ذياب فهد الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 5177 - 2016 / 5 / 29 - 02:49
المحور:
الادب والفن
نوافذ دائرة الطباشير
رواية
الحلقة الرابعة
ذياب فهد الطائي
:- أنا من بلاد ( النوبة )
لم تفهم النسوة المتجمعات حوله ماذا يعني ، فهن لم يسمعن بأرض اسمها بلاد ( النوبة) وكل مايعرفنه اسم القرية والعراق وألآستانه حيث يعدّ الولاة والحكام الأتراك ، وكل ماعدا ذلك فهو خارج حدود ألإدراك .
كانت المرأة التي تزوجت منذ ثلاث سنوات ولم تنجب قد تعرضت لضرب مبرح وللطرد من البيت ،بعد ان قالت ام زوجها انها منحوسة وانها لن تسمح لأبنها أن يصبر عليها اكثر من ذلك لأنهم بحاجة الى ألأحفاد ليس للعمل في الحقول والبساتين وانما ليكونوا مستعدين للأخذ بالثأر ان لزم ألأمر ، كانت القرية مهووسة بالقتل والقتل المضاد حتى انه بات من المستحيل ان يمر اسبوع دون قتيل اثر معركة بالفؤوس و (المساحي ) , كان الوقت ليلا و غطت غيوم واطئة بقايا القمر الذي انتهت ايامه بعد ان تلألأ ثلاث ليال متوالية ولم يكن في الشوارع الطينية غير بضعة كلاب سائبة لحقت بها ثم تراجعت، وعلى التلة التقت( أبي صالح) الذي قال لها انه سيساعدها ،وحين عادت ثانية لتتسلل الى الدار كانت تشعر انها قد استعادت تماسكها , صباحا قالت لحماتها انها لن تمانع اذا ماتزوج عليها بل انها ستعمل على خدمة الجميع .
في الشهر الثاني بدأت أعراض الحمل وشاع في القرية ان هذا من بركات الولي الذي يسكن الهضبة , وهكذا اندفعت النسوة محملات بكل انواع الطعام للتبرك و لطلب (المراد ).
حين سمع الحاكم بكل ذلك طلب من شيخ العشيرة التي تسكن القرية والذي هو الشيخ الثالث بالوراثة بعد أن استولى جده على المشيخة بقتله الشيخ السابق و اولاده كافة من الذكور وتزوج ابنته الكبرى والتي كانت تمتلك اطول ظفائر في القرية والقرى المجاورة وأصغر أنف كأنه مصنوع خصيصا لوجهها النضر والذي يتجدد كل صباح ،
وكذلك شيخ الجامع , باعتباره الركن الثالث للسلطة في القرية وواسطة اشهار القوانين وألأوامر .
أن يبحثا مع مسؤول الدرك في وسائل ألإستفادة من من قدرات الوافد الجديد لخدمة ألأمن والنظام والمصالح العليا
تدارس الثلاثة امر الرجل ألأسود الغريب وما سمعوه من انه يقول انه جاء من ( بلاد النوبة ) وقرروا الأستفادة مما حققه من سطوة على النساء ، اللواتي لم ينمن ليال طوال يتحدثن عن كرامات الولي ألأسود ولينسجن قصصا واساطير عن أصله وسبب مجيئة الى قريتهن وعن كرامات لم تخطر بباله .
زار الوفد الرجل ألأسود وبعد مناقشات مستفيضة رفض النزول الى القرية أو الصلاة في جامعها ولكنه اعلن وبكل صراحة انه لايفكر بألانتقال من موضعه وانهم اذا ماكانوا يكنون له الحب فانه يرجوهم ان يساعدوه لبناء دارا بسيطة على التلة لأنه قرر ان يستقر في المنطقة .
قال: أنامن بلاد النوبة جنوب مصر ومن قبائل( الفرجة ), وارضنا بلاد زراعية واسعة وفيها النخيل ويشتغل بعض سكانها بالبحث عن الذهب وفي تلك البلاد قامت حضارة عظيمة استطاعت ان تحكم المنطقة كلها ولكن القسم الأكبر من الأراضي الزراعية الواقعة شرق مدينة اسوان قد اصبحت صحراء قاحلة ، تعرضت بلادي الى حروب واجتياحات عسكرية مختلفة منذ التاريخ الأول للإنسانية واصبحت بعد الفتح الأسلامي مصدرا لتجارة العبيد الرائجة ومنها نقل آلاف الزنوج الى أرضكم حيث عملوا في تجديد الأرض في المناطق السبخة , وشعب النوبة هو شعب الصبر والمعاناة الذي عشق النهر فأغرقه الطوفان.
