دور المفردة والسياق في بناء المشهد الجنسي نص (استخدام الحياة) نموذجا -الى فاطمة ناعوت وضحايا محاكم الفكر كافة-
سلام عبود
2016 / 5 / 5 - 03:35
دور المفردة والسياق في بناء المشهد الجنسي
نص (استخدام الحياة) نموذجا
-الى فاطمة ناعوت وضحايا محاكم الفكر كافة-
مقدمة:
لا تهدف هذه المقدمة الى تفسير النص التراثي، وإنما تهدف الى التأكيد على أن إشكالية العلاقة بين المفردة والسياق معضلة قديمة قدم وجود اللغة، مكتوبة أو محكية؛ وأن المفردة تكتسب تأثيرها، حدّة وضعفا، طبقا لخصائصها الذاتية، وشروط وجودها، التي تجعل منها كلمة ذات شحن سلبي أو إيجابي أو ذات طبيعة محايدة. لكن المفردة، في أحوال كثيرة، تغيّر هويتها تحت تأثير عوامل متنوعة، موضوعية، منها: سياق الاستخدام اللغوي، وموضوع التوظيف وغاياته؛ وعوامل ذاتية، منها: فهم المتلقي، وتأويلات التلقي، وسبل استثمار النص نفسيا وثقافيا وتوجيهه. إن العودة الى النص التراثي والديني ترغمنا على الرجوع، من حيث لا ندري، الى المعادلة السحرية، التي رسمها النقد العربي للمحرمات الثلاث: الدين، الجنس، السياسة. إن نص (استخدام الحياة) القصصي، للكاتب المصري أحمد ناجي، وما رافقه من دعاوى قضائية، وحملة احتجاج واسعة ضد التهم الموجهة اليه، تجسد بتفاعلها، تشابك المحرمات الثلاث، وتعاضدها، وتحولها قوة موحدة في المعارك بين خصوم واقعيين لهم وجودهم الحسي أفرادا وجماعات، وخصوم مفترضين لهم وجود نظري، يتوزعون على جبهات مختلفة. إن أخطر ما يحلّ بالكلمة هو إخراجها من السياق، الذي يعني إخراجها من دائرة المعنى والتأويل، وإعادتها الى نشأتها الفطرية الأولى، والى لحظة خلقها الطبيعية، الموضوعية، كعنصر مرجعي مجرد. والأكثر خطورة من هذا هو حصر الكلمة حصرا تاما في قالب قاموسي جامد، بتجريدها التام من مدلولاتها التفسيرية المختلفة، ومن خصائصها وأشكال تجليها في سياق سيرورة تطور تكوينها، والتعامل معها كصيغة لغوية عارية، آحادية الإيحاء. الأمثلة التراثية، التي قمنا بانتقائها من القرآن والحديث، ترينا أن الحكمة، والجودة الفنية العالية للصياغة، تفعل العكس، تحرر الكلمة من مرجعيتها الحسية، وتطلق مقدرتها على توليد المعاني. لكن الشراح الكسالى عقليا يعيدونها قسرا الى حقل المرجعية الأجرد. وكلنا نعرف إتهام العرب للقرآن بالشعرية، وللرسول محمد بأنه شاعر. والشعرية هنا- حينما ننظر اليها من زاوية لغوية وليس دينية - لم تكن تعني سوى أمر محدد: تفجير مكنونات اللغة، وتصعيدها فنيا وجماليا الى أعلى ذراها، أي جعلها بمنزلة الشعر بيانيا. ساق الملكة بلقيس مثلا، التي هي كناية عن الانبهار بالعظمة، رسمها شراح القرآن على هيئة "رِجل حمار"، أي رِجل مشعرة، لكي يتم التطابق بين الصورة الجمالية القرآنية عالية الأناقة، وعالية الجرأة: "وكشفت عن ساقيها" وبين مبادئ التحريم البشرية، التحقيرية شكلا ومضمونا، التي لا تجيز للمرأة أن تكشف عن ساقيها في حضرة رجل غريب. القراءة السلفية للمفردة لا تـُعنى بتفسير المفردة، بل تعنى بدرجة أولى بتفسير ما قد تؤول به من قبل الآخرين. لأن الموقف السلفي لا يُبنى على مواجهة الواقع فحسب، بل يبنى أيضا على احتمالات ما قد يجلبه الواقع افتراضا، وهذا يشمل الفكر السلفي كافة، بما فيه النظرة الدونية للمرأة وعوراتها ونواقصها وفتنتها، باعتبارها احتمالات ممكنة. لذلك لم يجز الشراح لرجل، في مرتبة النبي سليمان، أن يلعب لعبة كشف السيقان العابثة مع امرأة غريبة، لمجرد إثبات تفوق عظمة عرشه على عظمة عرشها. عبارة " وكشفت عن ساقيها" القرآنية شطرت المخيلة شطرين متضادين: القرآن برؤيته البيانية والجمالية الساحرة، وجمهور كبير من الشراح بتصوراتهم التسفيهية السقيمة. هذه البديهيات اللغوية التخصصية، التي تؤكد عليها فلسفة اللغة عند تحليل النصوص، يقتلها جهل الشراح والرواة والفقهاء ومن يتبعهم، ويقتلون معها ملكة التفكير، والتخيّل، والذوق الجمالي، وحتى الإيمان السوي. في هذه الإطلالة السريعة نلقي بصيصا من الضوء على هذه المسألة المعقدة، لكي تكون مدخلا لفهم نص روائي أثار الجدل مصريا وعربيا، بسبب سوقه الى القضاء، جراء الاختلاف حول تأويل مفرداته، وما نتج عنه من إثارات ومحرّضات قضائية وأدبية وثقافية وأخلاقية. خلاصة: السياق يذهب الى المعنى، الى تعدد المراجع والمصادر، بينما تركـّز المفردةُ التفسيرَ في حالة محددة، متفق عليها جمعيّا، باعتبارها خلاصة نوعية مجردة، تقفل باب التعدد في رؤية الأشياء من مساقط مختلفة، وإن بدت في الظاهر أنها تفعل العكس. هذا التناقض الظاهري هو علة أساسية من علل الخلاف بين العقل والنقل. فالنقل يبدو مخلصا للواقع وأمينا على قاموسه وصوره في الظاهر. أي أنه أمين صوريّا على الحالة الثابتة، المعزولة، الصنمية الدلالة. لكنه في حقيقة الأمر يفعل الضد تماما، يقوم بانتقاء معنى اختياري من قائمة المعاني المجردة، بمعزل عن تطور المفردة وتغيراتها التاريخية، وبمعزل عن تفاعلاتها الدلالية ضمن وجود لغوي متجدد. وهذا الأمر يشمل جوانب الحياة كافة، من العادات والتقاليد والشرائع، الى الملبس والمأكل، والى الرمز الحسي من سيف، وراية، ولون؛ والى الرمز العقلي، الذي تحتل فيه اللغة أكثر مناطق الاستخدام خطورة. أمّا السياق فيفعل العكس، يعيد المفردة الى حقلها الطبيعي، الذي زرعت فيه، ويقوم بقراءتها باعتبارها جزءا من واقع استعمالي متغير تاريخيا وتعبيريا، ولكن في إطار صورة متكاملة المغزى. ولأن المفردة بطبيعتها تتجاوز حدود التصنيف، والتقنين الصارم، بسبب تعدد طبائعها: مفردة ذات شحن سلبي، وأخرى ذات شحن إيجابي، وثالثة محايدة، فإن الاستخدام والتجربة الشخصية، والانحياز العقائدي والثقافي، يجعل المفردة، سواء أكانت سلبية أو ايجابية الشحن أو محايدة، تكتسب شحنات مختلفة ومتناقضة في أحوال كثيرة.
