خلفيات استعمارية
فريدة النقاش
2016 / 5 / 26 - 10:18
يحق لأى متابع نزيه لردود أفعال بعض الدوائر الإعلامية فى أوروبا وأمريكا أن يتساءل إن كانت هناك حقا مؤامرة على مصر تستهدف تركيعها، بعد أن أزاحت حكم “الإخوان” عبر موجة ثورية فى 30 يونيو 2013 شارك فيها ملايين المصريين، وجاءت نتيجتها على غير هوى الذين يخططون “لسياكس بيكو” جديدة تتفتت عبرها بلدان المنطقة على أسس مذهبية وطائفية وعرقية، وتتحول إلى دويلات متقاتلة وتابعة للمراكز الاستعمارية.
فرغم التعاطف العالمى الصادق مع مصر إثر فاجعة سقوط طائرة مصر للطيران فى البحر، وهو تعاطف حكومى وشعبي، خرجت أصوات تشكك مجددا- وعلى طريقة المستشرقين الذين خدموا الحملات الاستعمارية ضد المنطقة- تشكك فى قدرات المصريين، فتسأل مذيعة فى البي. بي. سى البريطانية أحد المتخصصين فى موضوع حوادث الطيران – تسأله: هل كانت القدرات العقلية للطيار على ما يرام؟ بما يعنى أن الشكوك حول أسباب الحادث لابد أن تذهب إلى طبيعة التكوين النفسى والعقلى للطيار وطاقم الطائرة!!
وقبل يومين قال المستشار “أحمد أبوزيد” المتحدث باسم وزارة الخارجية إن إعطاء شبكة سي. إن. إن الإخبارية الأمريكية إيحاءات بأن قائد الطائرة انتحر فى وقت لاتزال فيه أسر الضحايا فى حالة حداد “أمر لا يبعث على الاحترام”، وهو تعبير مهذب عن الشعور بالغثيان إزاء بعض المواقف التى تجردت من كل مشاعر إنسانية.
ونحن نعرف أن اتهاما بالانتحار كانت قد وجهته دوائر فى الإدارة الأمريكية “للبطوطي” قائد طائرة مصر للطيران التى سقطت على شواطئ نيويورك عام 1999.
وتتحدث عن نفسها قصة المراسلة الصحفية الفرنسية “فينسيان جاكيه” التى فصلتها الجريدة التى تراسلها من القاهرة حين رفضت أن تركز فى رسالتها حول سقوط الطائرة على ضعف إجراءات الأمن الخاصة بشركة مصر للطيران، رغم أن الطائرة كانت قد أقلعت من مطار “شارل ديجول” الفرنسي، وإن كانت هناك ثغرات أمنية فإنها تتعلق بالإجراءات الفرنسية وليست المصرية.
وقالت الصحفية إنها لم تتوصل إلى أية معلومات أو مؤشرات حتى تسمح بتوجيه اللوم لـ”مصر للطيران” أو تحميلها المسئولية، وهكذا فقدت “فينسيان” عملها لأنها سلكت وفقا لما يمليه عليها ضميرها المهني، الذى يقول لها لا استنتاجات دون معلومات موثوقة.
ويذكرنا هذا الموقف من قبل بالصحيفة الفرنسية التى طلبت من مراسلتها أن “تفبرك” أخبارا وتكذب، بسلوك رئيس الوزراء البريطانى “دافيد كاميرون” إثر سقوط الطائرة الروسية التى كانت قد أقلعت من مطار “شرم الشيخ” حين قال – باستعلاء وعجرفة – فى المؤتمر الصحفى مع الرئيس “السيسي” إن إجراءات الأمن من المطارات المصرية ليست كافية، ورد عليه الرئيس “السيسي” نافيا هذا القول، وبدأت بعد هذا التاريخ عمليات مقاطعة السفر إلى المقاصد السياحية المصرية قبل أن يتوصل التحقيق فى الحادث إلى نتائج، وهو ما يطرح تساؤلات قوية حول احتمالات تورط بعض الدوائر المخابراتية الاستعمارية فى إسقاط الطائرة لإفساد العلاقات النامية بين مصر و”روسيا”، إذ كانت الإدارة المصرية التى وصل رئيسها إلى السلطة على أجنحة الموجة الثورية الهائلة قد قررت تنويع مصادر السلاح فاتجهت إلى “روسيا” وبعد ذلك إلى “فرنسا” وأفشلت المحاولات الأمريكية للتضييق على الجيش المصري.
نعود إلى المنظومة الفكرية والسياسية للاستشراق الاستعمارى والتى لاتزال آثارها متجذرة فى ثقافة قطاعات – ليست أغلبية – من المثقفين الأوروبيين والأمريكيين المرتبطين بسياسات حكوماتهم الاستعلائية الاستعمارية، إذ ينهض المرتكز الفكرى النظرى لهذا النوع من الاستشراق على منظومة من القيم أساسها أن هناك عيوبا خِلقية – بكسر الخاء – لإنسان الشرق تجعله قابلا للاستعمار وتابعا لأنه يفكر بمشاعره وقلبه ويخاصم العقلانية، ونشأت فى هذا الإطار قيم المركزية الأوروبية التى احتكرت أوروبا العقل بمقتضاها وقال منظروها إن العقل للغرب والقلب للشرق، ورغم أن نقدا جذريا واسعا لهذه النظرية قد انتشر فى أوروبا وأمريكا من قبل مثقفين وسياسيين ديمقراطيين هم الذين كشفوا الأساس الاستعمارى لهذه المنظومة، بل وتضامنوا مع نضال الشعوب ضد هذا الأساس فإن الاستعمار الجديد لايزال يعيد إنتاجها.
أقول رغم ذلك عاد رجل الأمن القومى الأمريكى “صامويل هنتنجتون” قبل سنوات بإطلاق نظريته حول صراع الحضارات، وهى طبعة جديدة أمريكية من المركزية الأوروبية وإن كان الدين فيها قد احتل مكانة كبري، إذ أن أساسها أن الغرب المسيحى قد تفوق بما لا يقاس على الشرق الذى يضم المسلمين والبوذيين والكونفوشسيين والمسيحيين الأرثوذكس.
وجرى أيضا دحض هذه الطبعة الجديدة فى المنظومة الاستعمارية لا فحسب على المستوى النظرى فقط وإنما عبر كفاح الشعوب التى انتفضت ضد التبعية والمخططات الاستعمارية وفى القلب منها الشعب المصرى الذى يجرى الآن الانتقام من بسالته ورفضه لسايكس بيكو الجديدة وتطلعه للانعتاق.