كنت جنديا في جيش السلطان محمد علي الكبير الذي عمد الى احلال الزنوج ألأفارقة (العبيد) محل الجنود ألألبان حين قرر ان يقضي على دولة ( دنقلة ) شمال السودان والتي كانت قائمة على تجارة العبيد، بعد انتهاء الحملة انتقلت للعمل في مركب تجاري يعمل بين الموانئ السودانية والمصرية وبين موانئ المحيط الهندي وبحر العرب وخليج البصرة , كنا نقضي اشهرا على ظهر المركب نتحدى موجات الرعب من قراصنة البحر الذين يصطادون العبيد لبيعهم ونسلك احيانا ممرات وتعاريج في الخلجان والممرات المائية بالغة الخطورة ضحلة المياه وتشكل الصخور المرجانية مصائد للمراكب .
قال شيخ العشيرة الذي كان مبهورا وهو يثبت (العقال ) على رأسه : ولكن كيف جئت الينا ؟!
:- كنا نقصد البصرة ونبحر خلف سفينة كبيرة كانت مملوكة لشركة الهند الشرقية تحمل العلم البريطاني ومجهزة بحماية كافية وفجأة هاجمنا مسلحون من (رأس الخيمة) بثلاث سفن سريعة الحركة ، كانوا من ( القواسم) وهم يسلبون كل شيء ويبيعون الرجال من بحارة السفن المنهوبة عبيدا فقد انشأوا صلات تجارية واسعة لهذا الغرض أما الشيوخ و المرضى فأنهم يقتلون على الفور ، كانت درجات الحرارة قد تجاوزت الخمسين وسطعت على الكون كله شمس لاهبة تغوص في المياه الهادئة بشيء من التخابث ثم ترتفع ثانية من عمق الزرقة الداكنة تشوي اطرافنا السفلية , كان القواسم الصغار الأجساد ينفلتون كالثعابين بين مركبنا والسفينة البريطانية وسيوفهم القصيرة تقطر دما ، كنا في حفلة عرس وحشي وكانت صيحات الفرح والابتهاج التي يطلقها القواسم عند كل ذبيحة تبعث رعبا باردا يجدد رجفة الخوف كموجة تكرر نفسها باصرار مجنون .
لا أدري كم مكثت أسبح بعد ان غطست عميقا لأبتعد عن المكان , بدت السفينة البريطانية وهي تغرق ، طائرا مقصوص الجناحين يجاهد للأفلات من شبكة محكمة .
في المساء وصلت اليابسة ولكن دون ان أعرف أين أنا ، تسللت عبر صخور ونتوءات صخرية على الشاطئ لأستمع الى صيادين بقارب صغير يكاد يلامس جانبيه الماء ، كانا رجل وابنه وعلمت من حديثهما اني في أرض عراقية قريبة من البصرة .
تعرضت لصعوبات جمة وكنت أريد ان أصل دجلة لألزم مجراه شمالا فقد كان هو بوصلتي الى ألاستانة ، حتى وصلت هذه الهضبة وكنت غاية في الأعياء والجوع بحيث لم أقو على المواصلة , هنا صادفت العجب الذي شدني الى هذه ألأرض وكأنه بشارة من السماء أنها مبتغاي , كان ثعلب يحمل بين نواجذه دجاجة لاتزال بعد على قيد الحياة , وقف أمامي عارضا اياها .
قال امام الجامع : هل انت فعلا تمتلك القدرة على التخاطب مع الحيوانات والطيور كما فعل سيدنا ( سليمان ) عليه السلام .
لم يجبه مباشرة على كلامه ولكنه قال : احب كل دواب الأرض الا القطط وعلى وجه الخصوص الهررة ؟!
:- ولكن لماذا ؟
:- اولا لأن من طبيعتها الغدر فهي لاتحفظ ودا وثانيا لأنها مستعدة دائما للسرقة !
صمت برهة وسرح نظره بعيدا وكأنه يستذكر امرا .
:- كان لدينا بضع بقرات فقد كان والدي فلاحا وكانت والدتي تحرص على ان تحفظ الزيت الذي تعده من الحليب بوعاء من جلد الماعز ربما يستوعب ثلاثة كيلو غرام وكان لدى أبي غير البقرات والعنزات العشر والكلبين , هرّ وقطتين، كان الهر رصاصيا بعيون لامعة وحجمه كجدي في سنته ألاولى اما القطتين فكانتا مبقعتين , وكان أبي يحرص أن يطعم الثلاث بيده لاسيما بعد صلاة العشاء حين يبدؤون التمسح به , والحق أقول كان كريما معهم .
