|
عُطارد وحكاية الخلود في الجحيم الأبدي
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5112 - 2016 / 3 / 24 - 16:48
المحور:
الادب والفن
مرشحة للقائمة القصيرة لجائزة البوكَر العربية
لا يمكن أن تُصنَّف رواية "عُطارد" للكاتب المصري محمد ربيع إلاّ في إطار الرواية الدايستوبية التي تحفل بالكوابيس المروّعة، والأحداث الفظيعة، والوقائع البشعة التي تُهيمن على المسار السردي منذ مُستهَل النص حتى نهايته. والدايستوبيا، كما هو معروف، مكان فاسد وخبيث يلتهم أبناءه بشكل لا هوادة فيه لكن الكاتب محمد ربيع زاده تهويلاً حينما أطلق على روايته اسم "عُطارد" ليوحي لقرّائه بالجحيم الأبدي الذي يعيشون فيه، فهم يدورون في منتصف الجحيم ويتلاطمون فيه تمامًا كما يدور "عُطارد" حول الشمس التي تُشبه فرنًا نوويًا مُعلقًا في كبد السماء ويُلهِب هذا الكوكب بمن فيه بألسنة نيرانه التي لا تُبقي ولا تذر. ولو تركنا هذه الصورة المجازية جانبًا فإن "عُطارد" هو اسم لنقيب الشرطة أحمد عُطارد الذي يصل إلى مكان الجريمة ويدوّن تفاصيلها الدقيقة ويرويها لنا بوصفه ساردًا للنص ومشاركًا فيه. تتلخص الجريمة بأن أبًا قتل بالساطور زوجته وأولاده الثلاثة وقطعّهم إلى قطع صغيرة طبخها في عدة قدور وأجبر والده على تناول لحم أحفاده فمات مسمومًا. وقد اعترف الأب بأنه قَتَلهم لأنه خسر أموالاً كثيرة في البورصة. إن ما يثير الاستغراب أن القاتل ميسور الحال، وينتمي إلى الطبقة المتوسطة، ولا يتعاطى المخدرات فلماذا أقدم على ارتكاب هذه الجريمة المروِّعة التي فشل علماء النفس في تفسيرها ذلك لأن حُجة خسارته في البورصة واهية جدًا ولا تبرّر ارتكابه هذا الجُرم الفظيع؟ غير أن الجملة الأخيرة من هذا الفصل تضعنا في بداية المدخل الدايستوبي الذي يفيد بأن القاتل "كان يمشي فاقدًا كل أمل"(ص14). لا تسير الرواية على وفق خطٍ زمني مستقيم فالأحداث تنتقل إلى المستقبل في عام 2025م وتعود القهقرى إلى عام 455ه. ففي الزمن المستقبلي تُحتَل جمهورية مصر العربية من قِبل الجيشَين الرابع والخامس التابعَين لفرسان مالطا وتتولى الشرطة المصرية فقط مهمة الدفاع عن الوطن ومقاومة المُحتلّ. يقوم الحاكم العسكري الفيلدمارشال بول-بيير جينفيف بحلّ المجالس المصرية وتعيّين الدكتور خليفة صدقي رئيسًا للوزراء، وأحمد عبدالله وزيرًا للداخلية. وقد رفض عُطارد العمل مع المحتل مع قلّة من ضباط الشرطة الذين لا يتجاوز عددهم الألف ضابط. وقد قَتل خلال أسبوع أكثر من مئة ضابط وجندي مالطي، فطلبوا منه الانضمام للمقاومة ووافق مُرحّبًا بالفكرة شرط أن يكون ضبّاط الشرطة هم الأساس في المقاومة وضباط الجيش والمواطنون العاديون على الهامش وبلا أية صلاحيات. وبما أن عُطارد لا يخطئ في إصابة هدفه فقد أرادوه أن يكون قنّاصًا. وقد تسلّح ببندقية دراجونوف قبل أن يصعد إلى البرج ويقتل وزيري الثقافة والبيئة ورئيس الأركان المصري السابق. انقسمت القاهرة إلى قسمين: الشرقي المحتل والغربي المُحرَّر أما القنّاص عُطارد فيتنقل بين شطري القاهرة بواسطة الأنفاق التي حفرها الناس بينما استحالت الصروح وأبنية الوزارات والدوائر الرسمية إلى خرائب وأنقاض كما تحوّل شارع شريف إلى مبغى بعد أن قننت السلطة المحتلة البغاء. كان عُطارد يُرجِع سرّ دقته في الإصابة إلى قناع بوذا الذي يرتديه، بل امتدت هذه الدقة لتشمل جماعة البرج برمتها. وقد اتسعت دائرة القتل لتصل إلى ثلاثة ملايين مواطن خلال ثلاث سنوات ونصف السنة إما لأنهم كانوا متعاونين مع المحتل أو لأنهم كانوا ضحايا بالمصادفة، بينما قُتل على يد المحتل نحو 300.000 مواطن. يقترن الجو الدايستوبي بالكوارث وقد نجح الروائي في تحويل العديد من أبراج القاهرة وصروحها العمرانية الضخمة إلى خرائب تكدّست فيها القمامة حتى صارت تعيق المارة فانبثق منها "رجل الكلاب" الذي تدّله هذه الحيوانات بحاسة شمّها القوية إلى الجثث المدفونة تحت الأنقاض حيث يجمعها في عربته ويدفنها في حفر عميقة تحفرها الكلاب بمخالبها القوية التي تدربت على هذه المهمة العسيرة. كما يحضر بقوة رجل القُمامة الذين يغتصب فتاتين مشردتين ثم يتعرض هو الآخر إلى ضرب مبرح من قبل ثلة من الشباب الذين يتناوبون على اغتصاب الفتاتين ويتركوا الثلاثة يتخبطون في