أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصر قوطي - وهم الطائر















المزيد.....

وهم الطائر


ناصر قوطي

الحوار المتمدن-العدد: 5198 - 2016 / 6 / 19 - 01:24
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة
وهم الطائر
ناصرقوطي


(رحلٌ ضعيف، وهاجرة محرقة، وبَرٌ قفر، وعطشٌ قديم، كيف الوصول إلى الريّ والحال هذه ِ.. ؟ )
*التوحيدي
إلى الشاعر سلام الناصر: لِمَ لا تطير
إذ ترسم أعمدة سماوات لمدينة ما وتسير شاخصا بين ظلالها الشاقولية؟ يوبخك الحذرُ ألا تدوس على قلبها الهرم وهي التي تقصيك في إعلاناتها فلا تبقي على بقاياك أو تذر.. أي انحناء لدرب لايلتفت مع استدارة حذائك المتهرىء، ينقلك إلى زيف حجارتها، في انحناءات أقواس شناشيلها من الأبواب والشبابيك.. مدينتك التي أضحى بها التدرن والزحار شفاء، بكل خراتيتها الجدد، الذين نزعوا جلودهم عن لون أزقتها.. تثبت نفسك عمودا ولاتغادر عكازاتها مع الوجوه الغريبة التي وطأت كل أشبارها والظلال،ما أسرع أن تضمحل وتغيب. رغم أشواطهم في الخطى وحيازتهم على “البساطيل” التي تركناها في الملاجيء.. الدموع التي لما نزل نذرفها على الجموع فكيف بك وأنت تقارع وسخ مجاريها، تتذوق سباخ أديمها، غير أن الخرائب، المزابل، الخيانة، القتل، وكل ما سلف ويخلف، ينمو، يتراكم في الذاكرة، وأنت كما بناء يتهدم ولامجير لذا تعدو، تسير لاهثا، تسائل الدرب، الوجوه ـ لا الأقنعة ـ أن تظل على ثباتها، وجوه الأصدقاء.. الناس.. كل الراكضين إلى حتوفهم. تلّوح عن بعد، لاأحد يرى شبح الإيماءة الكل يعدو.. تتصاعد خرائب الروح ولا أحد يسمع أو يقرأ، فما نفع أن تقرأ العالم ولا يقرؤك أحد.؟.
تحدق للمرة الـ ………. لا يغريك في المدينة إلا قمر شاحب وأفق رمادي ينزف قطيع ذئاب استنزفها العواء.. عربات بخيول هزيلة تتجول في ظهيرات قائظة، حمير شائخة تتبختر.. حمير صغيرة تتنطع، تسحب ما تبقى من قناني غازها الخفيف، مكبرات صوت تعلن عن بضاعتها، وصبية صامتون، يقرفصون بأقصى يسار العربة يأملون نهاية يومهم الطويل من بيع النفط والانتظار..
تطّوق فمك بكفيك المعروقتين وتعوي، كل من في المدينة يراك ذئبا، يستغرب هندامك الوبري.. ولأنك لا ترى إلا صحارى وخرافاً مستذئبة، أدمنت العواء، لأنك بأقصى سرابها لايسعك أن تسمع غير العواءات.. تحاول أن تدوزن نغمة صوتك.. النغمة التي تتناغم مع من حولك.. تنصت في الضجيج.. لا صوت.. لا.. حتى لا نعيب لبوم يُسمع، الشوارع الخالية ذاتها تضج بأشباح العابرين.. الأزقة ملطخة بالوحل والوجوه أقنعة.. أي سباخ وأي عبيد.. أي مفازات ستقطع وأنت الذي ثلثه إله وماتبقى منذور للرمم. قدسية خطاك.. الشوارع بغبارها تصيرك أكذوبة.. صلابة مشرديها والمتمردين.. الملائكة من أشباهك.. من الذين لن تصادفهم إلا في حلم أو بعد مرور حول كامل.. عجلين الخطى إلى بيوتهم ليلطخوا أسرة الزوجية ببياض طفولتهم حين عافوا التسكع وارتكنوا إلى قبلة النسيان..!.. لكل ذلك آزرت النزيف وزنّرت أجنحتك النحاسية التي لا تطير إلا بقدر خيالك المحلّق نحو الأعالي. طر إذن.. افرد جناحيك على وحشة الشوارع والمدن ان ظلت مسافة تتسع للبوح وفضاء يعادل رفيف الأجنحة.
