركنها على طاولة جانبية. امسكت بسوتي وضمّته اليها ثم نهضت وعلّقت ساخرة : كان يصلّي معي ، ثم جلست بجانبي على الاريكة مقابل التلفزيون الذي كان يبث بالعربية بعض الاخبار من قناة تلفزيونية عراقية. رفعت صوت التلفزيون عالياً لكي تسمع الوالدة بعد ان كان منخفضاً اثناء صلاتها واستغرقت في تفكير وانا اراقب شاشة التلفزيون من دون ان انتبه لما يقوله المذيع. قلت في نفسي ليت كل المسلمين يفهمون الاسلام كما تفهمه امي ... كم هو مخطئ ذلك المسلم الذي يحرص على اداء كل فروضه الدينية ويتبع حرفياً ما شُرّع قبل اكثر من الف سنة ليس لقناعةٍ بل لخوفٍ من عذاب النار. قادني تفكيري الى استنتاج مهم وهو ان الخوف استرايجية طورها الحكّام الظالمون فطوًعوا الدين بمساعدة رجال الدين ليصبح عصا غليضة لقمع وتطويق الارادة الحرة للناس ... هذا امضى واكثر فعالية من شرطة ورجال امن يقمعون اجسادنا ويكممون افواهنا لانه قمع في العقل يصبح جزء من النفس فندافع عنه كأنه جزء منّا... الخوف يخلق انساناً يقتل الارادة الحرة فينقاد بيد من يقمعه طواعاً ليصبح واحداً في قطيع من بشر مثله يذهب الى المجزرة عندما يأتي دوره ... الخوف يخلق انساناً جباناً همّه الوحيد هو تأمين حياته في الدنيا بمجاراة السلطة ومحاباتها والقيام بفروض لا معنى لها والتمسك بشرائع لا صله لها بالواقع لتوقّي عذاب الاخرة ومكان في جنة الفردوس وتقاليد بالية بحجة انها جزء من تراثنا... هذا ما يظنّه ... انه منافق بأمتياز فالحقيقة في اعماق نفسه تقول له انك تكذب ... تكذب على نفسك بمحاباتك للسلطة وتكذب على الله بصلاتك وصيامك وشرائعك المتخلّفة ... انك منافق بل شيخ المنافقين عندما تنبري دفاعاً عن سلطة غاشمة كما في الذين دافعوا وارتكبوا الاهول ضد العراقيين دفاعاً عن صدّام وحكمه الغاشم وكما في تلك المضاهرات هنا في برمنكهام ولندن التي تدّعي الدفاع عن الاسلام ... اسلامهم الوحشي المتخلف تجهر بها صيحاتهم التكفيرية وشعاراتهم التي تمّجد اسامة بن لادن وقتل وسبي الكفّار الذين وهم من اواهم وساواهم بالمواطنين البريطانيين في الحقوق والواجبات. المسلم يعيش في وهم كبير خلقته هذه الايدولوجيات التي اصبحت هي الاسلام ... يجزم رجال الدين اليوم وهم يعتمرون العمائمهم السوداء والبيضاء ان هذا الذي نراه اليوم في الشارع هنا ونسمع من على شاكلته من محطات التلفزيون في الدول الاسلامية هو ليس الاسلام الصحيح ... فالاسلام الصحيح جميل حلو المذاق ومتسامح ... كذب ونفاق ما بعده نفاق ... بل هذا هو الاسلام الذي عرفناه من كتب التاريخٍ نقّح كل مايشوبه من وقائع تاريخية يندى لها الجبين ... وما اكثرها ... درسنا في مدارسنا وجهاً ناصع البياض لخلفاءٍ راشدين وأئمة وصحابة عادلين يذودون عن حرمة الاسلام بدمائهم ... عدل لا فرق فيه بين عربي واعجمي ألا بالتقوى ... كذب مسفّط ... ماضيٍ مجيد ... فتوحات انتصر فيها المسلمون واقاموا دولة يسود فيها العرب المسلمون ويدفع فيها اهل البلاد المفتوحة الجزية صاغرين ... وخلفاء المسلمين استعبدوا الناس واذاقوهم المر وتربعوا على عروش فوق الجماجم تحيطهم الجواري والغلمان. أن من يصدّق ويجلّ هذا التاريخ الكاذب ويؤمن بما شرّع في الدين لتبرير كل سيئاته لمصلحة حكامه المستبدين يعيش في ضياع لأنه في حلم يقظة لا يمكن من خلاله معرفة واقع العصر الذي يعيشه ... وفي خظم هذا الضياع يلجأ الى الانغلاق والتقوقع في ملجئ نفسي يغلق فيه عقله عن الواقع مع جماعةٍ على نمطه السلفي ... ناصع البياض كأثوابهم القصيرة وفكرهم الدموي المسموم الذي يعادون ويكفّرون به كل من هو خارج هذه القوقعة المنغلقة ... هذا هو حالنا اليوم مع الجماعات الارهابية وفكرها التكفيري المتطرف. انتبهت امي لشرود فكري وقالت : وين رحت ... بماذا تفكّر ، قلت : لا شئ ... بس أنتي وأسلامك يمّه على راسي.
(1) نقرة السلمان حصن حدودي نائي في الصحراء الغربية بناه الانكليز ايام الانتداب البريطاني في العراق بعد الحرب العالمية الاولى لصد هجمات الوهابيين على المدن العراقية المحاذية للصحراء مثل النجف وكربلاء ، وقد تجول هذا الحصن في ما بعد الى سجن للمعارضة السياسية.
#موفق_كمال_قنبر_وفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عراقي
-
شيخ الازهر والطالب النجيب قصة قصيرة ذات عبر
المزيد.....
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|