الخطة الجديدة: سرقة ما لم يُسرق بعد


سلام عبود
2016 / 3 / 12 - 22:27     


كثيرون أصيبوا بالدهشة وهم يرون الكتل الفاسدة تتسابق الى إعلان تأييدها للإصلاح والتغيير. كثيرون راحوا يتساءلون: هل يُعقل أن يدعو فاسد، وفاشل، وجائر، الى الإصلاح والتغيير؟
وأنا أقول بكل ثقة: نعم، إنهم يفعلون ذلك بإخلاص وشرف، ودعوتهم صادقة صدق القول بكرويّة الأرض.
كيف نثبت صدقهم؟ ما الدليل على ذلك؟
الدليل الأوّل نجده في حدث مهمل لدى المواطن، لكنه عظيم الشأن لدى أصحابه. إنه مؤتمر المصالحة الشعبية، الذي عقده حيدر العبادي في الأسبوع الماضي. لقد حشد له مئات المناصرين، حتى وصلت فيه مناسيب التسامح والمصالحة حدا عجيبا، جعلت بعض شيوخ "داعش" المعروفين بالاسم، يحلـّون على المؤتمر معززين مكرمين، بإباء وشمم. قامت فكرة المؤتمر على قناعة راسخة، تكنوقراطية طبعا، مفادها أن الخلل القاتل يكمن في الشعب، غير المؤدّب، الذي يتعارك مع ذبّان وجهه لأدنى سبب، والذي يحتاج الى علاج وتقويم ومصالحة فورية. فإذا تصالح أبناء الشعب الفاسد مع أنفسهم صلح حال الدولة والحكم وانتهى الفساد الحكومي والسياسي والارهاب وعاش العراق في رغد، "حرا سعيدا.
في المؤتمر أثبت العبادي للمجتمعين – شاركه الجبوري في الرأي للمرة الأولى والأخيرة- أن المواطن العراقي الشرير سبب البلوى، وسبب الفساد، وسبب الكارثة كلها، لأنه غير متصالح مع نفسه. هذه هي خلاصة نظرية العبادي في الحكم.
ولكن العبادي يعرف أن المصالحة ليست هنا، وليس الآن، وليست بين افراد الشعب. حلقة المصالحة الأولى تبدأ من الرأس. تصالحه هو مع نفسه! تصالحوا أنتم أولا! واذهبوا الى الشعب متصالحين، ولو نفاقا ومصانعة، ربما يصلح بعض حال الرعية. ما نفع مؤتمر في قاعة مغلقة والشعب مبعثر في المنافي والمهاجر والشتات، وتحت احتلال داعش وغير داعش، ومن تبقى منه محكوم بزمر متصارعة، معدومة الضمير!
الجميع يعرف ان المشكلة ليست هنا. الجميع: اللصوص وغير اللصوص، التكنوقراط وغير التكنوقراط، الشعب والحكومة، الغبي والذكي، المدني والديني، الداعشي السني والداعشي الشيعي، الداعشي العربي والداعشي الكردي أو التركماني أو الأيزيدي، جميعهم يعرفون ذلك. الجميع يعرف ذلك، إذن، قولوا لنا: على من تضحكون، بما أننا جميعا حاكما ومحوما، لصا وشريفا، صغيرا وكبيرا، جاهلا وعالما، نعرف أن المسألة ليست هنا. للمرة الأولى في التاريخ أرى شخصا يضحك على لا أحد.
سيقول قائل: هل هذا تساؤل تهكمي أم وجودي؟ إنه سؤال مزدوج، تهكمي من وجهة نظر العبادي والزمر الحاكمة، لكنه سؤال وجودي في منحاه التطبيقي والعملي. لأن هذا "اللأحد" هو أنا، هو أنت ، هو نحن، وبدقة بالغة هو الشعب. نحن لا أحد. لماذا؟ لأننا لم نزل نلبس طاقة الإخفاء الوجودية، لأننا لم نزل نعتبر أنفسنا في عداد اللاموجودين. نحن ندافع عن الموصل في غرف نومنا وفي أحلامنا، وغيرنا يدافع عنها- أو ضدها، لا يهم، لا فرق من أين يطلق الرصاص!- بالسلاح، بالقوة، بالوسيلة الوحيدة المعترف بها وجوديا منذ كان الديكتاتور وما قبله وما بعده. إذن، لماذا نتهم المالكي والعبادي وعلاوي والنجيفي وغيرهم من زمر الفساد؟ إنهم على حق في ضحكهم على نكرة اسمه "لا أحد".
