|
سيرَة أُخرى 19
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5089 - 2016 / 2 / 29 - 07:47
المحور:
الادب والفن
1 ذاكرة المرحوم والدي، بدأت مع دخوله في الثمانين بالتغرّب عن الواقع. في المقابل، كانت ذاكرته تتوغل أكثر فأكثر في الماضي. الحكاية نفسها، كان يُعيدها عدة مرات في اليوم دونما أن ينتبه. إلا أنّ غربته، من ناحية أخرى، كانت واقعية؛ هوَ من وجدَ نفسه في السويد في ذلك العُمر المتأخر. ذات يوم، حدّق في دهشة بجهاز التلفزيون حينما كانت إحدى فضائيات إقليم كردستان تبث أغنية: " وَلْ..! أهذه ليست أغنية كردية؟ "، سألَ والدتي. فأجابته مومئة برأسها. حينما رأيتُ أنه ينظر إليها بشكّ، فإنني أوضحتُ قائلاً بالعربية: " توجد عدة فضائيات في كردستان العراق، خصوصاً بعدما صارَ دولة شبه مستقلة ". إلا أنه بقيَ يبحلقُ فيّ، وكأنما قد عاد إلى ماضي زمانه، عندما كان يضع جهاز المذياع على أذنه كي يتمكن من سماع بث راديو " يريفان " الكرديّ. في يوم آخر، ظهرت كوكب الشرق بإحدى حفلاتها على فضائية خليجية، مخصصة للكلاسيك. هنا، التفتَ أبي إلى الأم وقال لها: " أهذه ليست أم كلثوم؟ " " نعم، هيَ أم كلثوم " " على علمي، أنها ماتت..؟ " " نعم، ماتت ثم عادت مرة ثانية للحياة..!! "، أجابته أمي وهي تضحك.
2 العملُ في مكتبٍ هندسيّ، جَعَلَني على صِلة ببيئةٍ كانت حتّئذٍ شبهَ مجهولةٍ لي. كنتُ بعد على عتبة أعوام المراهقة، حينما بدأ دوامي بذلك المكتب، المُنزوي في عمارةٍ مُلاصقة لسينما " الأهرام " بقلب دمشق. عملي، كان من المفترض أن يكونَ مدخلاً لتعلّم مهنة الرسم الهندسيّ. على ذلك، لم يكن بالغريب أن أشعر بالضيق حينما كان يُطلب مني القيامَ بمهمّة المستخدم. مُعَلّمي، المهندسُ المعماريّ، كان من حارتنا؛ شابّ مهذّب من عائلة شيوعية معروفة، علاوة على أنّ والده الراحل كان صديقاً لأبي. شريكُهُ المهندسُ المدنيّ، وهوَ من أصلٍ ألبانيّ، كان آنذاك يعمل في السعودية. غيرَ أنّ شقيقَ هذا الأخير، الأكبر منه سنّاً، حلّ في مكانه بصفة محاسب. الرجل، كان موظفاً فوق ذلك. كان يُشرّفنا في المكتب عصراً، وعلى سحنته الناصعة وَشْمٌ من الكآبة لا يُمحى بحال: " أحضرْ لي فنجانَ قهوة..! "، يُخاطبني المحاسب إذاك من فمٍ مُتبرّم. من ناحيتي، كنتُ أتعمّد مُناكدَتَهُ من خلال إعداد قهوة خفيفة. وكان يردّ لي ذلك، بأن يَدّعي أحياناً أنه دقّقَ في حساباته ووجد زيادة بمبلغ إحدى المشتريات من قهوة أو حلوى أو ما أشبه: " أنا لا أتهمك طبعاً، ولكن عليك أن تُعِدَّ النقودَ عندما يُعيدها إليك البائع! "، كان يقولها بلؤم. الأخُ المحاسب، كان كذلك بَطِناً. في كلّ مرة، كان يقترحُ على الحاضرين شربَ القهوة مع الحلويات؛ الكنافة أو النابلسية. أحدُ الحضور الدائمين، كان مُتعهّد