* * * * * * * * * *
وحيدا تنأى عنهم تبتعد عن ميتاتهم، عن نتانة أجراس الزهر، عن فزاعات تغرز هيكلها في وحل المستنقع وتكابر، عن سرب من غربان يمرق في حلم، بطيران أهوج يوقظ كل التأجيلات المرة، يشوش ببلاهة خفق أجنحته وجيب أغانيك القديمة.. يؤجلها لحين انسدال الشيب على الغصون.. آهٍ.. آه.. لاشيء سوى هذا النسيان الفج، أضحى يباغتك في ذروة تتصحر الروح فيها وتمتلئ العيون.. غريب هذا.. غريب.. غريب أن تعتاد الأمر، أن تألف هذا الجدب المتفاقم، أن تغدو جثة لاأكثر.. تألفك الديدان، تكفنك ذرات الغبار، تعرش فوق جبينك والعيون لتستحيل شيئا صلدا لايُقهر يتمحور بين الجناحين، مسخا صغيرا تكور بين الكتفين، شوه عنوة وأُسقط إثر ولادات عسيرة وخذلان من طلق مستمر.. تحاول أن تجسه بحذر، تمرر أناملك الثلجية فوق التجاعيد الغائرة، عند الشفتين تلمس ظل ابتسامة فاترة كأنها تهمس إليك أن تصرخ، أن تنعب كطائر ليلي وحيد.. شلوا هامدا رغم كل هذا الخفقان المضني ولا جدوى هذه التحليقات المتصاعدة البلهاء..
ـ لن تحلق ثانية وقد ورثت كل هذا الشتات، فما الطيران في مثل هذه السماء إلا محض هبوط نحو الهاوية..
ـ سأطول ماتبقى من نتوء الدقائق آخر هفوات القلب وصدى رفيف الأجنحة.
* * * * * * * * * *
كنت كثير التنقير فيما يخص شؤون الوادي، من بين أشباهك الذين نبتت لهم أجنحة صغيرة بعد ان مروا بأطوار استحالات عديدة، ولم يكن ذلك ليحدث لو لم تداهمنا الفوضى والتقلبات.. من الأحداث المربكة التي لازمتنا ردحا طويلا.. حتى كادت تنسف أمخاخنا ريحها العاصف … ولأن الانهيار كان تاما وشاملا والبناء شائكا فإن سقوطه الأخير أحال المكان إلى بقايا متهالكة من كتل كونكريتية وقضبان فولاذية تناطح السماء بين أجنحة الغبار المتصاعد مما دفع بعض الكائنات التي كانت تجد لها مأوى في البناء تزحف على بطونها لتصل إلى مخرج عبر الضجة التي أحدثها الدوي الهائل للانهيار، باحثة عن مكان يؤوي شتاتها، ولأنك كنت كثير التنقير في الأرض رحت تلصق ريشاتك على الذراعين لتصنع أجنحة للرفيف.
( كان منقارك اللولبي قد جاس أعمق ما في الطين من النداوة، وكنت تحدق باتجاه الأرض بحثا عن علة انجذابك لمركزها فيما غدت السماء حلما، ولأنك كنت تحاول ان تبني ريشة فريشة عذاب الأجنحة كانت الريح تهزم صمت الشبابيك وتشرع درفتاها لبياض الأشرعة. )..
* * * * * * * * * *
عزلتي المطحلبة.. خضراء.. تميد.. تستنطق الحجر. صخرة صلدة تعكس أشعة شمس خالدة. الموج يحتني بضربات متعاقبة، الأمواه تتلاطم من حولي.. تتكسر.. تنثني مذعنة لسطوة منكبيّ المطحلبين بألياف من أشنة معتمة. كصخرة صلدة كنت أنغرز في وحل ورمل. أغوص في دجى من طمي غرينيّ ناشقا ملء روحي هواء ساحل قفر:
(ماذا تنتظر هناك ؟. غريبا تؤجر مقلتيك الحجريتين لضفدع مهجور ولسان حالك ينق بتراتيل صلوات لمستنقعات لا يرفل فيها صديق. الصخور الأخرى تتفتت من حولك.. صرخاتها.. أنينها.. بكاؤها البحري تنقله نوارس نائحة عبر المدى.. لتصافح البعض بأكف قدت من حجر.. لتجلوا غربتك إذا كانت ثمة أكف لم تتلوث بنفايات الساحل ورئات بحرية لم تتدرن.. هلمي إليه أيتها الصخور.. يا صخور الصحو.. أيتها الصخور..!) لا صوت إلا صدى الصمت، بارد.. بارد هو الصمت، رغم احتراق العشب، بين تشققاتي الكالحة وبُعد المسافات بين صحبي.