هذه المقدمة التوضحية تضعنا أمام السؤال المحوري: من يضبط وقع الكلمات في المجتمع؟
جماليات اللاهوت الجنسي
حينما يطلب قاض من أديب قراءة عبارات في نص، لكي يجعل من قراءتها تهمة مؤكـَّدة، ومن الامتناع عن قراءتها دليلا إضافيا، قاطعا، يثبت وقوع التهمة وتحوّلها الى جريمة، فإن العقل يصل الى أدنى مستوياته، باعتباره أداة لمعرفة العالم، وخصيصة بشرية حصرية. حينما يطلب أستاذ جامعي من محامية كاتب أن تقرأ، أمام ملايين المشاهدين، نصا يعتقد شخصيا أنه محرم ومدنس أخلاقيا ودينيا، فإنه يجري مباراة علنية، في الهواء الطلق، لإشاعة "الرذيلة"، التي يجرّم هو نفسه وقوعها حتى لو كانت محصورة بين سطور كتاب. هذا التناقض العقلي والروحي الثقيل يبيّن لنا أن الهوس بالتكفير والتجريم، ليس خلافا في التأويل اللغوي حسب، بل هو خلاف في الموقف من الحياة عامة، وخلاف حول درجة استخدام وظائف العقل. أما محاكمة النص قضائيا فلا تعدو أن تكون نسخة مبتذلة ومتأخرة جدا من قوانين "صيد الساحرات الخبيثات" المقيتة. إن محاكمة النص الأدبي أخلاقيا، باسم القانون المدني، إجراء سياسي، وبتعبير أدق سلطوي وحكومي، يفترض زورا وجود قوة تفسيرية، أخلاقية، عليا، محايدة، تتولى مهمة ردع المارقين لغويا وحفظ كرامة المتضررين أخلاقيا. وفي الظروف الحسية الملموسة، الراهنة، التي يعيشها المجتمع المصري، والعربي عامة، يبدو قانون تفسير النصوص كما لو أنه قوة فوقية منافقة ومصانعة، تريد الموازنة بين إخفاقات ولائها - باعتبارها جزءا من منظومة قيادة الوعي الاجتماعي- السياسي الفاضح، كحارس لمملكة الحق في واقع مضطرب لم يصل الى برّ، وبين كسب عطف الجمهور المستفز والمتحارب. ولكن، يتم هذا الجمع النفعي (التوازن الحسابي القصدي الموجّه) على حساب فئة المنتجين الثقافيين. فمن طريق إدانتهم يتم إرضاء بعض حاملي نزعة التكفير، الذين فقدوا سلطتهم السياسية، لكنهم احتفظوا بعواطف مستفـَزة، وبألسنة حرة، سليطة، عبر حلقات إجتماعية مختلفة مباشرة وغير مباشرة، منها بعض أجنحة سلطة القضاء. بيد أن القرآن، والحديث النبوي، باعتبارهما سلطة مرجعية عليا، واللغة العربية باعتبارها خزانا تعبيريا ثريا، تمدنا بأمثلة قوية، تؤكـِّد صحة ومنطقية رفض محاكمة النصوص خارج سياقها، الذي صاغه الأديبان محمد سلماوي وصنع الله ابراهيم، اللذان مثلا أمام القضاء كخبيرين. هذه الوقائع تؤكد أن من يحضّ على استغلال مزالق اللغة متعمدا، بصرف النظر عن قربه أو بعده من الإيمان الديني، يغبى عليه أنه يطعن بأقدس الكتب التي يؤمن بها، وبأوثق وأرفع سنن التشريع.
الإغواء الجنسي، أو المراودة عن النفس، وردت في الآيات 23 و32 و51 من سورة يوسف، ومن الجنون المحض أن يجعلها أحدهم من صنع "نافث للرذيلة". إن هدف هذه الآيات التربوي يكمن في دلالاتها العامة ضمن سياقها السردي، وليس في عبارات مجتزأة منها. على الرغم من أن المراودة، في قواميس اللغة كلها، لا تعني سوى أمر واحد محدد: الإغراء والحثّ على إتيان الفعل الجنسي.
الاختبار المثبت قرآنيا، الذي قام به النبي سليمان، لا يستطيع قاض أو فقيه تأويله أو إنكاره، لأنه مدوّن في سورة النمل، الآية 44: " وكشفت عن ساقيها". امرأة، وأية امرأة، ملكة سبأ، تكشف عن ساقيها! تلك الآية كانت امتحانا سلطويا خـُصّت به بلقيس، حينما دخلت صرح النبي سليمان فحسبته لجّة، فما كان منها إلا أن رفعت ثوبها كاشفة عن ساقيها في حضرة نبي. هذا النص القرآني بصوره التجسيمية، الحسية، ظل مصدر تأويل على مر العصور، حتى استوى لدى بعض ضعاف العقول أشبه بمباراة في حسن استخدام مزيلات الشعر: الموسى أم النورة؟ وقد تمّ تسجيل براءة اختراع النورة باسم النبي سليمان، بسبب كره بلقيس المزعوم مرور الحديد (الموسى)على جسدها! والعلة في ذلك كله أن بلقيس كانت مشعرة، كما يؤكد الفقهاء المبصرون. قال بعضهم إنها من نسل الجن، وإن ساقها "ساق حمار". كل هذا الـتأويل الساذج والأحمق أورده الشراح وشراح الشراح، للهروب من مواجهة السؤال الكبير: كيف حلل الله الحديث عن كشف السيقان؟ وكيف سمح نبي لنفسه أن يفعل ذلك؟ أي كيف سمح حكيم لنفسه أن يخدع أنثى ويجبرها على كشف بعض "عوراتها"، ومواطن "ضعفها"؟
من المفسرين من رفض خرافة رِجل الحمار والشعر، وأحلّ للخاطب والراغب في النكاح " أن ينظر إلى قدميها وإلى وجهها وإلى يديها، لا حرج في ذلك"، وكان سليمان الحكيم بموقع الخاطب. وعلى الرغم من حسن التخريج والاستنارة في هذا التأويل الفقهي المتفتح، إلا أنه لم ينج أيضا من معصية تحريف وتأديب النص القرآني. فالقرآن لم يذكر "القدم"، بل نص بوضوح تام على كشف "الساق"، والساق غير القدم.( راجع تفسير الشيخ عبدالعزيز بن باز).
إن أية قراءة أخلاقية أو فقهية أو أدبية للصورة اللغوية لا تعدو أن تكون حلا اختياريا ممكنا، موجها قصديّا، يقوم به القارئ لمصلحة فهم الدلالات ضمن سياقها المحدد، باعتبارها جزءا من كل. وهذا ينطبق أيضا على عبارة "وكشفت عن ساقيها" القرآنية لفظا ومغزى، والنبوية ممارسة، بكل ما تضمنته من ايحاءات جنسية، سيجد فيها البعض - لو لم تكن ألفاظا إلهيّة مقدسة - تحريضا على الإثم، و"نفثا لشهوة فانية"، "ولذة زائلة".
إن الغوص في التفصيلات اللغوية الجزئية، بمعزل عن السياق العام، يُفقد النص أغراضه التربوية والعقلية والجمالية، ويُفقر مغزاه. لأن العبرة في عبارة "وكشفت..." تكمن في إظهار حجم الإعجاز، الذي يخلقه صرح النبي سليمان المثير، في مقابل الأخبار المدهشة، التي نقلها الهدهد لسيده سليمان: " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم".عرش مقابل عرش! ذلك امتحان قرآني لبلقيس، ملكة سبأ، وامتحان لغوي للقارئ، هدفه الوصول الى تعبير بلاغي فني يصور العظمة وما يرافقها من إبهار، ولا يُعنى، كهدف وغاية، بعرض السيقان، وما يرافقها من تداعيات جنسية وأخيلة، وإن تضمنها المشهد.
كم مرة استخدم القرآن والحديث كلمة نكاح؟ سيقول قائل: وما العيب؟ النكاح يعني الزواج. وهذا خطأ جسيم لغويا وفقهيا. يقول الأزهري في تهذيب اللغة: "أصل النكاح في كلام العرب الوطء". ويقول ابن منظور: "نكحها: باضعها أيضا، وكذلك دحمها وخجأها (تعني الممارسة الجنسية بلين أو شدة). وقوله عز وجل : في سورة النور، الآية الثالثة: "الزاني لا ينكح إلا زانية" تأويله لا يتزوج الزاني إلا زانية...؛ وقد قال قوم: معنى النكاح هنا الوطء". والقول الأخير هو الأسلم والأقرب الى العقل. فإذا كان النكاح هنا بمعنى الزواج، فإن الاحتمال الأول لتأويل الكلمة هو أن الزنا ( تكتب الزنى أيضا) ضرب من الفعل الحلال والشرعي، أي هو بعض أنواع الزواج، وهذا مخالف للعقل وللشريعة. الاحتمال الثاني يقودنا الى اتهام القرآن بأنه أراد أن يشرح للعباد طرق وأساليب زواج الزناة المتنوعة، وهذا أكثر فسادا وبطلانا من سابقه. الفعل "زنا" ومصدره واشتقاقاته منصوص عليها في القرآن والحديث وكتب التشريع من دون لبس. ولم يتم تأويلها خارج سياقها، إلا في عقول جاهلة. كم ستكون الصورة إجرامية ومرعبة دينيا وأخلاقيا عند الإقدام على قراءة - صمتا أو جهرا- نص الآية الثالثة، ناسخين كلمة "زنا"، باستخدام أختها العامية، التي تطابقها في الدلالة وتخالفها في اللفظ ؟ وهذا لا يعني سوى أمر واحد: لنظام بناء الجملة، ولبنية السياق اللغوي، حساسية خطيرة، تصنع حرمتهما التعبيرية، قبل حرماتهما التقديسية.
