|
في ذكرى خالد العظم: رائد القومية الاقتصادية في سوريا
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1408 - 2005 / 12 / 23 - 06:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في 18 تشرين الثاني 1965 مات في بيروت خالد العظم، رئيس الوزراء السوري ست مرات، وواحد من رجال الدولة النادرين في تاريخ سوريا المعاصر. في ذكراه، وعلى خلفية السجال الجاري حول العلاقة السورية اللبنانية، تستعيد هذه المقالة قصة الانفصال الجمركي بين سوريا ولبنان الذي اتخذته حكومة العظم في 14 آذار 1950، الأب الذي لم يعقب للقومية الاقتصادية السورية. تضمن قرار مجلس الوزراء السوري الذي أعلن إلغاء الوحدة الجمركية بين البلدين البنود الأربعة التالية: "1- تطبيق أنظمة القطع على العمليات التجارية بين سوريا ولبنان وعدم السماح للأشخاص السافرين المسافرين إلى لبنان أو القادمين منه أن يخرجو او يدخوا أكثر من خمسين ليرة من النقد السوري؛ 2- منع نقل البضائع من لبنان إلى سوريا باستثناء البضائع العابرة (ترانزيت) والبضائع المعفاة من الجمرك والمحروقات؛ 3- إقامة مراكز جمركية ومراكز مراقبة على الحدود السورية اللبنانية؛ 4- منع سفر السوريين [إلى لبنان] إلا بإجازة عند الضرورة". والبند الأخير يستهدف تقليل عرض الليرة السورية في السوق اللبنانية، المترتب على لجوء الأثرياء السوريين إلى لبنان للاصطياف واللهو (بما في ذلك لعب القمار، حسب العظم ذاته). ومعلوم أن أحد مقدمات الانفصال الجمركي هو الانخفاض المطرد لسعر الليرة السورية مقابل نظيرتها اللبنانية وخسارتها قوتها الابترائية، بعد أن كان لهما السعر نفسه أيام الانتداب. لم أقدمت حكومة العظم على هذه الخطوة؟ لم يصدر موقف العظم عن نزعة سوروية معادية للبنان، ولا عن نزوع عقابي تستسهله دول كبيرة نسبيا حيال دول أصغر منه. كان الرجل محبا للبنان ويعرفه جيدا، ولطالما قضى الصيف فيه، ولطالما تمتع هو نفسه بما تتيحه البنية التحتية اللبنانية للاصطياف والسهر من مباهج، لم تكن متاحة في دمشق. لقد كان رجل دولة عقلاني يسعى وراء مصلحة البلد الذي يقوده. كان "المليونير الأحمر" رأسماليا سوريا، معنيا بتعزيز فرص التراكم الرأسمالي في بلده. يستخلص المرء من قراءة مذكرات العظم أن حكومته كانت تعتبر أن الوحدة الجمركية تسببت في استنزاف الاقتصاد السوري بآليات متعددة: (1) تفاوت التطور بين البلدين في ميادين السياحة والاصطياف والعلاقة مع الموردين الأجانب (لم يكن ميناء اللاذقية قد افتتح – سيدشنه بعد قليل العظم ذاته) والقدرات البشرية لصالح لبنان؛ (2) إصرار البرجوازية اللبنانية، والبيروتية بصورة خاصة، على رفض الوحدة الاقتصادية الكاملة والإبقاء على الوحدة الجمركية التي تخدم مصالح الرأسمال اللبناني وحده. ويجد التعارض بين مصالح البرجوازيتين السورية واللبنانية تعبيره في المذهبين الاقتصاديين المعتمدين فيهما، حيث سياسة "الباب المفتوح" في لبنان، وسياسة الحماية في سوريا. كانت البرجوازية السورية تسير خطوات أولى على طريق التصنيع بعد أن استفادت من الحرب العالمية الثانية وتنامي حاجات جيوش الحلفاء لتحقيق درجة من التراكم الرأسمالي. وخالد العظم نفسه أنشأ، مع شركاء آخرين، شركة الاسمنت في دُمَّر قرب دمشق. كذلك كانت تلك الفترة بداية التوسع الزراعي والمكننة في الجزيرة السورية ذات الأراضي الخصبة. بالمقابل كانت البرجوازية اللبنانية تجارية ومصرفية في الأساس، تعتمد على السمسرة والترانزيت والسياحة. وكانت بيروت وضواحيها ملهى الأثرياء السوريين. في لقاء له مع رئيس الوزراء اللبناني حسين العويتي في أواخر آذار 1950 من أجل حل الخلاف الذي افضى إلى الانفصال الجمركي قال خالد العظم إن الأسس التي لا تقبل أية حكومة سورية الابتعاد عنها في مجال السياسة الاقتصادية