الدليل الثاني: لماذا أعربت الكتلة الكردستانية عن رفض التخلي عن وزرائها؟ اليكم نص الخبر :
" تؤكد مصادر مطلعة على اجتماع رئيس الحكومة مع الكتل «الكردستانية» أن «الأخيرة أكدت تمسكها بحصتها من الوزارات»، وهو ما عبرت عنه صراحة القيادية في «التحالف الكردستاني» الا الطالباني، التي قالت في تصريح صحافي إن «تحالفها غير مستعد لتقديم وزراء مستقلين لرئيس وزراء حزبي"
ببساطة شديدة، هنا، في بيان الكتلة الكردستانية، نجد إجابة شافية ووافية عن التساؤلات السابقة كلها، الوجودية وغير الوجودية. التحالف الكردستاني لا يستفيد كثيرا من خطة التغيير الجديدة، خطة التكنوقراط. لماذا؟ لأن خطة التكنوقراط (!) تعني وبالأرقام التخلي عن "فرض" بعض الوزراء، مقابل الاستيلاء على ما يقرب من خمسة آلاف درجة وظيفية بدرجة مدير عام ومدير بالوكالة ونائب مدير ومسؤول كبير، لم تزل شاغرة. وبما أن القادة الكرد بلعوا حصتهم في كردستان كاملة، وبما أنهم لا يؤمنون بديمقراطية نيابية اتحادية، قائمة على أغلبية حاكمة وأقلية معارضة، بل يريدون سلطة اتحادية أبدية، فلم يعد التخلي عن الوزراء نافعا ومفيدا تحاصصيا. لم يعد للكرد نصيب كبير في كعكة التغيير، الذي يعني سرقة ما تبقى من جسم الدولة العراقية، بعد أن تمت سرقة العراق رأسيا وعموديا.
هذا هو جوهر الصراع، وهذا هو التغيير المطلوب، والمتنازع عليه الآن: سرقة ما لم يُسرق بعد.
التظاهر ضد الفساد من قبل فاسد أو ملوّث، الإسراع في بيع العقارات والقصور في أضخم عملية غسيل وتبييض للأموال السوداء في التاريخ تقوم بها حكومة لصالح لصوص علنيين باسم الحرب على عجز الميزانية، ثم باسم حماية البلاد تتم عمليات كبرى لغسيل الضمائر البعثية في الأجهزة الأمنية، وتحت شعار تسامح بلا حدود، أو بلا مراجعة ونقد ذاتي، يتم الأمر عينه في قطاع الثقافة، حيث يتقاسمهم العلمانيون والطائفيون والعرقيون قسمة شريفة ولطيفة. بناء أسوار حول المدن تكلف الملايين باسم أمن المواطن، تدويل ملاحقة سارقي المال العام تكلف الملايين، وبخلاف ذلك يتوجب السكوت والقبول بالأمر الواقع، الذي يكلف المليارات، تنويع أشكال القوى العسكرية، بدلا من توحيدها مركزيا، تحت ذريعة مواجهة الإرهاب، والتي تقود تاليا الى فتح عدد كبير من الجبهات الحربية الحزبية، وانفاق مليارات الدولارات على تعدد الجبهات. كل ذلك مجرد أشكال متنوعة لأمر واحد:
إيجاد قنوات جديدة للسرقة، منها بدعة التكنوقراط، باعتبارها غطاء جديدا لسرقة ما لم يسرق بعد.
السرقة باسم الأمن، باسم المصالحة، باسم التقشف، باسم الإصلاح والتغيير أيضا، وباسم الديمقراطية، وأخيرا السرقة التكنوقراطية باسم الشعب اللاموجود في الخطط السياسية. إنها سرقات الحقبة التقشفيّة.
إذن، الخطة الجديد كلها، لا تخرج عن نطاق تفكير النواب والسياسيين المتحاصصين بسرقة الأجزاء المتبقية، غير المسروقة بعد، وتقاسمها بعدالة تامة وشرف ونزاهة.
أما الصراع بأكمله فيتركز في نقطة واحدة حسب: القبول بقسمة عادلة بين الكتل، حتى لو تمت بقوة السلاح. لأن بعض الكتل يشعر أن تغيير موازين القوى على الأرض يمنحها الحق في تعديل نسب القسمة السابقة.
حينما يضحك علينا أتفه، وأحقر، وأغبى البشر، فنحن شعب مضحَكة، مضحَكة بامتياز.
الخطة الجديدة، التكنوقراطية، تهدف الى حفر جوف الدولة من الداخل، كما تحفر ديدان القبور جثة متعفنة.