كلمة "الزاني" هنا لا تعني سوى ممارس الفعل الجنسي، و"نكح" صيغة فعلية للدلالة على ممارسة الزنا، أي على المضاجعة وممارسة فعل الجنس خارج مؤسسة الزواج الشرعية.
إن من العطالة العقلية التامة إعادة قراءة مثل هذه البديهيات في مطلع الألفية الثالثة. لكن العقل التكفيري يظل يعيد نفسه ويكررها بصور مختلفة على مدى التاريخ كله.
منزهو القرآن من معنى الزنا الحقيقي، ينسون جميعا، أن الزواج تعاشر اجتماعي، ركيزته الأساسية تقوم على فعل جنسي محض. لكنه فعل مجاز شرعا، مهما اختلفت تسمياته، حتى لو كان زواج عطلة الصيف، الذي يمارسه جنسيون خليجيون في قرى اليمن الفقيرة أو مخيمات اللاجئين، أو زواج المتعة أو المسيار.
بمقدورنا المضي أبعد من هذا في تفسير التعبير الجنسي قرآنيا، لو أردنا التعمق في تاريخ العلاقة بين اللغة والتحريم الجنسي. فلم يزل الخلاف قائما حول تفسير سورة البقرة، الآية 223 "نساؤكم حرث لكم فآتوا حرثكم أنّى شئتم". ولما يزل الجدل حول تأويل "أنّى" حيّا وساخنا: هل هي متى أم أين أم كيف؟ وفي الأحوال جميعها، فإن الآية توضح، بما لبس فيه، أن القرآن لم يتحرج في ذكر طرق الجماع المختلفة. وهي لدى عامة المفسرين الجماع الطبيعي من الفرج في الأوضاع الممكنة كافة من دون استثناء. وقد عدّ بعضهم كلمة "حرث" بوصلة صارمة الاتجاه، لها إيحاء دلالي خاص جدا، يتعلق بالتكاثر والانجاب، حصرت الايلاج في موضع عضو التناسل، على خلاف من يشيرون الى احتمال الوطء من الدبر. وهذا التأويل على درجة عالية من حسن التخريج الفني والفقهي. بيد أن ذكاء المفسر الجلي، وتفتح عقله، لم يمنعه من نسيان أن كلمة "الحرث"، ذات الايحاء الزراعي، تأتي أيضا بمعنى جنسي خالص: مجامعة المرأة بكثرة. إن اللغة لم تخن الرسول محمد في موضوع تحديد مقدار ابتعاد الرجل عن المرأة الحائض، حينما قال إنه يقتصر على تحريم النكاح، وهو يعني الوطء، أي المضاجعة وليس الزواج. وربما يصاب التكفيريون بالرعب حينما تعاد على أسماعهم الرواية الأخرى للحديث نفسه، التي نصّت على إباحة تلامس وتداخل الأعضاء التناسلية للذكر والأنثى الحائض، ولكن بطريقة غير مباشرة، كأن تكون بستر من قماش. لقد مضى الرسول في وصف اللقاء الجنسي حدا أبهر الكفرة قبل التكفيريين حينما اشترط ألا يتم الإحلال في الزواج للمرأة المطلقة " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". ما هي العسيلة في تقدير شرطة الأخلاق اللغوية؟ إنها تذوّق واستطعام والتمتع بالمواقعة الجنسية الكاملة، بكل تفاصيلها الحسية والعاطفية، موصوفة بأحلى الأوصاف وأطيبها وأطعمها وأكثرها "نفثا" وتحريضا على الأثم، في نظر التكفيريين طبعا، ونظر المؤولين الجهلة، الذين جعلوا الدين عسرا حقيقيا، يخالف الفطرة البشرية ويناقض قوانين تطور الحياة. إذا نظرنا، نظرة تطورية الى تلك الآيات والأحاديث، نجد أنها جميعها ترتبط بصراع تاريخي بين منهجين عقليين وثقافيين، الأول سلفي يمثله فكر وعادات ما قبل الإسلام: يهودي ووثني، التي تريد تثبيت ما كان قائما سلطة وتفكيرا وسلوكا وخيالا، والآخر مجدد: أي إسلامي، رفض العادات والتصورات، التي تشددت في نجاسة المرأة عند الحيض، ورفض ربط مواضع الجماع بطرق محددة لأسباب خرافية، كمنع وطء الفرج إلا من طريق مواجهة المرأة للرجل. هذا نقاش جنسي للتاريخ، لكنه نقاش خارج سياق التاريخ الطبيعي. لأنه بعض من تاريخ وعبرالقرون الغابرة، يرغمنا التكفيريون على إعادتها المملة من حين الى آخر.
الغلو التكفيري يترجم قضائيا
بين ادعاء المحكمة المصرية على الروائي أحمد ناجي بخدش الحياء، في فصل من روايته ( استخدام الحياة )، وبين استهجان هذا الادعاء وإدانته، باعتباره خنقا لحرية التعبير، توارى في الظل أمر أكثر أهمية من الدعوى ومن رفض الدعوى. لقد اختفى أصل الخلاف: النص الروائي المسمى (استخدام الحياة).
ومن غرائب الأحداث أن تخص المحكمة فصلا بعينه بتهمة "خدش الحياء"، في الوقت الذي حملت فصول عديدة من الرواية ما هو أكثر "خدشا للحياء"، ومن الغرائب أيضا أن تعود العدالة، بأثر رجعي، الى محاكمة نص صدر كاملا عام 2014، ونجا من العقوبة.
لم تقتنع المحكمة بتبرير شخصيتين أدبيتين رفيعتين، هما صنع الله ابراهيم ومحمد سلماوي، اللذان رفضا قراءة المقطع، الذي يحوي كلمات جنسية، اعتقادا منهما بأن اقتطاع النص من سياقة يحرفه عن مواضعه ويسيء الى مضمونه. أما المحكمة فقد اعتبرت جوابهما تعضيدا للتهمة، لأن الكاتبين تهرّبا من الجواب وحاولا الالتفاف على غرضه المباشر: تخديش الحياء، وما يتضمنه من "نفث شهوة فانية ولذة زائلة" وتأجير الكاتب "عقله لتوجه خبيث". وهي أحكام وصفية وذوقية، تأويلية واستنتاجية، لا صلة لها بالتحريم والتجريم الأدبي وبالأحكام القضائية.
بين هذين الحدين: الانتصار لصاحب النص ضد الاتهام القضائي المتحامل، وبين الإدانة باعتبارها حقا قانونيا وأخلاقيا وإيمانيا، فقد المتابعون المصدر الخلافي، وراحوا يتحزبون للحدث. والتحزب للحدث وللمثيرات أمر طبيعي في أزمان القلق والفوضى وفقدان الأمان النفسي والاجتماعي. فمن الملاحظ أن القضاء المصري أكثر من هجماته على المنتجين الثقافيين المصريين في موجة حماس واضحة الأغراض، محاولة منه للظهور بمظهر حامي القيم، وربما الناظم العادل لمعادلات الحق في مجتمع مضطرب. وهي وظيفة مفعـّلة انتقائيا، برزت في ظل أزمة مجتمعية وسياسية حادة، لم تُحسم نتائجها بعد، طبعت حقبة الحكم الحالي كلها: الوقوف ضد الإرهاب الموجود على أرض مصر والدخول في تحالفات سياسية وعسكرية مناقضة، الوقوف ضد الإخوان في مصر والتحالف مع مشروعهم في اليمن وغيرها، الوقوف ضد قطر وتركيا إعلاميا فيما يخص الداخل المصري، والصمت على المشروع الأردوغاني القطري كاستراتيجية إقليمية متكاملة، الهجوم على التكفيرية السلفية مصريا والتحالف مع أبرز ممثليها قوميا. هذه الانتقائية السياسية، وهذه التهجينات العقلية النفعية، التي لا تخلق سوية واضحة للفكر والممارسة، هي عنوان المرحلة كلها، وهي التي طبعت القضاء بطابعها، وجعلته يهجم على الكلمة بديلا من حماية حقوق المجتمع الأساسية: حقوق المواطنة وحقوق التعبير، التي يعجز عن تحقيقها بعدالة تامة. لقد آثر القضاء أن يبدو أبا روحيا للعفة العامة، والحياء العاطفي الجمعي، وتداعيات الإيمان الغرائزية والفطرية، في مواجهة كتاب منفردين، لا سند سياسيا قويا يحميهم. في هذا الموقع يحقق القضاء نصرا خلـّبا، يشبه النصر العسكري الناقص على التكفيريين في سيناء، ويشبه النصر السياسي والثقافي الحاسم على التكفيريين في الشارع المصري. ولكن، لا نصر حاسما متحققا في الجبهتين العسكرية والمدنية، السلمية والحربية. لكأن نظام العدالة المصري يريد أن يوازن خسائره وأرباحه، جراء اضطراب الواقع السياسي وقلقه في القضايا الوطنية الكبرى، فمال الى تحقيق التوازن القانوني المجتمعي بطريقته الخاصة، بسبل دعائية واستجدائية. أراد تحقيق ذلك بأسهل الطرق، من طريق تسجيل انتصارات شعبية جماهيرية، على حساب فئة رأى أنها محدودة نسبيا، وعلى حساب منتجين ثقافيين، يعرف القضاء جيدا، أنهم لا ينتسبون الى القطيع السياسي المؤثر، أو القطاع الشعبي الواسع المستفز والمقاد عاطفيا. لقد بدا القضاء كما لو أنه يريد الحصول على فدية، تتم سرقتها من فم الثقافة، أكثر مما ينشد العدل وتحقيق التوازن بين حريات وحقوق المواطنين.