أبنية في حدود الكهولة، مُعَرّفاً بطرافته وظرافته. هذا الرجل، المُكتسي باستمرار بالزيّ الشاميّ التقليديّ مع الطربوش الأحمر، كان يُدير محلاً كبيراً في سوق " البزورية " يحتوي بشكل خاص على مختلف أنواع السكاكر والموالح. عندما كنتُ أمرّ عليه في المحل، لشأنٍ يتعلّق بمعاملات المكتب، فإنه كان معتاداً على حشي جيوبي بتلك الأطايب. كان يفعلُ ذلك مُتضاحكاً غالباً، بالنظر لمعرفته بطبعي الحيي والمتحفّظ. ذاتَ ظهيرة، كنتُ عائداً إلى المكتب وفي جيبي مبلغ مائة ليرة. إذ عليّ كان أن أدفع فاتورة ما، ولكنني لم أتمكن من ذلك بسبب وصولي متأخراً. المهندس، دأبَ على العودة إلى المكتب في ذلك التوقيت قبيل مغادرته إلى المنزل. سذاجتي، أوحتْ لي عندئذٍ أن أضع المبلغَ على طاولته، مُرفقاً بقُصاصةٍ أبيّن فيها ما كان قد جدَّ معي بشأن الفاتورة. مساءً، لما عدّت إلى المكتب فوجئتُ بأنّ معلّمي لم يكن قد مرّ على المكتب ظهراً، وفي التالي، ما كان ثمة أثر للمبلغ والقصاصة: " سأخصمُ المائة ليرة من راتبك! "، قال لي على الأثر بنبرة مؤنّبة. صاحبنا المتعهّد، وكان حاضراً، لاحظ على ما يبدو مسحةَ الحزن على سحنتي؛ أنا من كان راتبه لا يتعدى ذات المبلغ. فأبدى عند ذلك بملاحظةٍ، عَمّن يملكُ مفتاحاً للمكتب غيري. وإذا بالمحاسب يقفز كالملسوع، ليومئ نحوي قائلاً بانزعاجٍ ممزوج بالصلافة: " هذه ليست المرة الأولى، التي يقع فيها بورطة تخصّ ماليّة المكتب..! ". هنا، تدخّل المهندسُ لما رآني أهمّ بالردّ. قال لي مُهوّناً: " إنك فتىً مؤدّبٌ وأمين، لا شكّ في ذلك. ولكنك تستقبلُ أحياناً أصدقاءك في المكتب، وربما كان أحدهم قد شاهدك وأنت تضعُ المبلغَ على الطاولة!؟ ".
3 كان يُدعى " فيصل "؛ وهوَ بالأصل من إحدى بلدات الجنوب السوري. ذلك كان في مستهلّ الثمانينات، حينما عملنا سويةً في مكتبٍ ماليّ بمؤسسة الإسكان العسكرية. هذا الزميل، المماثل لي في العُمر، بدا لي إشكالياً منذ البداية. مع لطفه وميله للمرح، كانت تنتابه أحياناً حالاتٌ عصبية مُباغتة وغير مفهومة. كان مسؤولاً عن الصندوق الماليّ، ويحتفظ بمفتاح القاصّة الحديدية. عَمُلنا، كان محصوراً بتنظيم ايصالات شحنات البلوك وغيرها من مواد البناء، التي كانت تُنقل من الكسّارة بسيارات المؤسسة والقطاع الخاص على السواء. من جهتي، كنتُ ألاحظ أن معاملة زميلي لمندوبي شركات القطاع الخاص وديّة، وفي المقابل، سيئة مع السائقين العاملين لصالح المؤسسة. علاقة العمل مع ذلك الزميل، ما جازَ لها أن تتقدّمَ إلى موقع الصداقة. هذا مع العلم، بأنني لبيتُ ذاتَ مرة دعوته للمشاركة في إحياء ليلة عيد الصليب ببلدة " معلولا ". إلا أنني، من ناحية أخرى، بقيتُ أعتذر عن زيارته في منزله، الكائن بإحدى الضواحي الدمشقية الفقيرة. إذ كان يُشاع