|
البدائية، كرغبة كونية
محمد عبد القادر الفار
كاتب
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 5164 - 2016 / 5 / 16 - 18:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
....أن تتحدى الوراثة هو أن تتحدى ملايين السنين، أن تتحدى الخلية الأولى..... (إميل سيوران)
***
مهما طوت الأزمان أزماناً، تبقى للحظة البداية أهميتها. فحتى لو طُوي كلّ الماضي، سيسأل أحدث الناس عن لحظة البداية. الفضول لن يتمكن من اللحاق بمجريات مليارات مليارات السنين الماضية وما حوته من أيام وساعات ولحظات، ولكنه ببساطة يسأل عن لحظة واحدة، لحظة البداية. ومتى ما تم استدعاء لحظة البداية -حتى لو تجاهلنا كل شيء حدث بعدها حتى الآن- يمكن تصوّر محاكاة جديدة. ما الذي يمكن أن يكون حدث منذ تلك اللحظة؟ ما هي كل السيناريوهات الممكنة التي انتقلت بالوجود من لحظة البداية إلى لحظة الآن؟
الكون لا ينسى أصله مهما أصبح أرقى منه، ومهما تطوّر الوعي فإن البدائية في أشد صورها عنفاً وتزمّتاً وسذاجةً وجفافاً، تبقى ضامنة لاحترام كونيّ لا يزول..... كطفلة خالدة لا يكبر عقلها، ولكنها ولودة على الدوام، تلد أطفالا يخرجون وهم أقل منها وعياً ويشيخون وهم يفوقونها وعيا بمراحل ومراحل، ولهم من الأحفاد أجيال وأجيال كل جيل راكم من الوعي ما جعله أرقى من سابقه، ولكن أرقى الأجيال لا تستطيع أن لا تنحني عند أقدام الجدة الخالدة الطفلة، وتقدم لها ولاءها المطلق، لها ولبدائيتها، لها ولبدايتهم.
تستغرب بعد أن ظهرت فيروز، أن يظهر من يستمع إلى وجدي غنيم؟ تستغرب بعد إبداعات دوستيوفسكي وتشيخوف وتولستوي أن تجد من يستمع إلى تسجيلات داعش بإعجاب؟ تستغرب بعد تطوّر مواثيق حقوق الإنسان أن تجد المتعطشين لدماء الآخرين بناء على ايديولوجيات عرقية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية؟ تستغرب بعد كل هذا التطور في الوعي البشري وما حمله ذلك التطور والتواصل والإنتاج الإنساني المشترك في الأدب والفن والعلم من سمو روحاني أن تجد من هو مستعد للإبادة الجماعية في سبيل زيادة ثروته المادية؟
لا تستغرب....
شاهد الوحوش.... الضباع لا زالت حتى الآن تأكل فريستها قبل أن تقتلها، تأكلها حية، تتنازع الضباع لحم وجهها وهي لا زالت ترى وتسمع وتشعر. هذه البدائية حاضرة، ولو انصرف عنها البشر بسبب تطور عقلهم ووعيهم، أو مارسها بعضهم والأكثر لها رافض، فهي ستجد ضالتها في الوحوش، في عالم الحيوانات، وفي عالم الحشرات المخيف.
في هذا الوجود رعب وألم وحرائق وقمع وكبت وحبس ليس مقتصرا على الإنسان، ولو تنازل البشر كلهم عنه، سيبقى موجودا عند الكائنات التي تحتكم إلى انفعالاتها.
لقد انفصل البشر -بوعيهم ونطقهم- عن مملكة الحيوانات منذ أمد طويل وتكرّموا بالنطق وحازوا شرف خلافة رب الأرباب وحمل أمانة كلماته، ولكنهم لا يمكن أن يهربوا من بداية القصة. ومهما هربوا، سيشهدون مواسم عودة شديدة تثير عجب وغضب أصحاب الوعي، أصحاب الوعي الحالمين السذج. هم يسمونها انتكاسات، أن يتحول الناس من ديوان أمل دنقل إلى ديوان عائض القرني، ومن مسرح سارتر إلى برنامج علامات الساعة لنبيل العوضي، وأن يتحولوا من موسيقى السنباطي إلى أناشيد العفاسي.... يسميها أصحاب الوعي السذج بالانتكاسة.... ولعلها كذلك.... ولكن الأحرى تسميتها موسم ردة الفعل البدائي.... البدائية الكونية ترد الكرّة....