كتل من حجر يقفون.. ينغرزون هناك بين لحاء سيقان صنوبر ميتة:
( سيباغتكم الطوفان فهلموا إلى السفين. ). همست وكانت الأمواج تغمرنا ونحن لاهين نلهث وراء لذاتنا الساحلية كما خيوط تسعى وراء إبرها.. أيها الـ.. طاء.. و.. الياء.. و.. الباء.. و.. النون. مرارا أطلقت طائري قربانا لألهتكم الحجر وكنتم تقهقهون وتطلقون سهامكم إلى نحوركم.
كنت أستصرخكم إليكم.. لن ينقذكم إلا بعضكم.. ( كنت تصرخ دون أمل صرخات حجرية وتلوذ بذاكرة معطوبة لاتجترح إلا ظلالا باهتة لسطوح بحار لايغرق في فيضها إلا قيامات كاذبة وسفائن من ورق سرعان ماتغرق في تخوم ضباب الطفولة الشفيف.. كلمات لاتملك إلاها.. شفرات وامضة ماتلبث أن تخبو وتطمرها سدم الذاكرة. ).. معزولا.. مهملا كحجر لا يتزعزع.. لا نجم يلوح ولا قمر عبر ذاك الركود.. الساحل يمتد.. يتناهى، محتقنا، مخيفا، كانت الريح تسف، تعصف برجراج من ماء أخضر ثقيل.. الموج يقبّل السماء، يعانقها.. أكف ضخمة عملاقة تصفعني بثقل اوقيانوس خرافي.. تلطمني وتجعلني أغور، أغوص إلى عمق طيني لزج.. أملأُ خيشومي بما ترسب في القاع وأندفع إلى الذروة.. أنوس بين رذاذ الماء.. أبل شفتيّ المتيبستين وأنقع بقايا روح لائبة في ظل هاجرة محرقة وأستشرف المدى..
( ثمة عين مستفردة، عين مستنفرة، يقظة، مستفزة، تضيء.. تشتعل.. تومض.. عين دامعة تذرف كل مياه هذا الاوقيانوس.. عين راصدة، إنها عين الفنار الحجر.. شقيقك في الوحشة، بوصلتك الوحيدة في غياب القمر وعماء السماوات الرصاص.. الذاكرة تومض أيضا.. تتوهج، تدفعك رؤى غريبة بحثا عن..آه.. ياللخيبة، لاأثر لصديق.. ماأوحشه من ساحل وما أغربه من درب.. الصحاب جالسون حولك حجر إثر حجر.. ولأنك صيّرت حجرا ثباتا لم تتزحزح وتلهث مع اللاهثين لنيل حظوة ما، أو تعدو مع العادين للاغتراف من أي بحر لتبل شفتيك من فيض الساحل. كنت ترى كسوفهم الكلي وسباخ أرواحهم تنحدر إلى ضفة أقرب ما فيها بعيد راهنين أشرعتهم إلى زبد عابر مما دفع صرختك تتصدع:
انحدر ياموج.. انحدر.. أيها السيل العرمرم.. وحّد زبدك الطافح في القلب بمجسات الروح.. أيها الاوقيانوس الذهب.. ياصحراء من اللجج.. تسربلني.. تسرب عبر أوردتي الضامرة فقد غدوت قفرا مخيفا..فنارا مهدما..
( الفنار قلب بشري محطوم.. شاهدة قبر.. شهيد وشاهد على كل غرقى الساحل من قراصنة وجوابي بحار طيبين. نرسيس صهرته ذاته الضخمة.. صعقته رؤى دهشة من جماله المنعكس في مرآة المستنقع لينبثق ثانية زهرة نرجس.. فماذا سينبت منك.. ما الذي يتركه حجر أطال المكوث والنظر إلى ساحل قفر. ).
