حسين عمر
الحوار المتمدن-العدد: 1399 - 2005 / 12 / 14 - 08:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يصعب إرجاع ظاهرة الإرهاب, في عالميتها, إلى جذر ثقافي واحد أو أبعاد اجتماعية محدّدة, فقد برزت هذه الظاهرة في مراحل تاريخية متعددة وفي مجتمعات متباينة في انتمائها الثقافي والديني, واختلفت مواقع الممارسين لها. فقد مارستها نظم ودول, مثلما مارستها جماعات وقوى من خارجها, تعدّدت منابتها الأيديولوجية وخطابها السياسي, ولكنّ المشترك الأوحد بينها هو السلطة, سواء كان الهدف الاحتفاظ بها, أو الوصول إليها واستحواذها, وسيلتها في ذلك العنف الأعمى المنفلت من كلّ ضابط.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بظاهرة الإرهاب المتلبّس بالإسلام والمتزيّ بزيه في منطقتنا, والتي باتت ظاهرة تجتاح, بمفاعيلها وممارساتها, العالم وتشغل اهتمامه أجمع, فيمكن القول بأنّ هذا الإرهاب هو وليد رحم الاستبداد المستدام. ومع ما قد يحتويه هذا القول من إطلاقية وقطعية, فإنّ تقصّي جذوره وتتبّع سياقات بلورته ورصد مآلات ممارساته, يبرر, إلى حدٍّ كبير, هذا القول.
والاستبداد الذي نعنيه هنا, ليس استبداداً وحيد الجانب والمصدر, وإنّما هو استبداد مزدوج مركّب, فهو استبداد جوّاني ينبع من ظاهرة إحلال التفسير القطعي الوحيد الجانب للنصّ الديني بديلاً عن النصّ ذاته. فالنص بطبيعته يكون مفتوحاً أمام التفسير والتأويل, يفتح قعره عميقاً ويوفّر حقلاً خصيباً للاجتهاد الذي تباركه الدعوة الدينية ولا تحظره, في حين أنّ التفسير الزجري الأحادي الجانب يغلق النص ويشرنقه, مدّعياً بلوغ القعر التفسيري, برؤية مجتزأة مستأصَلة الجذور عن الواقع, وسكونية تقطع النصّ عن سياقه التاريخي, وتخلط بين لحظة بزوغ النص عندما كانت الدعوة الإسلامية تنطلق من الحيز صفر وتحتاج إلى الشيوع والانتشار, وبين الإسلام وقد غدا دين شعوب ودول يفترض بها أن تتآخى وتتكامل مع شعوب ودول أخرى لها أديانها ومعتقداتها.
ومن ثمّ استكمل هذا الاستبداد الفكري بقمع المفكرين والمفسّرين الاجتهاديين وإقامة الحدّ عليهم وإقصاء أعمالهم, وتسرّب التفسيرات القسرية والفتاوى المستندة عليها إلى التعليم الديني الذي توسّع انتشاره بشكل متعاظم, على حساب العلوم البحتة التي تغني معارف البشرية وتحسّن وضعها في الكون, والعلوم الإنسانية التي تنمّي المشاعر الإنسانية وتسمو بها، فتهذب العلائق والروابط بين البشر, بمعزلٍ عن أعراقهم ودياناتهم ومعتقداتهم وجنسهم, بل وتلطّف علاقة البشر مع الطبيعة وما نفَع عليها من كائنات أخرى.
أمّا الجانب الآخر من الاستبداد, فيتمثّل باستبداد النظم بالمجتمعات, فبقدر ما أقصت النظم المجتمعات من حقل الفاعلية المجتمعية والسياسية, وهمّشتها وسلبتها إرادتها, بقدر ما انقطع مسار تطوّرها الطبيعي وتناميها إلى مجتمعات مدنية منفتحة ومنتجة ومؤثّرة في بلدانها, فانكفأت إلى صيغها البدائية وتفشّت فيها مظاهر الفقر والتخلّف, وباتت مهيّأة لتكون رحماً خصباً لبروز الأفكار المتطرّفة, فإمّا أن تصبح حاضنة للإرهاب مباركةً له أو, في أهون الأحوال, تأخذ موقفاً لا مبالياً منه, بل أكثر من هذا, تحوّلت هذه المجتمعات المذرورة, في قطاعات واسعة منها, إلى ما يشبه سلطة استبداد معاكسة في اتجاهها ومتماهية في مفاعيلها مع استبداد السلطة, فباتت قوة قمع إضافية على المفكرين والمتنورين في مجتمعاتها, في حين نجد أن المجتمعات الديمقراطية المنفتحة تحاصر الإرهاب وتثلم مفاعيله إن ظهر بينه.