دمائهم قبل أن يتواروا عن الأنظار. تختلط الكوابيس بالفظائع والبشاعات حيث "يتكربن" الناس، أي يشمّون حشيشًا مُكربنا مصنوعاً من مسحوق الصراصير والجعران فيتخدروا، وينخذلوا، ويفقدوا القدرة على التفاعل مع الآخرين. وفي خضم هذه الفضاء الدايستوبي الخبيث يظهر المدرس إنسال ليجلب زهرة ذات الأعوام الأربعة، الطفلة الوحيدة التي بقيت في المدرسىة لوحدها دون أن يُرجعها أحد إلى البيت ثم نفهم أن أمها ماتت وأن أباها توارى عن الأنظار في ظروف غامضة. كان إنسال في الوقت ذاته ينتظر ولادة ابنه من زوجته الحامل ليلى لكنها أنجبته ميْتًا في غيابه المؤقت وحينما يعود يحاول دفنه في الحدائق المجاورة لكنه كان خائفًا من الكلاب أن تنبش قبره وتأكل لحمه الطري. لابد من العودة إلى حكاية "الشدَّة المستنصرية" أو السنوات السبع العجاف التي هلك فيها الحِرث والنسل بعد أن غابت مياه النيل. أما قصة صخر الخزرجي الذي قيل إنه مات فاختلف الأخوال والأعمام على غسله ثم اتفقوا على أن يغسل الأخوال نصفه الأيمن والأعمام نصفه الأيسر. وبينما كان الناس مذهولين سمع الراوي بأنّ صخرًا قد بُعث بعد موته. تُرى، هل هناك حياة بعد الموت؟ وهل أتت الساعة بلا علامات؟ ثم قال صخر: "لا مُخلِّص اليوم . . . نحن في الجحيم" (ص193). يعود الروائي إلى البذرة التي بذرها سابقًا ويخبرنا بأن إنسال قد تبنّى زهرة ومع ذلك فإنه سيظل يبحث عن والدها المفقود في المشارح الطبية وثلاجات الموتى وبما أنه لم يعرفه من قبل فلابد من الاستعانة بزهرة علّها تعرف ملامح والدها أو تشمّ رائحته وبالفعل تنجح في التعرف عليه لكنها تصاب لاحقًا بمرض خطير حيث يتمدد جلدها ليغطي فمها وأذنيها ثم تُصاب بالعمى وترتخي الأجفان لتلتحم ببطء! هذا ليس مرضًا من وجهة نظر إنسال ولابد أنّ هناك حكمة فيما يحدث لزهرة. ربما يكون مشهد إعدام فريدة بعد أن أطلقت النار على ضابط وأردته قتيلاً في الحال كما قتلت أناسًا آخرين، ربما يكون هذا المشهد تحديدًا هو الذروة الدايستوبية والاستخفاف المطلق بحُرمة الجسد البشري الذي يُقطّع أمام الملأ ويُرمى إليهم من فوق منصة في ميدان عام. ما يريد الراوي قوله بأنه كان يرى نفسه شرطيًا يُعذِّب الناس ويتعذب معهم. وأنّ الجحيم أزلي لا ينقطع، وأن كل شيء سيفنى في خاتمة المطاف. أما خلاصة الثيمة فتتلخص بجملته الأخيرة التي يقول فيها: "إني خالد في الجحيم، وأنني ابن الجحيم"(ص303). حينما يطوي القارئ الصفحة الأخيرة من هذه الرواية يحق له أن يتساءل عن إمكانية وقوع مثل هذه الأحداث على أرض الواقع أم أنها مجرد أضغاث أحلام ناجمة عن مخيّلة مشوّشة لا تنتعش إلاّ في فضاء عبثي، دايستوبي، غريب؟ بقي أن نقول بأن محمد ربيع هو روائي مصري من مواليد 1978. درس الهندسة، ثم عمل مُحررًا في دار التنوير. وقد أصدر حتى الآن ثلاث روايات هي "كوكب عنبر"، و "عام التنّين" و "عُطارد" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقنية الشخصية المُنشطرة في رواية -عِشق- لمريم مشتاوي
-
البطولة المضادة والأداء التعبيري في فيلم سافروجيت
-
ستيف جوبز. . صانع الأجهزة الحميمة والباحث عن الاستنارة الروح
...
-
الشاعر صقر بن سلطان القاسمي . . . ربّان الموجة المتمردة
-
جولة في الأعمال الشعرية الكاملة لأديب كمال الدين
-
سندريلا . . . الأميرة الغامضة
-
حارس الموتى. . رواية تختبر حدْس القرّاء (القائمة القصيرة لبو
...
-
لماذا سقطت أقنعة التنكّر والتمويه في فيلم -تاكسي طهران-؟
-
تجليات كردية في فيلم -رسالة إلى الملك- لهشام زمان
-
تعدد الأصوات السردية في -نوميديا- طارق بكاري
-
الفتى الذي أبصر لون الهواء. . أنموذج ناجح لأدب الناشئة
-
تجاور الأديان وهيمنة الحُب الروحي في ما وراء الفردوس
-
قراءة نقدية في العقليتين الشفاهية والتدوينية
-
مريم مشتاوي ومتلازمة القلب المنكسر
-
عالم داعش . . من النشأة إلى إعلان الخلافة
-
مراعي الصّبَّار. . . يوميات ليست بريئة من الخيال
-
سافروجيت. . بطلة شعبية تغيّر وجه العالم
-
خِصال دستويفسكي في قالب روائي هندي
-
(حديث في الممكن) ولعبة الاشتغال في ما وراء الفضاء التراجيدي
-
سمبين . . رائد السينما الأفريقية وأعظم الكُتاب الأفارقة
المزيد.....
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|