لم أغادر ساحلي المر.. كانت الريح تدفعني لأغادر صحبي ولكن سرعان ماكنت أعود إلى ذات الساحل وأرنو بعين دامعة إلى أشرعة وصوار ٍ تغرق في الزبد تغوص أمامي، تتوارى، فيما الأمواه تداعبني، تصطدم بحيزومي وترتد تداعب ساقي المتعبتين وتلعق جراحاتي النازفة أملاح الساحل. الغربة تعصف بي، تعزف، تحصدني كما لو كنت عشبة لا نفع فيها. ريح تقلعني من الجذور، تعلقني، تعقد لساني، فإلى أي ساحل أرنو والى من التجىء.
أسراب غربان تحوم حولي، ترسم سماوات سود، غربان سحماء حطت فوق كتفيّ الصخريتين المطحلبين بالأشنة والمحار، غربان تنعق، غربان تصوصيء، غربان تصهل، غربان تصرخ، غربان بأظفار طويلة معقوفة ترفعني إلى الأعالي تنقذني من الساحل. حفرة كبيرة سوداء مطحلبة خلفتها ورائي، عين الفنار الحجر تتلصص في ظلمة الساحل، الأمواج تضطرب تحتي، تتلاطم، الأظفار الغرابية ترفعني بخطفة ومضية، تبلبل حواسي، تجعلني أثمل برؤى سماوات بنفسج ولازورد، متنسما فضاءات لاعهد لي بها، جنائن سماوات لا توصف، خمرة إلهية تثملني تجعلني أطير عنه.. أسّف.. أدور ناعقا باستدارات لولبية متصاعدة وسط دوامة من جحيم وأنأى بعيدا وقد غدا عشي خرابا بعد أن عصفت به الريح، موحشا، مخيفا كحفرة قبر مردومة، صرت صنو الغربة.. غدوت غريبا كما غراب من عهد غابر غنى أغنيته الأخيرة وغاب وراء غيمة غاربة.. آه.. ثلمتني الغربة.. سورتني بسدود وتوجتني بتويجات بنفسج.. جهمت وجوه الحجر من حولي، كل الوجوه التي أعرف وعليّ مغادرة ساحلكم السحري كسهم مقذوف إلى الأعالي لم أخزن في ذاكرتي الهرمة أي ومضة للحنين. وداعا أيتها الصخور الصم، لن أسمع أنينك ثانية، سأرهن مجسات سمعي لانثيال موجات أخر.. لن تمر همسات أحلامكم عبر مصفاة هذياناتي فيما لم أتنصل يوما عن الانتساب لجلدتكم وصريف أسنانكم وهي تتصدع عبر فجاج رأسي الصخري، إنها تتصادى، تصطخب … يارب السواحل والسماوات المواحل كلها.. إرفي الصدع.. سئمت هدأة هذه السواحل.. سواحل تسلحت ضد ساكنيها، هجرتها حتى الصخور، سواحل موحشة، خالية إلا من سلح طيورها المهاجرة..
* * * * * * * * * *
( فوق سطوح عالية كنت تخربش أوقيانوسات أفراح صغيرة من أمواه رائبة، مداعبات مبهمة لا تدوم طويلا، خرائط مشوشة لمتاهات بحور عارية، كنت تتلذذ في الغور العميق المظلم، عاريا، وبحركات سحرية، متقنة، كنت تغيّر المشهد. كائنات صغيرة تتلوى تحت عزف أناملك المتسارعة، حتى تصل الذروة في الإيقاع فينقذف الموج ويرسم صمت البحور وهدأة الزبد.. و.. هكذا عبر ليال مقمرة كنت تسرق النجوم لتشتد الظلمة، تظل منتظرا حتى بزوغ الخيط الأول من الفجر لتستله وتدفنه تحت الوسادة المنقوعة باللهاث.. كثيرا ماكنت تنام بنصف إغماضة وتصحو على سماوات من عقيق. ).
إنها الليالي التي لن ينال آلاءها إلاي، العيون اللعوبة اللائبة تسلبني في الظلمة، تجردني. الأجساد اللدنة، الثغور اللاثغة، الثملة بزقزقة عشرات العصافير، لن يعرفها سواي والتي لن تعود ثانية.. لقد ولى كل ذلك حين ألقتني الغربان إلى أبعد صقع لايمكن لخيال مهووس أن يجترحه. أطيار غريبة تزحف، لا أثر للصخور هنا، فقمات ترنو بعيون بيض، تنزلق في عالمها الجليدي … الساحل الجديد الذي غدا نزلا لي، رغما عني، وبالصدفة العمياء تعرفت على فقمة، كانت تحتج وتصرخ ملء شحومها عن هدأة وركود الساحل، عن الفوضى التي ممكن أن تحدث جراء هذا الصمت الكثيف..!