ولكن الأمر لا ينحصر في سلبية المناخ السياسي العام وحده. بل يتعداه الى قصور المرحلة تاريخيا، وهبوط منسوبها العقلي. إن المؤسسات الثقافية الوطنية، والمثقفين المتنورين، يتحملون دائما، أفرادا وجماعات، مسؤولية خاصة في مجال لعب دور تفاعلي لصالح المنتجين الثقافيين، من الشباب والنساء خاصة، الفئات الأكثر عرضة للهجوم والاستضعاف. إن المسؤولية الثقافية تحتـّم أن يكفّ المتنورون عن لعب دور الضحية الثقافية. وتحتم أن يكونوا قوة إسناد لمن لم يثبتوا أقدامهم على أرض الواقع بقوة بعد، من طريق جعل الخبرات الثقافية التاريخية بوصلة هادية فنيا وفكريا، جماليا وعقليا، ومعينا يُسهـّل للأجيال الجديدة مهمة قراءة إشارات الطريق الفنية والثقافية بأفضل السبل.
العودة الى استخدام الحياة
كاتب النص أديب شاب، نشر نصه القصصي الثاني عام 2014، حينما كان في التاسعة والعشرين من عمره. شاركه في الكتاب الفنان أيمن الزرقاني رساما. سبق له أن نشر قصة طويلة، لم تلفت الأنظار الى كاتبها، الذي "عمل في مجال الصحافة منذ 2004 وعمل أحياناً في صناعة الأفلام الوثائقية".
في الفترة بين ربيع وشتاء عام 2006 عكف الكاتب على كتابة نصه القصصي الأول (روجرز). وتمكن من نشره عام 2007. وهو نص قصير ( 60 صفحة)، لا يتجاوز حجمه الحقيقي أكثر من خمسين صفحة، لو قدّر للقارئ حذف النص الإنكليزي الزائد، المرفق به. لا نعرف طبيعة الأثر الذي أحدثه هذا النص في الوسط الثقافي المصري. لكن المؤكد لنا أنه نص يفتقر الى الخصوصية النوعية، والى قوة التأثير في جانبيه الفني والفكري. فهو لا أكثر من تمرين قصصي أول، زاخر بالهنات التعبيرية، وبركاكة بناء الجمل. وفي جانب المحتوى يعرض النص ذكريات مقتضبة من مرحلة الطفولة، ومعايشات راهنة، مصحوبة بنوبات من التهويمات والأخيلة غير المنضبطة، لا مركز لها، تتدافع من دون هدف ينظمها في إطار مقبول فنيا. ولم يكن التفكك خصيصة البناء وحده، بل كان مقرونا بتشتت واضح في مضمون النص، الذي لم يكن يملك هدفا واضحا يسير اليه. الأفكار والبناء حاولت التأطـّر في مركز ولم تفلح. الرؤى لبثت مبعثرة، ومجرى الروي لم ينتظم في عقد.
بيد أن هذا كله لا يحرم النص من جرأة المغامرة الأدبية وإثارتها. إن أفضل ما يمكن تحصيله من نص (روجرز) هو اعتباره تمرينا ضروريا، لا يخلو من الالتقاطات الحياتية الذكية، وجولة شخصية للتعرّف الذاتي على المقدرات الفردية، ورحلة عامة لاستكشاف درجة حساسية الوسط الاجتماعي والثقافي وأشكال ردود أفعاله وحدوده الممكنة. قارئ قصة (استخدام الحياة) لن يخطئ لو أنه اعتبر قصة (روجرز) مرانا فنيا وعقليا مهادنا نسبيا في علاقته بالمجتمع والتعبير عن النفس، لكنه في عين الوقت محرض داخلي فعال، مارس تأثيرا قويا، وقاد الى إنتاج نص لاحق، عابر للحدود، حدود القصور الفني، وحدود حرية التعبير على حد سواء. هذا الأمر لا يتوقف عند الدربة والاجتراء حسب، بل يمضي أبعد من هذا الى الأفكار والأهداف. فكثير من أفكار (استخدام الحياة) برقت كومضات أو مواقف متفرقة في (روجرز): الجنس، السِّكر، المخدرات، الخشية من الآخر، الرغبة في الثورة تمنيّا، الرغبة في التدمير التخيّلي، اليأس وفقدان الهدف، البرم بالوطن والمجتمع. وهي مواطن كافية، عند تجميع بعضها، السلبي منها خاصة، لإنتاج شخصية مستلبة اجتماعيا وعاطفيا، تشبه شخصية "بسّام"، بطل قصة (استخدام الحياة). لا يتوقف التشابه عند هذا الحد، فقد ظهرت في (روجرز)، بشكل جنينيّ، فكرة "المنظمة" المعمارية، التي أضحت الجزء الرمزي والعقلي الأهم في بناء رواية (استخدام الحياة).
إن المهمة الأولى التي واجهها أحمد ناجي هي التغلب على هفوات (روجرز) اللغوية والبنائية. وقد تحقق له ذلك حينما وفـّق في تحسين وتنقية لغته، وتفعيل وظيفة حواره العامي، وفي عثوره على وسيلة واضحة للسرد، باتخاذه منهج ما يعرف بـ (ما وراء السرد)، طريقة للقص. وهي وسيلة نافعة، مكنته من لم شتات الأفكار وتبويبها ضمن إطار سردي مقنع فنيا وعقليا، بعد أن كانت مجرد انطباعات سريعة وتهويمات وأخيلة وأفكار مبعثرة في (روجرز).