بين الآخرين في الكسّارة، موظفين وعُمالاً، أن ذلك المنزل قد تحوّل إلى مقمرة. وكان يُشار إلى أحدهم، وهوَ سائق تركس، كعضو في العُصبة المُقامرة. هذا السائق الخمسينيّ الظريف، كان اسمه " كربيس "، وقد دأبَ الآخرون على مناداته بلقب " ابليس ". على ذلك، طفقتُ أراقبُ بانتباه مُتزايد مسلكَ زميل المكتب: كان يُخالف تعليمات المؤسسة، المتعلقة بالقطاع الخاص، والقاضية ببيع كميات محدودة من مواد البناء. مندوبو شركات ذلك القطاع، كانوا يتعمّدون تركَ الفُراطة لصاحبنا المحاسب كمكافأة له. أما إذا كانت شحناتُ موادِ البناء لأشخاص، فإنّ صاحبنا كان يحاطبُ كلاً منهم بنبرة صارمة مُتماهية بالدعابة: " أنت من عفرين؟ لي عندك تنكة زيت زيتون!.. أنت من السويداء؟ سمعتُ أنكم تُخمّرون ألذ نبيذ في البلد! ". الأدهى، أنه كان لا يتورّع عن إقراض بعض الموظفين من صندوق مكتبنا الماليّ بمقابل نسبة فائدة. إلى أن حلّ ذلك اليوم، وكان الأخير لزميلنا في المكتب. في اليوم السابق، كان قد ركبَ مع أحد السائقين قبل انتهاء الدوام بنحو ساعتين قائلاً أن لديه موعداً ما. صباحاً، استقبلني بوجهٍ كالح فيه ما فيه من شؤم: " مبلغ خمسمائة ليرة، تركته هنا أمس..! "، بدأ يصرخُ بتشنّج وهوَ يُشير إلى درج طاولته المخلوع. تساءلتُ عندئذٍ بانفعال: " المال، مكانه في القاصّة أم الدرج؟ ". بقيَ يُبحلِقُ فيّ وكأنه لم يتوقّع سؤالي. عند ذلك توجّهتُ من فوري إلى مدير الكسارة، كي أخبره بالأمر. المدير، كان انساناً مثقفاً ومحترماً ( الشقيق الأصغر لرياض نعسان آغا ). استمع الرجلُ إليّ باهتمام. ولكن، قبل أن يفتح فاه، إذا بالمدعو " فيصل " يقتحمُ حجرة المكتب بأسلوبه العصابيّ. بعد أن انصتَ إليه المدير، قال له: " أنت واحد مقامر.. سرسري! ". ثمّ رفَعَ سماعة الهاتف، طالباً ايصاله بضابط أمن المؤسسة. هذا الأخير، كان معروفاً بالشدّة حدّ أنّ قبضته لا توفّر المهندسين أنفسهم. فجأة، ارتمى " فيصل " على مديرنا طالباً منه لفلفة القضية بمقابل أن يسدد ذلك المبلغ المفقود. أمام إصرار المدير، استنجدَ الزميل بخاله وكان موظفاً في مقرّ المؤسسة الرئيس. بعدئذٍ، تمّت تسوية الموضوع بنقل الزميل المقامر إلى مكان آخر لا يضمّ قاصّةً مُتخمة بالمال.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإنسجامُ المعدوم
-
سيرَة أُخرى 18
-
( اسمُ الوردة )؛ الرواية كفيلمٍ فذ
-
لقطة قديمة
-
سيرَة أُخرى 17
-
امرأة سمراء
-
سيرَة أُخرى 16
-
المتسوّلة
-
سيرَة أُخرى 15
-
درهم
-
سيرَة أُخرى 14
-
خفيفاً كعصفور
-
سيرَة أُخرى 13
-
أقوال غير مأثورة 2
-
شريحة لحم
-
إغراءُ أغادير 5
-
إغراءُ أغادير 4
-
إغراءُ أغادير 3
-
إغراءُ أغادير 2
-
إغراءُ أغادير
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|