رحت أُلاسن الفقمات بلسانها عسى أن تعي صقيع عالمها وتحتاط لنفسها من التلوث الذي تلقيه مياه السواحل البعيدة.. وشيئا فشيئاً انغمست في عالمي الجديد، محاولا نسيان كل شيء، وما أسرع ان فقمت روحي حتى برزت أجنحتي الجديدة الصغيرة واستدق الجسد من الأعلى ليغدو كالهرم، فيما تدلت البطن باتجاه الأقدام، ضاغطة على السلاميات الحرشفية، وبالرغم من شعوري الحاد بالغربة، إلا أني تواءمت مع جنسي الجديد، انخرطت مع الفقمات في شخير متواصل، من أحاديث كنا نلوكها حتى الصباح ولكن سرعان ما ذاب الجليد من حولي إثر الفحيح الملتهب من الزفير الذي كنت أطلقه نتيجة تناولي عقاراً غريباً ـ الذي كنت أتعاطاه كل يوم بطقوس خاصة ـ سرت حرارته بالدبيب إلى كل أوصالي فأذاب ما تبقى من شحومي، وأفقدني الشهية على تناول الطعام، لقد تغير سلوكي عن كائنات الساحل الجديد، إثر استهجانهم لمظهري الرخو والغريب عنهم حتى فقدت كل حواسي التي تتمتع بها الكائنات الأخرى، فقدت حاسة السمع، وظللت أرنو إلى ألسنتهم وهي تلوك الهواء، لم أستطع قول شيء حين مددت لساني الثقيل الذي أصابه العي عندها شعروا بضعفي الهائل بينهم، ومن إنني لاأمتلك أي ملكات يمكن أن تميزني غير طبعي الطيب ـ نقطة ضعفي الوحيدة التي ورثتها عن أسلافي في حقول القمح ـ ذلك الخور الذي بات يلازمني مما جعلهم يتهامسون فيما بينهم، ليقودونني بإيماءات غامضة نحو قمة جليدية عالية، ومن هناك، من فوق.. ركلتني أقدامهم وتدحرجت حتى سقطت قرب واحة صغيرة يكتنفها عراء أبيض لا ينتهي، واحة معشوشبة بالإبر.. واحة صغيرة أشبه ما تكون بمستنقع صغير، كنت عطشا.. وحيدا بين الشراك وأسلاك المعدن التي نصبوها حولي وولوا مقهقهين، فيما تتدلى بطونهم وتتدحرج مؤخراتهم خلفهم.
( لن تصل مداك، لائغا في مستنقع راكد وموحل، عيناك نحو المستنقع، وخيالك دفن في الساحل الذي تريد ولكن حلمك في الطواف مازال ينبض بين جوانحك، طيرانك الأبدي عبر مجرات لم تدنسها قدم، اتبع ضالتك، الروح الكلي، صوت الداخل، منجاتك الأخيرة، المخلص الأوحد لرفيف الروح، وكأن لهبا سماويا نفث فيك وثبت سقطتك، انتفض الجسد الخائر القوى، دبت بأوصاله الحياة.).
خبطت خبطة عشواء فتخلخلت الصورة، تماوج المستنقع بترجيعات صدى، دوامات صغيرة هاربة تنداح، تتلاشى في النهايات المعشوشبة بين الجليد.
أسلاك المعدن التي صنعوها بدقة متناهية تفككت، التوت على بعض واشرأبت مثل أعناق طويلة نحو الأعالي.. هكذا.. وبطريقة غامضة، كورت نفسي، لملمت أجنحتي التي استطالت فيما الزغب راح ينمو، ينتشر عليها حتى استطعت أن أنفذ..وأنجو في النهاية. الأمر الذي دفعني أن أرى صورتي الجديدة تنعكس عبر البركة الرصاصية، تاركا جناحيَّ ينسحبان ورائي وهما يرسمان خطان متوازيين من المياه الموحلة التي تندلق وتقطر من بين الريش الرمادي الزلق. حركت رقبتي محدقا إلى الوراء، سيقان الطحلب لاتهتز، لاتتحرك إثر التهويمات الغامضة والمحبطة لخفق أجنحة الطيور الأخرى التي تبتعد وتتضاءل أمام حدقات البصر، حتى تبدو ذرات صغيرة، تتقافز، تتهافت، تتجمع من أطراف العراء لتحط قرب المستنقع فيما تلقفت أنا كل السماوات بأجنحتي الخافقة.. و.. نحو الأعالي..