ومن الناحية الأسلوبية، في أحوال كثيرة، تبدو العبارات الجنسية النابية، التي خدشت حياء كثيرين، أبعد من مجرد كونها وسيلة صورية للوصف أو التعريف. أي أبعد من كونها بذاءة أخلاقية، فهي طريقة أسلوبية للتعبير عن موقف ولرسم حدود شخصية أدبية. كثافة هذه التعابير وحدّتها وطبيعتها التفصيلية والحشرية، تُشعر القارئ، في مواضع عديدة، أنها سلسلة مترابطة من زمر الاتهامات والإدانات واللعنات النقدية، ولكن بمفردات جنسية وصور إباحية مستفزة. تراكمها المتواتر كاد أن يجعل النص هجوما جنسيا استفزازيا، بلا ضوابط وكوابح داخلية. فما هو شرير وقبيح سياسيا واجتماعيا وثقافيا يتم التعبير عنه جنسيا، وصولا الى حد تسييس الجنس تسييسا كاملا وشاملا، بغية تقبيح هذه السياسة وثلم شرفها، وتجريدها من كرامتها. شمولية الجنس كادت أن تجعل منه منظورا، وليس وسيلة حسب. هل كان الهجوم العدائي الإباحي، للنيل من السياسة جنسيا، حكما عقابيا مخططا؟ هل هو نتاج عفوي لفورة الحماس، وجرعة الاجتراء الكبيرة، التي تناولها كاتب شاب، يبحث عن ثورة داخلية، تعويضية، بديلة من ثورة المجتمع التاريخية، الحلم الذي تهاوى أمام أعين العالم أجمع بطرفة عين؟ بصرف النظر عن الجواب، وعن الدافع الرئيس والثانوي، نجد أن النتائج العامة لاستخدام الحياة قادت الى ولادة بطل قصصي، فاعل أكثر من كونه مراقبا محايدا، تمّ تصويره في هيئة شاب تجرفه أحداث الجنس والتغييب والرغبة في الامتلاك: اللذة، المرأة، المال، الموقع الاجتماعي، المهنة، السرد، البذاءة. هذا الضرب من الشخصيات لا يمنح قارئه، بأية حال من الأحوال، لا تأويلا ولا تخمينا، حق وضعه في مصاف النموذج الاجتماعي المعبّر عن الكرامة الوطنية، أو السوية الإجتماعية، كما ظنّ القضاء، أو المتزمتون. وهنا لا نود التعليق مجددا على الحكم والاتهامات التي حاكمت النص، لأنها خالية من القيمة العقلية، عدا وظيفتها السياسية التأديبية والتخويفية القمعية. لو أردنا محاكمة "ما وراء النص"، من منطلق تقويمي صارم، لوجدنا أن النص يقدم لنا نموذجا لكاتب شاب قد "أجّر عقله" طوعا لفضح صورة اجتماعية "خبيثة". هذه النتيجة ربما تكون صادمة للقضاء، لأنها تتعارض تماما مع منطوق حكمه. لم يكن "بسّام" سوى شخص ارتزاقي، نفعي، غارق في لذّات عبثية، ومراقب مستسلم طواعية لكل صنوف الإغراء المالي، والوظيفي، والجنسي، والروحي، ينضّم الى مؤسسة مشبوهة، تعمل على إعادة السيطرة من الداخل، على مقدرات المدينة، تحت غطاء إعادة الإعمار. يحدث هذا على إثر تعرض المدينة الى إعصار رملي مدمر. هذه هي الخلاصة الجوهرية التي يصل اليها قارئ الرواية، ولا يوجد أي تأويل آخر يخرج بعيدا عن هذه الحدود، مهما حاولنا ليّ عنق النص. هل أراد الكاتب الوصول الى هذا؟ سواء أراد أم لم يرد فقد وصل نصه، أو أوصلنا، الى هذه النتيجة الإشكالية. من المؤكد أن بناء الشخصية الرئيسة لم يكن بالانسجام التام الذي توحيه مقدمة هذا التقويم، فقد حوت الشخصية بعض التصدعات غير المؤثرة، وهذا ناتج عن مقدار توافر الدربة، وعن أمور أخرى أسلوبية ومهارية سنتوقف عندها لاحقا. إذاً، نحن أما موقف ثقافي وأخلاقي واجتماعي تنويري في مغزاه العام، وتنفيسي في حدوده الذاتية، واستكشافي في حدود كونه تجربة تعبيرية جريئة لكاتب من الأجيال الجديدة، يريد إيصال صوته في لحظة تاريخية عاصفة. لقد آثر الكاتب أن يرسم صورة مدينته، كما يراها، وهو يشاهد عاصفة الصحراء تغطي المدينة بالرمال. وربما اتسعت دائرة نقده، كما أحس البعض، فمسّت مصالح قوى عليا متحكمة بحياة المدينة، ولامست جوهر وجودها: سلطتها، القائمة على ارتهان البلد ومسخ ثقافته وإعادة إعمارها على يد لصوص فاسدين. إن العمل الروائي إنما يُحاكم وطنيا وعقليا وأخلاقيا انطلاقا من أهدافه الرئيسة وغاياته التعميميّة. لأنها المحك الجوهري الذي يربط الجماعات السكانية المختلفة ببعضها، فيما يتعلق بالقضايا المصيرية، في حقبة تاريخية محددة. من هنا، فإن النقد يجب أن لا ينزلق خارج إطاره المرجعي: النص، وخارج تأويلاته التاريخية: اللحظة الوجودية الراهنة بكل أبعادها وتناقضاتها.
الصراع بين الأدب وقلة أدب
يُخطئ من يظن أن الأوروبيين تسامحوا مع النتاجات الأدبية، التي اخترقت جدار التحريم التاريخي. فقد حوكمت ونقدت ومنعت وعدّلت أعمال أدبية عظيمة، أضحت علامات فارقة في التاريخ العالمي، أمثال : (أنا كارنينا) لتولستوي، و( مدام بوفواري) لفلوبير، و(كارمن) لبروسبر ميرميه، و(عشيق الليدي تشاترلي) لـ د هـ لورانس، و(بيت الدمية) لهنريك ابسن. ولم يكن النقد هنا منصبا على وجود ألفاظ نابية، بل بني على مناقشة مضامين العمل الكبرى واتجاهاته العقلية ودلالاتها الاجتماعية. وتلك النتاجات أعمال خالية ومنزّهة من النبو اللفظي تماما، بما في ذلك الرواية المثيرة للجدل "لوليتا" فلاديمير ناباكوف، التي أثارت الذعر في النفوس ليس لقبح ألفاظها، بل لجرأتها الجنسية، وتجاوزها حدود الإباحة والتحريم القانونية. ولكن، من المؤكـّد، أن الأدب وجد نمطا من الكتابة، تجاوز الأعراف لفظا وتعبيرا. بيد أن هذه الأعمال ظلت، في الأعم، محصورة في إطار السير الذاتية، وما تحمله من إمكانية التوصيف اللفظي المتطرف والحر، من دون التفات الى المعايير الأدبية الفنية وتوازناتها الحسابية الصارمة. أما النص القصصي فقد حافظ طوال التاريخ على قوانين انسجامه وتوازنه، وعلى رقابته الذاتية الصارمة، بمعيارية دقيقة ورهيفة، منحت مبدعيه حق البقاء والخلود. وعلى الضد من هذا كله، نجد في واقعة محاكمة (استخدام الحياة) وغيرها، أن أنظارنا- كقرّاء وكتّاب وقضاة- تتجه دائما نحو الجزئي، وتميل الى اللفظ والمفردة اللغوية، وتنسى الدلالات العقلية والمغزى. وهذه الناحية تعيدنا مجددا الى قصة "تلك الرائحة" لصنع الله ابراهيم، التي أدينت أخلاقيا، على خلفيّات سياسية بحتة، بسبب قطرات من المني لوثت أرض غرفة مهملة ووسخة من الداخل، محروسة جيدا من الخارج، كان يتوجب أن تكون تحت حماية قوانين السلطة الحاكمة، وجزءا من منظومة قيمها وقوانين عفتها.
الجنس كضرورة وكإشكال فني
تميز مجتمع نص (استخدام الحياة) بكثرة الشخصيات النسائية. والنساء هنا ضربان، الأول فئة مستسلمة تماما الى حياة الخدر والجنس، منقادة اليها انقيادا تاما. والثاني، وهن الكثرة، نساء يتحمّلن مسؤوليات قيادية في الحدث العام، على الرغم من عدم اختلافهن عن الفئة الأولى من الناحية الجنسية والأخلاقية. ورغما عن هذه الكثرة لم يقدم لنا مجتمع الرواية - والرواية غير ملزمة بذلك - شخصية نسائية واحدة على قدر مقبول من السوية الأخلاقية والاجتماعية. فقد كنّ، جميعهن، غارقات في لعبة الجنس، الشاذ منه خاصة، في الجانب الشخصي. وفي الجانب العام كنّ منخرطات في "إعادة إعمار" المدينة والعالم أخلاقيا وثقافيا وهندسيا. أي إعادة إنتاجه من الداخل والخارج، روحا وجسدا، لصالح قوى مريبة وفاسدة. رجال الرواية لم يكونوا أفضل حالا من النساء في هذا الجانب. أما كبار السن من الرجال فكانوا يضاعفون جنسيا تفاصيل مشهد الفساد من الداخل، في صالة السينما وفي المسبح وفي سيارة الأجرة. وهم "العجائز" أنفسهم، الذين تمنى الكاتب في (روجرز) قتلهم. وإذا أضفنا الى ذلك انتقام البيئة: الحر، والدبق، والتعرق، والغبار، والأوساخ، والروائح الكريهة، والزحام، فإن الحياة بدت مثل دائرة شريرة، مقفلة. ولو قدر لنا أن نضيف اليها عالم المراقبة الاجتماعية: مراقبة الجار، والبواب، والشرطي، والأهل، والمدرسة، و"زعران" الشوارع، والصديق، والعدو، والمحاكم، نجد أن الطوق الجهنمي الرهيب قد اكتمل، ولم تعد المدينة سوى " وعاء كراهية" و"المادة الخام للكراهية والتعاسة"، حتى بات "الجميع يشعرون بالخوف والانتهاك، الجميع متحفز، الجميع عدائي، الجميع جاهز لبعبصة الجميع".