هي: "(1) السياسة الاقتصادية الموجهة، المبنية على تحديد أنواع البضائع غير الضرورية، وفرض رسوم جمركية مرتفعة عليها، وعلى منع استيراد البضائع التي تصنع المصانع السورية المقدار الكافي منها، وتنشيط التجارة السورية وتوجيهها نحو الاستيراد والتصدير مباشرة من الخارج وإليه، وحماية الزراعة وزيادة الأراضي المزروعة". ويعلق: كانت هذه السياسة مخالفة لمبدأ "الباب المفتوح" الذي كان ينادي به تجار بيروت. "(2) حماية النقد السوري وتعزيزه ومنع السوريين من إنفاق أموالهم جزافا في لبنان، وتأمين القطع اللازم لتسديد أثمان مستورداتنا". ويقول إن "هذه النقطة أيضا كانت غير منسجمة مع رغبات لبنان". نجد هنا عناصر أساسية لقومية اقتصادية، سوف تغرقها منذ أواخر الخمسينات أمواج القومية السياسية والثقافية. بعد قليل، عام 1951، سيبادر العظم إلى تدشين مرفأ اللاذقية ليمنح القومية الاقتصادية ركائز فعلية. في كلمته التي ألقاها في حفل تدشين المرفأ قال العظم: "هنيئا لمن له شبر أرض في اللاذقية"، معارضا القول المشهور: "هنيئا لمن له مرقد عنزة في لبنان". ووجه القرار باستياء لبناني متوقع، أسبابه اقتصادية؛ كما باعتراض أصوات سورية لأسباب إيديولوجية. في كلمة ألقاها يوم 15 آذار 1950 امام "الجمعية التأسيسية"، قال حسني البرازي: "إن القدرة الإلهية جعلت لبنان وسوريا جزئين يتمم أحدهما الآخر. والغريب أنه بينما تتكلم هذه الجمعية عن الوحدة العربية نفاجأ بالانفصال والقطيعة.. فالقضية ليست اقتصادية وأرقام.. هناك الوجهة السياسية القومية التي يجب أن تعطى ما تستحق من الاهتمام.. ودولة الرئيس قام بعملية ارتجالية إرضاء لبعض التجار واصحاب المصانع". ينتمي البرازي إلى واحدة من أربعة أسر إقطاعية واسعة الأملاك في ريف مدينة حماة وسط سوريا، كان الفلاحون فيها أقنان حقيقيون. يمكن فهم ازدرائه "للاقتصاد والأرقام" بموقعه كمالك أراض كبير من جهة، وعلاقة المنافسة بين أسر الأعيان الملاكة و"التجار وأصحاب المصانع" من جهة أخرى. فيما بعد سيتحول كلام من هذا النوع إلى عقيدة رسمية لنخب سلطة، تجهل الاقتصاد وتمجد "الوجهة السياسية القومية" التي تمنحها سلطة مطلقة لا تناقش. في حفل افتتاح مرفأ اللاذقية، اقترح رئيس بلدية المدينة تسمية شارع باسم خالد العظم. رد رجل الدولة "البرجوازي" قائلا: "لا يصح في رأيي تسمية شارع باسم الأحياء، لأنهم قد يقدمون فيما بعد على عمل غير طيب يجعل الندامة تحل محل الولاء". مات خالد العظم في تشرين الثاني عام 1965، ولم يكن هناك لا شارع ولا ساحة ولا حديقة باسمه. اليوم، ربما ينبغي "دفع فروغ" لتسمية شيء ما باسم رئيس وزراء سوريا ست مرات بين استقلالها والعهد البعثي.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثالث المأوساوي أو فرص التركيب الوطني الديمقراطي
-
تمرين في التربية الشمولية
-
نزع مدنية المجتمعات يقوي التطرف والطائفية
-
بيان في نزع القداسة عن السياسة
-
-قيام، جلوس، سكوت-: مسرح الهوية وتجديد القبلية الثقافية
-
مأزق الإصلاحية السورية
-
النظام العربي الإسرائيلي
-
المقاومة أم الاستسلام؟ بل التغيير
-
نظرة إلى أصول سياسة الإنكار السورية
-
حوار مبتور مع جريدة منحازة
-
نقد -إعلان دمشق- ونقد نقده
-
معارضة، إسرائيل، أميركا، مخابرات، شيبس، إلخ
-
هل من سبيل لإبطال المخاتلة الطائفية؟
-
الكتابة السياسية وسياسة الكتابة
-
بين فراغ النماذج وضعف الطالبين، أي تغيير في سوريا؟
-
-إعلان دمشق-: أوفاقٌ في زمن الانشقاق!؟
-
عن نقد السياسة الأميركية ونقد نقدها
-
المسألة المدنية: ضد العنف والتعصب والريعية
-
المأزق العربي الأميركي المتبادل
-
نحو جامعة متقدمة وديمقراطية: المسألة الجامعية وقضية الطلاب ف
...
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|