من بعد بعيد.. عدت أرى بوضوح تام، تلك الفوضى المربكة، حفر منتنة، أوراق صفر، مقروضة متآكلة باليرقان. ظلال الارتجاجات المبهرة في غبش المستنقع، تلك التي يحدثها تسلل طائر أو جرذ مذعور فوق السطح الراكد، الطيور الأخرى، المناقير، الوجوه.. الأقنعة كانت تتراخى وتسقط بين ظلال سويقات الأعشاب المنخورة المتآكلة. السحنات الشائهة التي طالما داريت وجودها الهش وطرت عنها بعيدا نحو الأعالي المظلمة. رغم بعد المسافة كانت أصواتهم المستنكرة لطيراني تصلني من الهاوية، تتردد بصدى يتكسر ويتلاشى في الفضاء..
ـ ما الطيران في مثل هذه السماء إلا محض هبوط نحو الهاوية.!.
ـ سأطول ما تبقى من نتوء الثواني آخر هفوات القلب وصدى رفيف الأجنحة.
ـ لن يبقى رفيف أجنحة ولن تحاور إلا السراب..
ـ سأصل عبر دبيب الشيخوخة…
ـ لن تصل..
ـ ……..
ـ لن تصل..
ـ …….
ـ لن تصل..
ـ من ذا الذي يلنلن بعدم الوصول، أللفقمات صوت وهي التي استعاضت بالزعانف الزاحفة بدل الأجنحة.. وأنت الذي عرفت كيف تنبت الزغب للمسافات لتصنع الأجنحة التي تتصدى لهبوب ريحهم فيما الفقم ترتع في عالمها الجليدي.. فلا الغربان بنعيقها ومخالبها بقادرة على ثنيك.. لِمَ البوح إذن، لِمَ تأسى وتأسف وكل مامر بك قبض ريح ؟ الريح التي تصنع الأمكنة، تطرد الشوارع وترسم للبوصلات مساراتها، فتهدي القراصنة أو تغيبهم في اللجج.. ولا الفنارات بدلالاتها ـ وإن استطالت وتسامقت على الساحل ـ قادرة على إرشادك وجذبك إلى الساحل القديم، فكم من غريق دعاك وتخليت عن طوق نجاتك له، كم غريق ضاع تحت حجارتها.. كم سفين غرق وطواه النسيان، فيما البحارة الخدج يلوحون بمناديلهم البيض والحمر. لقد سخر النوتي منا كما سخر من بقايا الخرق الملوحة دوما بالطيبة والغفران، بالخوف مرة وبالرأفة مرات.. فعلام أجنحتك من رصاص والسماء لا تكون إلا من فضة أو نحاس، هل ثمة قرابة في انصهار الفلزات.. ربما فيزيائيا عظيما مثل ديستويفسكي أو فاغنر يوائم بين لسان القديس والبسملة ويكتشف السر المخبوء.. السر الذي دعاك أن تلامس غيمة وترى سماءاً.. سماء لاوهما وأنت تصنع الأجنحة.. آه ,, أكل هذا محض وهم وافتراء ومخاتلة في الحكي.. كالنمل الأبيض ملتصق بالتراب. فيما المستقبل لها.. كل المستقبل للديدان ولشخير الفقمات الذي يتقهقر وراءك.. وداعا أيتها الأجنحة.. من الريش المبلل بالمطر والذكريات.. وداعا لنورس عشقَ موجة فأطاحت به كما يذكر الشيخ تولستوي.. وداعا غوليساري.. كنت تحلم بالطيران لكن حدواتك من المعدن الأرضي الثقيل فالتصقت بالجليد.. وداعا لكل شيء يراه الحالم.



#ناصر_قوطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوجه الثالث
- ليلة الزفاف
- الى جبار فرج
- مفتاح
- في رثاء الشاعر مهدي محمدعلي
- قصة ( الوصايا الثلاث)
- عِبرة
- لي ولهم
- قصة قصيرة
- قصص قصيرة جدا


المزيد.....




- مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات ...
- الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و ...
- -أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة ...
- الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
- “من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج ...
- المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ ...
- بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف ...
- عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
- إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع ...
- تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصر قوطي - وهم الطائر