في هذا المناخ الموبوء حدثت العاصفة الرملية، وابتدأت على إثرها أعمال منظمة إعادة إعمار المدينة سرا وعلنا. ولسبب مجهول غيّر المدعو "بسّام" تخصصه وصار معدّا للأفلام الوثائقية. منذ ذاك الحين أضحى "بسّام" مراقبا رئيسا لمجريات استخدام الحياة، بحكم كونه بطل الرواية وساردها، وبحكم اختياره، بمصادفة قدرية، صانعا لفيلم وثائقي لصالح منظمة الإعمار. ربما تسبب هذا الدور في الخلط بين "بسّام" وأحمد ناجي في نظر البعض، لأنهما مارسا مهنة صناعة الأفلام الوثائقية وتقاسما لعبة السرد، مما ضاعف من حدة تأويل أفعالهما ونيّاتهما. لكن "بسّام" لم يكن أحمد ناجي. كان بطل (روجرز)، في الكثير من جوانبه، أحمد ناجي شخصيا. أما "بسّام" فقد انفصل عن أحمد ناجي، وشق طريقا خاصة به، متمتعا باستقلال شخصي بيّن، جعله ينجح في أن يكون بطلا عبثيا في لحظة تدميرية شاملة. استغل أحمد ناجي بشاعة اللحظة فقرر أن يدينها، فجاءت إدانته ذمّا محملا بالشتائم والصور الجنسية التحقيرية، التي تليق تماما ببيئة على هذا القدر من الوضاعة والتفسخ والشرور، كما يعتقد المؤلف. لهذه الأسباب أحسب أن هذا النص إدانة جنسية لزمن الانهيار، وفي عين الوقت هو إبن شرعي، ولد من رحم قوانين الانهيار الشاملة، وبفعلها.
ما الخسائر التي تلحق بنص غاضب، يستخدم التعبير الجنسي لإظهار بشاعة الكراهية، بغية تأليب الناس عليها؟
لو قدر لنا أن ننزع الصورالجنسية من الرواية لما حصلنا على أكثر من نص مصاب باليبوسة، آيل الى الهلاك. هل كانت الصور، وحتى "القفشات" الحوارية الجنسية، جزءا ضروريا من كلية النص، ومن تضاريس إنتاجه وتكوينه؟ نعم، كانت كذلك. لأنها مارست أثرا عميقا في تكوين وتلوين خصوصية الشخصيات من جانب، وفي إبراز مواضع دنس المواقف والأحداث. وهذا الأمر يسري حتى على شخصيات هامشية جدا وعابرة، تعرضت الى تصوير جنسي تفصيلي، لأنها جزء من لوحة الخراب العام. هذا ما وجدناه في مواقعة المرأة الأميركية الجنوبية، بتفصيل تجسيمي استفزازي. الانطباع العميق الذي يستخلصه القارئ يقول إن أية محاولة للحذف أو للتأديب ستتسبب في تدمير صيغة النص الهجومية النقدية، وربما تقود تاليا الى قتل النص، الذي هو في مجمله أخيلة جنسية وسلسلة مترابطة من العلاقات بين بشر لا جذور لهم - حتى المصريون منهم مغتربون ومهجـّنون - يحشرون أنفسهم قسرا واحتيالا في تلافيف الواقع، وينصبّون أنفسهم محتكرين لطرق استخدام الحياة. كيف ستبدو مصر بلا نهر النيل؟ مسح النيل - روح مصر- من خريطة مصر مشروع منهجي، سعى أعضاء المنظمة المعمارية بإخلاص الى تحقيقه.
لذلك يبدو النص وحدة منطقية متكاملة، هجومية، تستخدم سلاح الجنس كأداة قاطعة في الحرب التعبيرية المعلنة ضد فساد الأفعال والأفكار والمشاريع. لقد اختار النص مواجهة حربية للفساد المجتمعي والسياسي، بعدّة سردية تدنيسية لفظا وصورة. وهنا تمكن معادلات التأويل ومآزقه ومخاطره. هنا تكون سلطة الثقافة، وليس القضاء، ملزمة بالبحث عن المسافة الفاصلة بين الأدب وبين نواقص الأدب.
لو أردنا إعادة صياغة السؤال السابق نفسه، بطريقة مقلوبة، وقلنا: ما الأرباح التي يجنيها النص من اختيار أسلوب ما وراء النص وسيلة للسرد، ومن اختيار الهجوم بدلا من الدفاع، ومن الذهاب الى التعبير جنسيا عن الكراهية؟
لطريقة "ما وراء السرد" (الميتا سرد)، حسنات كثيرة، منها أنها تلـّم أطراف الموضوعات المبعثرة في وحدة صناعية غالبا، لكنها وحدة مُنتِجة ظاهريا، ومُنتِجة حقا في الأعمال الإبداعية الأصيلة، تحاول أن تكون منطقية، أو تصنع منطقها المقبول وتقدمه الى القارئ باعتباره حلا سرديا متعدد الطبقات. وفي هذا الجانب كان أحمد ناجي، الذي خرج توا من تشتت وتبعثر بناء وأفكار قصته (روجرز)، والذي لم يتدرب جيدا على أساليب الروي المختلفة وأنواع الحبكات التقليدية بعد، قد وجد فرصة لاستثمار بعض ايجابيات "ما وراء السرد": كتابة نص داخل نص، والتزود بالهوامش ووجهات النظر المتنوعة، وتدعيم السرد بالأسانيد التاريخية والعلمية المحايدة، الداعمة لمضمون النص الروائي الأساسي. في نهاية المطاف نجح الكاتب في حفر قناتين يسير فيهما الحدث القصصي، بتواز مع الهوامش: فردية يمثلها "بسّام"، وعامة تمثلها المنظمة المعمارية، ثم جرى اتحاد القناتين في مجرى واحد. وهذا نجاح فني ملموس على المستوى الشخصي.
هنا، ليس ضارا، الإشارة الى أن هذا التوجه الفني - الولع المفرط بأسلوب ما وراء السرد - أصبح عبئا على الرواية العربية. حتى بات الروائيون، بمن فيهم كتاب خبروا أساليب السرد التقليدية، يجنحون الى هذا الضرب حينما يفتقدون الفكرة المعمقة، وحينما لا يملكون صبرا كافيا على إنتاج عمل روائي مشبع، ناضج فنيا وعقليا. لقد تحول ما يعرف بـ (الميتا سرد)، ولعبة كشف المخطوطات وفهم ألغازها، وموجة طبقات النصوص، ممسحة سردية مهلهلة وسطحية، مستنسخة استنساخا فجّا من نسخ متواضعة فنيا، قتلت حتى ريادية وأصالة مكتشفيها من الأوروبيين. إن الوقوع في استسهال السرد جزء من ضريبة تعميم أسلوب ما وراء السرد ومجانية استخدامه في الرواية العربية، نجد أعراضها على جسد الرواية صارخا. لقد تعمق هذا الاستسهال كثيرا منذ قيام الربيع الثقافي العربي وانفجار قنبلة الجوائز الروائية الكارثية. لهذا السبب تبدو إفادة أحمد ناجي الشخصية من هذا الضرب من السرد موفقة، ساعدت في إخراجه من ورطة البناء الواهن في (روجرز)، ومن تشتت الأفكار، ثم جعلته أكثر قربا من نزعات "الحداثة والعصرية" والتجريب الفني، التي يميل اليها (مال الكاتب الى خلط النص بالصورة والموسيقى والشعر كملمح للتجريب "الحداثي" من جانب، ولاكتساب المزيد من الثقة بالنفس من جانب آخر). إن بعض النجاحات الفنية المحققة دفعت كثيرين من "مقيّمي" الأدب الى الوقوع في وهم فني والتباس نقدي، جعلتهم يخلطون بين تفكك النصوص وبين الحداثة الروائية، اسماها بعضهم - سهوا أو جهلا- ما بعد الحداثة.