لاحظت أمي ان الوعاء الجلدي الصغير الذي تختزن به الزيت المستخلص من الحليب الصافي بدأ بالنقصان وان الوعاء الجلدي لم يكن ممزقا ، شكت بأخي الكبير فحلف بالقران وبسورة يس انه لم يقرب الوعاء وهكذا انصب الشك علي ولأني رفضت أن احلف فقد تعرضت لضرب شديد الزمني الفراش لأسبوع كامل ، كانت الغرفة الصغيرة المبنية من الطين والواح خشبية متينه قبالة مخزن المؤونه وهكذا شاهدت الهّر يدخل خلسة ويفتح الوعاء المصنوع من جلد الجدي ثم يبدأ بتناول الزيت بلذة ويعيد شد الفتحة ثم يخرج مختالا ليواقع القطتين بالتتابع ويتمدد على البساط الصوفي مغمضا عينيه نصف إغماضة .
وجد ( الكلي المعرفة ) في الضريح المنعزل مكانا آمنا يلجأ اليه بعد ان يجمع في القنينه الزجاجية عشرات العقارب السوداء , وليلا يتسلق شجرة السرو الكبيرة ليسرق من الأعشاش بيض الحمائم والعصافير حيث يلتهمها نية ويغفو على الآرض الترابية حريصا على صيده الثمين , كان سكان القرية تعتريهم نوبة ذهول حين يروه ممسكا بالعقارب ويصرح بعضهم ان هذا من علامات الساعة ولكن مدرس (البايولوجي) الذي اختفى فيما بعد كان يقول
: حتى القنافذ تستطيع ان تأكل افعى سامة منحدرة من جبل( بيره مكرون ) الشديد الأرتفاع والذي ربما توقف عنده نبي الله (نوح ) ليلقي نظرة وداع أخيرة على العالم القديم قبل ان يأكله الطوفان , المسألة في التدريب وبشيء من الحماقة لا أكثر ولا أقل ، يمكن أن تصطاد نمرا فالجهل شجاعة في الكثير من ألأحيان !.
لم يكن قد تم تخصيص من يقوم بخدمة ضريح الولي برغم انقضاء اكثر من مئتي سنه على بنائه و أنه ساعد القرية على تجاوز العديد من المحن , اضافة الى تلبية توسلات النساء بالزواج وبلهفة عذرية شديدة الى زوج يمكن ان يلبي مجهوده الشخصي كل الرغبات أو با لدعوة على العشيقة الغجرية لزوجها بالموت أو على ألاقل بالمرض الذي يقعدها عن الرقص لتضمن ان لاتتبعثر تلك الجهود في نشاطات خارجية , ولكن بعض التوسلات كانت اكثر مشروعية وهي المتعلقة بألأنجاب , فالقرية تعشق كثرة ألأولاد الى الحد الذي قد لايتعرف عليهم آباؤهم وهم يلعبون كرة القدم في الشوارع الترابية .
كانت النسوة اللواتي يزرن الضريح مساء الخميس محملات بالفاكهة والخبز وانواع (المكسرات ) واكياس الحناء الواردة من( الفاو ) على رأس الخليج العربي .
(يقزقزن ) المكسرات ويتبادلن آخر الأسرارالتي اقسمت كل منهن على عدم البوح بها ثم يعجن الحناء و(لبخ ) الجدران الطينية كختام للزيارة ، وبالطبع يقمن بكنس الضريح ورفع الأوراق التي تدفع بها الرياح الى داخل السياج .
كان هو يتدارى خلف شجيرات العوسج وبضع نبانات صنوبرية اوراقها قصيره تختزن ماء أخضرا شديد الملوحة ، كان في عينيه لامبالاة برغم انه كان يواصل النظر الى الفتيات اللوتي كن قد تركن عباءاتهن وبانت استدارة النهدين كأنها شماما حديث الجني من سامراء يمكن ان يوضع في مجرى الماء أو في الكوة التي تنفتح في الغرف على هواء الشمال ليعطي رائحة لذيذة وطعما يذوب في الفم
كان يحلم ان يشتري بندقية , يشدها الى صدره وهو ينام في الضريح بعد ان يكون قد تناول القنفذ الثاني مشويا ، كانت امه تقول ان القنفذ المسلوق ينشط خلايا الذاكرة , فهي مثلا لم تنس اول يوم جاءت به الى الدنيا، كانت تشعر بالدم يجري في عروقها وكأنه يندفع من بركة صقيع , حتى انهم احتاجوا الى ثلاث بطانيات من الصوف كان قد سرقها ابوها من الجيش البريطاني وكانت احداها تحمل أثرا تركه الكلب الذي تمسك بها بقوة فقد كان هو الآخر يشكو من البرد ومن يومه وهي تكره الكلاب ، وقد ورث عنها حبه للقطط التي تتمسح بقدميه وهو يتناول طعاما في البيت الذي كانت فترات تواجده فيه متباعدة .
فكر لو انه مات ودفن هنا فأن الزيارات التي يحظى بها( الولي) ستكون مناصفة وسيشعر حينها برجفة البرودة التي تسببها الحناء وسيلامس النهدين المفعمين بحرارة تضج بحلمتيهما .
#ذياب_فهد_الطائي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