تراكب هذين الاستبدادين قطع الطريق أمام إمكانية تنامي تيار نهضوي تكوّن جنينياً في مرحلة تاريخية محدّدة, كان يمكن له أن يتطوّر إلى رافعة لإجراء تحوّل خطير على صعيد الفكر الديني والاجتماعي, ربّما لم يكن ليماثل اللوثرية والكالفنية المسيحيتين, ولكنّه, كان سيحقّق الكثير على صعيد تحرير النص من سطوة التفسير القسري التجييري, وتقويض أسس الاستبداد.
أمّا ما يقال عن علاقة الإرهاب بقضايا المنطقة, فهو تجيير في معظمه أكثر ممّا هو سبب, فالقضية الفلسطينية ليست قضية الإسلاميين وحدهم, وإنما هي قضية كلّ الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين, إسلاميين وقوميين وعلمانيين وسواهم, والمسألة العراقية ليست مسألة كتائب ( الصحابة) وحدهم, وإنما هي مسألة العراقيين جميعهم من عرب وكرد وما يقارب الخمسة والستين مكوناً من مكوّنات الشعب العراقي, في حين أنّ إرهاب الكتائب يطال كلّ من ليس فقط من دين( أمراء الكتائب ), وإنّما كلّ من ليس من قوميتهم,أو طائفتهم أو مذهبهم, بل حتّى من ليس من كتيبتهم.
ولو أنّ هذا الإرهاب تفشّى واسعاً وخرج عن السيطرة, سيكون له نتائج خطيرة على شعوب المنطقة, فهو سوف لن يكون بديلاً عن أي إصلاح تلحّ حاجة المنطقة إليه, وإنّما سيكون واحدة من أكدأ العقبات في طريقه, لتضاف إلى تقاعس السلطات ولا جدّيتها ولا مصداقيتها حياله.
والحال على هذه الدرجة من التعقيد, إضافة إلى تزايد مفاعيل تدخّل الخارج المتغوّل قوةً في الداخل الهشّ والمتهالك, يصعب الإدّعاء بتقديم وصفات لمعالجة ظاهرة الإرهاب, وإنّما يمكن الوقوف عند بعض المسائل التي يمكن لها لا أن تشكّل مداخل لمواجهة ظاهرة الإرهاب وتحجيمها وتثليم مفاعيلها فحسب, وإنّما أيضاً تمهيداً لتعافي شعوبنا ومجتمعاتنا من الأسقام التي سبّبها الاستبداد المستدام, وفي المقدّمة منها خلق فضاء من الحرية يتيح تحرّر الفرد والمجتمع والآراء والأفكار والكتابات والمؤلفات المخالفة للسائد والمألوف والمقدّس من الأسر, ويشرع الباب أمام حرية التعبير والتنظيم, ولا يحظر إلاّ العنف وسيلة للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها. ومن ثمّ تجذير بنية معرفية تثمر عن ثقافة تتبنّى مفهوماً منفتحاً من الآخر وعليه, بحيث يُكفُّ عن الرؤية إلى الآخر على أنه النقيض والمتربّص والمتآمر, وإنّما هو ذات نحن بالنسبة إليه أخر, ولذا لا بدّ من أن تحكمنا علاقة التكامل والتشارك والتفاعل في إطار ما يمكن تسميته بعولمة ( المشتركات ), المشتركات الإنسانية التي تسمو على لوثة التمييز والانتقاص من شأن الآخرين وازدرائهم.
*: كاتب كردي ومترجم
#حسين_عمر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