ربما تحت تأثر هذا السبب، وأسباب أخر، لم ينج أحمد ناجي من الوقوع في مصيدة الاستسهال، في مواضع عديدة من روايته. وقد تجلى هذا الاستسهال في فقدان عنصر الرقابة النقدية الذاتية، وإهمال معادلة تقدير وحساب الخسائر. وهي آفة خطيرة، قد تصيب النص والكاتب بمقتل، على الرغم من طبيعتها الايجابية، كمحفز للفورات التجديدية والتجريبية، ومنشّط للميول العفوية. ومن مظاهر الاستسهال الفني الشائعة ضعفُ مراقبة بناء الجملة لغويا وتعبيريا ووظيفيا، ظنا من الكتـّاب أن الانتقال في الأفكار والمواقف والصور مباح بشكل مطلق، بما أن النص يمتلك سحر "الميتا سرد". وهذا وهم فني خطير آخر. إن الاستسهال لا يتوقف عند حدود فقدان السيطرة على اندفاعات اللغة والأفكار وانتقالاتها الحادة، بل قد يسري على سبل توظيف اللغة لمصلحة البناء الفكري والجمالي العام أيضا. في هذا الجزء من جسم قصة (استخدام الحياة) يشعر القارئ بتضخم غدّة الميل الجنسي، وتمرد وخروج التعابير، في مواطن عدّة، من حدود سيطرة الكاتب، واستوائها عبئا فنيا، قبل أن تغدو عبئا أخلاقيا.
الأمثلة على الاستسهال كثيرة جدا، يلمسها القارئ الخبير بيسر تام: " شعرت بحكة خفيفة على طربوش زبي، وبرغم ذلك هرشت في شعر العانة" (ص 15 ) ، بصرف النظر عن دلالة هذه الصورة جنسيا، وبصرف النظر عن وظيفها الخاصة في رسم ملامح الشخصية والحدث، يلاحظ القارئ هشاشة في الربط بين سياق الجملة الأولى والثانية. ما معنى "ورغم ذلك"؟ وما وظيفتها؟ لا يفهم القارئ مغزى الاستدراك ومهمته التعبيرية. حينما تفقد الجملة، أوالسياق، قدرتهما على التعبير على نحو صحيح أو واضح، يتراجع دور السياق في وعي المتلقي، وتأخذ المفردة (الكلمة) المقود، فتغدو في نظر القارئ قائدا وحيدا لعجلة السرد.
وفي فصل "الرقصة الأخيرة لذبابة الإست الزرقاء"، نقرأ هذا النص: " أنا الذبابة الذكية. لدي عقل الكتروني مميز، مهمة دائمة. أنظف مؤخرة صانعي بعد التبول". ما صلة المؤخرة بالتبول تشريحيا وفنيا؟ فساد المعنى في هذا النص يلغي الفكرة، ويعلي من قوة مفردتي "مؤخرة" و"التبول"، ويجعلهما هدفا وغاية في وعي المتلقي والسارد.
لكي تستطيع اللغة نقل دقائق الحالة العميقة وخفاياها، يشترط البعض وجود لغة تعبيرية تناسب الحالة الموصوفة في الوقع والكثافة. بهذه الطريقة يتم تبرير المبالغات الجنسية، من طريق ربطها بطبيعة الحياة نفسها، التي يغرق فيها الناس جنسيا غرقا تاما، تخيلا وممارسة. إنها وجهة نظر قابلة للنقاش في الأدب الطبيعي، حينما يعبر عن بيئة ملغومة بالجنس، وهو عين ما تحدث به كاتب النص: " كل ما كنا نفكر فيه هو الجنس ثم الجنس... ثم المزيد من الجنس. لكن بالنسبة لمجموعة من المراهقين في مدينة كالقاهرة كان المتوافر فقط صورة الجنس لا الجنس نفسه. روائحه، ألوانه، فواتح الشهية، والصابون."(ص 63 )، هكذا يصور الكاتب حياة المراهقين في فصل "هذا عتاب الخول للخولات". هذا المناخ الجنسي، الموضوعي، كان ضاغطا نفسيا وشعوريا، قبل أن يكون ضاغطا تعبيريا.
عند المضي قدما في الاستقصاء نجد أن جمل وعبارات النصوص الأدبية، القصصية تحديدا، ليست مجرد كتل متراكمة على هواها، وإنما هي انعكاس لجوهر الحدث والشخصية القصصية. لهذا السبب يصبح الانفلات اللغوي، الذي يوهن الجملة ويجردها من قوتها التعبيرية لمصلحة المفردة، مؤثرا حاسما يوهن في الوقت عينه الشخصية القصصية والحدث والمحتوى العام للقصة. مرد ذلك يعود الى أن النص يوقع قارئه تحت إغواء المفردة السائبة النشيطة الخدوع، بصرف النظر عن مدلول المفردة، التي تكتسب عادة قوة تأثيرية وانفعالية مضاعفة في سياقات التحريم الأخلاقي والسياسي والديني والعرقي.
هل كانت تلك الألفاط مصدرا لغنى شخصية "بسّام"، الغارقة في الجنس بكل صنوفه، التي تجاوزت بممارساتها الجنسية المتكررة مرحلة الجوع الجنسي، وما عاد التعبير الجنسي عنها في عوز الى هذا الكد والفيض الوصفي؟ ألم تثقل كاهل النص، وتذهب به، أحيانا، خارج حدود بناء الفكرة والشخصية، وتصيّره هدفا قائما بذاته؟
إن تغلغل الزوائد التعبيرية في نسيج شخصية ما يجعلها مختلة السلوك، مضطربة البناء، غامضة الملامح، ومبهمة الحركة والمسار. كيف نضبط إيقاع الشخصية نفسيا وسلوكيا، وتاليا حركة الرواية عقليا، حينما يمارس "بسّام" الجنس مع امرأة "بعنف" لفترة طويلة، وحالما يفرغ منه يشرع في الاستمناء "الهادئ"؟ هل نحن أمام صورة يراد بها بعدا عقليا، أبعد من حدود الجنس كممارسة حسية، عيانية؟ هل مفردتا "مضاجعة" و"استمناء" صيغ جنسية، أم رموز عقلية؟ هل صفتا "عنيف" و"هادئ" حالات جسدية وسلوكية حركية، أم تأويلات فكرية؟ ربما تكون هذا أو ذاك. ولكن، حينما يعجز النص، باعتباره قيمة معيارية، عن منح قارئه فسحة مقبولة للسيطرة على النص وتأويلاته، يصبح التصوير، وليس المفردة وحدها، عبئا وظيفيا، يعيق بناء الحدث ويشوه صورة الشخصية، وفي أحسن الأحوال يربكها.
بعض التفصيلات الوصفية الزائدة تظهر في النص كما لو أنها رغبات قهرية، تلح على وعي المؤلف، فارضة نفسها فرضا قسريا: " مارست الجنس كاملا، من ايلاج وادخال وإخراج، لأول مرة..."،(ص 64 ). هنا لا يكتفي النص بكلمة "كاملا"، التي تؤدي معنى الشمول، بل يستدرك ويندفع نحو التفصيل الحسي والتكرار "الايلاج" و"الادخال". لماذا هذا الاسترسال؟ وأعني لماذا تعبيريا ووظيفيا؟
مثل هذه الزوائد التعبيرية لا توجد في المضامين الجنسية حسب، بل نراها أيضا حتى في مشاهد الوصف البيئية والطبيعية، في هيئة منفـّرات مقحمة، ومهارات نقدية غير ضرورية: "بدا لي ضوء الصباح مثل ريشة ناعمة تداعب مؤخرتي"( ص83 )، " اكتفت وهي تطفئ الجوينت برسم ابتسامة خفيفة على شفتيها كأنها سحابة على وشك التبول فوق مدينة أوربية" (ص 19)
بعد سلسلة من الاستخلاصات النفسية والاجتماعية العميقة يختتم الكاتب نصه بالقول: " الجميع يشعرون بالخوف والانتهاك، الجميع متحفز، الجميع عدائي، الجميع جاهز لبعبصة الجميع". هذا الوصف ينطبق على الجميع، ولا خطأ في تعميمه. لكنه ينطبق على نص الكاتب أيضا، الذي يصل فيه التوتر والغضب حدا يقوم فيه ببعصة فن الأدب، وبعبصة نصه. ربما بدا هذا الاستخدام الجنسي عنصرا زائدا، يقلل من فرص قيام خطة اقتصادية، أو استثمارية، لتوجيه النص و إيصاله الى هدف فني واسع المدى. إن مفردة "البعبصة"، الغنية الدلالة، التي قد تعني الكثير في موضع آخر، تهبط بالاستنتاج الفكري وتحيله تفصيلات جنسية ضيقة مرة ثانية، فتجعله مغلقا. إن موضع وأوان استثمار التعبير، وليس التعبير نفسه، هو الذي يكسب التعبير ثراءً أو فقرا عند الاستخدام الفني. إن التعبير الأدبي التصعيدي الدال، بعكس الهجوم الحسي المباشر، يفتح مساحات أوسع للخيال، حرم المؤلف نفسه منها. ما ضر النص لو كان " الجميع يشعرون بالخوف والإثم، الجميع متحفز، الجميع عدائي، الجميع جاهز لانتهاك الجميع". بكلمة واحدة ينتقل النص من اندفاعه نحو السطح، الى ولوج أعماق الفكرة. من دون شك، لا يحق لأحد التعبير نيابة عن ضمائر الآخرين، لكن حسيّة الأمثلة ربما تتيح لنا إمكانية أكبر لرؤية حدود حرية التفاعل بين دلالات الكلمة الأدبية التعبيرية، وبين الانجرار الى مناطق تعبيرية ضيقة، قد تشكل عبئا جسيما على النص الأدبي.