بل إن البدائية تتجاوز الحرب والعنف والايديولوجيا والتزمت والمحافظة لتستحوذ على الجنس نفسه...... الجنس لا يمكن أن يتخلى عن بدائيته.... تلك الوحشية بين ذكر يفترس أنثاه....وأنثى تظهر المقاومة وهي خاضعة، شبقة لقوة فحلها، تنتشى لكونها جاريته الصغيرة. ذكر شديد يحمل كل صفات الخشونة والذكورة ينقض على أنثاه الممتلئة بالمنحنيات، على فرسه.... يثب عليها ويبطش بها، فتستيقظ بدائيتها لتنتشى رغم أنف عقلها الذي قرأ لنيرودا وطرب على بيتهوفن وسبر أغوار المجرات ونظريات الفيزياء الحديثة.... وهو أيضاً، ذلك الذكر الضاري، يستجيب لبدائية داخله لا يردعها إلمامه بالفلسفات القديمة والحديثة وفنون المسرح والسنيما ....
البدائية تفرض نفسها على الجميع في الجنس.... من من البشر هو مستعد للتفريط في البدائية حين يصل الأمر إلى الجنس؟.... إن البشر سيحيّدون عقولهم ساعة ممارسة الجنس، كونه سيفقد جموحه ويتخنّث في اللحظة التي يحاول فيها أن يصبح متحضراً ويجاري الوعي البشري المتراكم....
الجنس أحد الأسلحة الفتاكة في يد البدائية الكونية..... ولكنه ليس وحيداً ..... فالمجد أيضاً لا يمكن أن ينمو إلا ضمن بدائية تتنازل عن كثير من مكتسبات الوعي البشري المتراكم .... المجد والبطولة ... الانتصار .... النفوذ .... السيطرة .... هذه كلها لم تقل مع مرور الزمن، رغم أنها تتعارض في صميمها مع أساسيات نظرية من مكتسبات الوعي البشري المشترك..... هي لم تقل ولن تقل بل هي تأخذ أشكالاً أخرى ....
وحين تشعر بالإحباط مما آلت إليه السياسة، وما آل إليه الوعي العام، حتى حل حسن نصر الله محل مهدي عامل، وحلّ محمد مرسي محل عبد الناصر، وحل أحمد ياسين محل وديع حداد، وحل بن لادن وعبد الله عزام محل جول جمال وسناء محيدلي... لا تقل هي انتكاسة، بل افهم أنها ردة فعل متوقعة..... تضرب بقوة كلما جاوز الابتعاد عن البدائية حدوده.... لتردعه وتعيد إلى الحياة شيئاً من التوازن.....
توازن على حساب شيء جميل ..... ولكن لا مفر
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموقف من استمرار الوجود - ماني الغنوصي
-
عصر الأنبياء الصامتين ...
-
غاية التقدم... كشف الإنسان 3
-
زمن الميمز
-
حاول تفتكرني - تحدي الفاني للخالد
-
إجابة السؤال الوجودي - من غير ليه
-
أزهار سلمى
-
قبض الريح - زي الهوا
-
معنى التوبة، بين الفاعل والمفعول - 2
-
يا ليت قومي يعلمون؟
-
الكلام في مواجهة العدم
-
إذا كان هناك حياة بعد الموت، لماذا الموت أصلا؟
-
نهاية الإلحاد 3
-
نهاية السوشال ميديا
-
نهاية الإلحاد 2
-
نهاية الإلحاد 1
-
سلمى (8) ... عدن
-
نهاية الإلحاد
-
معنى التوبة، بين الفاعل والمفعول
-
فيدرالية بيتر كروبوتكين
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|