خلاصة أخرى مفيدة يقدمها نص (استخدام الحياة). بعد شرح التوتر الذي يعانيه الشاب من النظرات والتعليقات القاسية وهو بصحبة فتاة أنيقة، يتوصل الى خلق صورة معبرة تصف التدمير الروحي والأخلاقي العلني والمشاع، الذي هو جزء من تناقضات الوعي الاجتماعي: التزمت الخلقي ينتج نقيضه اللاأخلاقي، ولكن المسكوت عنه جماعيا. بيد أن الفائض التعبيري في النص يفسد قوة الفكرة، ويوهن وتيرة وزخم تصاعد تأثيرها النفسي والعقلي: " تخفف عن روحك. أنت لا تملك نفسك ولا تملك أي شيء في هذه المدينة (قمة الاستلاب والاستعباد الاجتماعي). هي التي تملكك. لست أكثر من خول ضمن بقية الخولات". تأتي الجملة الأخيرة، التي هي تفنن متقن في البذاءة الشعبية، مثل طعنة تعبيرية، فتمزق تماسك الفكرة الأدبية، وتحيل الأدب من فن عقلي الى معركة على ناصية رصيف في حي شعبي، تفتك بالفكرة وإيحائها الواسع، فتقلل من جرعة تذوق الأدب، لصالح تذوق عصائر البذاءة الشعبية الشائعة. هذا مثال ضروري أوردناه لكي نصل الى القول بإن النص الذي يريد الخروج من الانسحاق، سرعان ما يغرق ويغرق شخصيته في الانسحاق، حينما لا يحسن التحكم بمناسيب اللغة إقتصاديا:" في الخولنة بعض الأمان، بعض القوة، والكثير من الخفة". هل أراد الكاتب أن يرسم لنا لحظة الاستسلام المجتمعي والنفسي هذه؟ هل يريد من بطله الوصول الى هذا الحل؟
أمثال هذه اللاضرورات التعبيرية كثيرة، أثقلت كاهل النص، وجعلته يخلق انطباعا لدى القارئ أنه ينزلق نحو الإثارة المتعمدة، أكثر من تصاعده نحو التأثير الشعوري العميق والمفيد. هكذا يصف النص سكان القاهرة: " بشر يبيعون ويشترون ويتبولون وعجلة الانتاج دائما تسير رغم الزحام". ما أهمية مفردة "يتبولون"، رغم طرافتها؟ هنا يبدو تطعيم النص بالتعابير المثيرة، كما لو أنه غاية وهدف قائم بذاته. (ص 141 ). ولكن، لا يستطيع الكاتب، مهما كان بارعا في إخفاء إسقاطاته الذاتية على النص، كممارسة تعبيرية، أن ينجو من الاكتشاف. إن انتقاء الكاتب فنانا باسم "بزّي"، وإرغامه على أن يكون جزءا من الحدث، سرعان ما يُكتشف من قبل القارئ أنه ضيف مقحم، زُجّ به لكي يكون ألهية جنسية لغوية: " بزّي، واللا بزّك؟".
" أخرجت لساني من بين شفتي ( ومن أين يخرج اللسان؟)...ثم مشيت بطرف لساني في نقرات متباعدة على جلد ساقها( لا يمكن ان يكون التقبيل داخل لحم ساقها) أخذت أقبل النتوءات البارزة من صابونة الركبة.. فقبلت ركبتها ( الركبة والصابونة واحد! ما الفرق وصفيا؟ إلا إذا كانت الصابونة خارج موضع الركبة!) ثم أكملت رحلة لساني على فخذها. طبعت قبلة كأثر فراشة على قماش (لا بد من وجود قماش أو مادة؟) كيلوتها ذي الخيوط الرفيعة (؟) ثم سحبته بيدي. غطست بلساني داخل كسها". من المؤكد أن مشاهد تغلغل اللسان أثار البعض أكثر من سواه. لكن نظرة فاحصة، بمعزل عن الأخلاق وحركة اللسان الجنسية، ترينا أن هذا النص القصير حافل بعدد كبير من الزيادات التعبيرية غير الضرورية، ولم تكن الاندفاعات الجنسية للسان، سوى جزء عضوي من ضعف مهارات تهذيب بنية النص فنيا، التي تـُقسر كاتبها على المضي أبعد مما تقتضيه ضرورات التكثيف التعبيري.
ربما أخفق الوسط الثقافي المصري في تعامله مع نص (روجرز) تربويا، بسبب ضعف النص فنيا. وربما كان للاستغراق في رصد الجانب الشكلي أثر في ذلك أيضا. فقد توقف البعض كثيرا عند الجانب المتعلق بحداثة وسائل الاتصال، وعصرية الكتابة الرقمية، التي تسهم في منح القارئ حرية تحوير النص، باعتباره لعبة سردية "تفاعلية". ربما لهذا السبب حُرم الكاتب أحمد ناجي من فرصة الحصول على مناقشة مضمونية جادة وتقويمية، تحمّله مسؤولية العناية بمهارات تهذيب نصوصه، وبقوانين الرقابة الإبداعية الذاتية، التي تغدو معضلة حقيقية في ظل حرية التعبير، وفي ظل فوضاها أيضا. إن مرور بعض صور الكاتب الجنسية في (روجرز) من دون نقد جدي، الصور المتعلقة بمراقبة فتحة الشرج والتبول على سبيل المثال، والإفاضة في ذلك، وعدم تقويمها أدبيا من قبل النقد، ربما مدت الكاتب بشحنة من جرأة تعبيرية بلا حدود. وهي جرأة خادعة، أغوته فجعلته يستسهل استخدام الصور الجنسية بحرية مفرطة وزائدة، وأرغمته على تكرار التعابير والألفاظ الحسية أحيانا من دون ضروارت يقتضيها النص أو التعبير، والأهم من دون أن تقتضيها وحدة العمل، الذي يشترطه قانون التوازن بين الأحاسيس والصور الفردية وبين المغزى العام.
وبما أننا نتحدث عن الزوائد الفنية الضارة، لا بد لنا أن نختتم بالقول، إن هذه الجرأة ظهرت أيضا لدى بعض الكاتبات العربيات، في هيئة "هبّة" ولع انثوية للتباري في ذكر أسماء الأعضاء التناسلية وتفاصيلها. كما لو أن نساءنا اكتشفن فجأة أن أمتنا العربية تملك أعضاء تناسلية، حالها كحال غيرها من الأمم. ومن الكاتبات من اكتشفن أن شعر عانة المرأة الشقراء قد يكون أسود! وأودعن اكتشافهن في مطلع نصهن، تأكيدا على حق الريادة. شيخة الرواية العربية (حنان الشيخ) تسجل باسمها، بعد عامها السبعين، طائفة من الاكتشافات الجنسية الذكورية القومية العجيبة: اختلاف الرجل العربي عن الغربي في أساليب وغايات القذف الجنسي، وتمايزات اللذة الجنسية الاسلامية مقارنة بأختها المسيحية، وأسرار الجماع التكفيري والجماع المضاد! أودعت حنان الشيخ كشوفاتها الجنسية في روايتها "عذارى لندنستان". وهي رواية ناقدة لبعض مظاهر السقوط الأخلاقي والثقافي والديني، من زاوية جنسية. وإذا اعتبرنا أن رواية ناقدة، مثل "عذارى لندنستان"، هي رواية "موقف" في مواجهة التطرف الديني والاضطهاد الجنسي، فإنها من زاوية أخرى، تعتبر موقفا عقليا قوميا أيضا، يحدد درجة جديتنا أو استسهالنا الخوض في المواجهات المصيرية الكبرى، وما ينجم عنها من عواقب ثقافية وأخلاقية. هذا المناخ الروحي والعقلي، المصاب بالاضطراب والعجز، بانشغالته غير الضرورية، ربما كان عاملا إضافيا، أغرى كاتبا شابا، وسيغري غيره، على المضي أبعد مما تتيحه توازنات السرد الدقيقة، التي تصنع الأدب في هيئته الأجمل والأبقى.