|
حدث في قطار آخن -40-
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 5086 - 2016 / 2 / 26 - 21:36
المحور:
الادب والفن
أنا في وضعٍ لا أُحْسد عليه وكأنّ بائع الخبز ودون أن يراني، يغلق فجأةً باب مخبزه بوحشيةٍ، لأسقط مغمياً عليّ! السَّبَّابَة والوُسطَى عالقتان في الشق الذي غاب، توقف مرور الضوء منه بفعل الغلق... أقع أرضاً والدم ينزف من أصابعي، لا أحد يراني، لا أحد يصرخ لنجدتي... سأتغلب على عظمة الله لو أن ذاكرتي تسمح لي فقط بوصف ذلك المشهد، لكنها في هذه اللحظة عاجزة بالتأكيد عن إعادة خلق التفاصيل القديمة، ليبقى الله عظيماً!
ما السر الكامن في تَسَطُّح هذه المدينة الصغيرة!؟ الاسْتِواء لا يحفِّزك على الخلق والإبداع، السطوح لا تساعدك على الاختفاء والهرب... ولأنّ الطبيعة الجغرافية لقريتي البعيدة غير مُسَطَّحة وطرقاتها مُتَعَرِّجة، هُنَالِكَ تنوع حضاري وغِنَى ثقافي، هُنَالِكَ إمكانية للتَّوَارِي عَن الأَنْظَارِ... هُنَالِكَ بَذَرَ الإنسان الحَبَّ لولادةِ وطن حُرّ... هُنَالِكَ كُنَّا نَلْتَقِي أَيَّامَ الشِّتَاء... هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ!
اِنهضْ من نومك! في مثل هذا الوقت الباكر يأتيه صوت ضبابيّ: اِنهضْ، اليوم دورك لتشتري الخبز. أنهضُ من نومي والبرد ينهش عظامي الطرية، أضعُ نظارتي على عيوني وأمشي خطوات إلى طاولة الفورميكا، أُكور كفي الصغير على هيئة مكنسة، أسحب النقود الحجرية عن سطح الطاولة لتتساقط في كفي الثاني الذي أُكوره على هيئة طنجرة، حسناً سأذهب إلى الفرن لكن عظامي باردة، لو فقط كان لديّ حذاء دافئ وسُتْرَة حتى من دون قبعة! ليس لديّ ما أشتهي. سأذهب، سأنتظر دوري، سأكون الطفل الوحيد بين جوقة النساء المنتظرات أدوارهن، سأختبئ بين أفخاذهن، سيدفأ رأسي حين تلامسه بطونهن الحبلى، سأشم رائحة أجسادهن الممزوجة برائحة البرد والخبز الساخن، سأذهب لأبرد، سأذهب لأعود متدفئاً بأرغفة الخبز المرقد، سأضع حزمة الأرغفة على رأسي وأمشي أو أضمها إلى صدري النحيل وأمشي، سأقتطع بعض الخبز وأتسلى بمضغه، سأقارن طولي بقطر رغيف الخبز، سأقارن وضعي بوضع النساء العائدات من الفرن إلى بيوتهن، سأتجنب نظرات عطفهن وأسئلتهن البليدة، لا شيء يدفعني للغضب إلا قطعة القماش النظيفة التي تستخدمها بعضهن لصّر أرغفتهن، سأستريح في طريق العودة كالعادة عند مَصْطَبة دكان حسون، سأقوم بنشر أرغفة الخبز التي بدأت بالتعرق لتهويتها واِستعراض مقدرتي الذكورية، سأنظر من وراء نظارتي إلى تلك الصغيرة داريا التي تراقبني بصمت، إلى متى يا ربي ستراقبني هذه الصغيرة الحائرة!؟ إلى متى يا ربي سأشتري لنا الخبز!؟ بعد غدٍ سيأتي دور أخي لثلاثة أيام قادمة ليعود دوري من جديد، لكن عينايّ ستفتقدان داريا لصباحات ثلاث...
داريا تعني شيئاً مثل جيدة الحيازة أو صاحبة الأخيار، داريا هي القديرة والعارفة والحامية، هي البحر أو المحيط الأزرق باللغة الفارسية، هي دوروثي أو هبة الله في أوروبا وهي الهدية في سلوفينيا... داريا هي عازفة بيانو هولندية ولاعبة جمباز ألمانية وممثلة أميركية ومغنية وممثلة كرواتية وعارضة أزياء بولندية وبطلة أولمبيات سويسرية ولاعبة الجمباز الإيقاعيّ الروسية وكاتبة الخيال الجنائي الروسية ولاعبة الشطرنج والسياسية السلوفينية ورامية المطرقة الروسية والسفّاحة الروسية والمتزلجة الأذربيجانية...
----- "كانت داريا في بداية السابعة من عمرها، تستفيقُ منْ نَوْمتها في الصباحات الباكرة الدافئة والباردة منها، تجذبها رائحة الشارع وأحاديث المارة، تجلسُ بهيبة الطفولة على الدَّرَجة الثانية بِعَتَبَةِ دكان حسون يساراً من مدخل دار أهلها وحيدةً صامتةً، كأنّها جاءت لمشاهدة فلم في الهواء الطلق...
تضم رجليها الصغيرتين إلى بعضهما وتسند إليهما ذراعيها الحلوتين ثم تضع رأسها المعبّأ برائحة الأحلام بين راحتي كفيها، تراقب حركة الشارع وتسترق السَّمعَ إلى الصدى، صدى خطوات أهل الضيعة وأحاديثهم في إيابهم وذهابهم إلى فرن دياب والدكاكين المجاورة... إحداهن تحمل أرغفة الخبز على رأسها وفي يدها اليسرى سطل لبن والأخرى تحضتن أرغفة الخبز إلى صدرها الملوّث برائحة النوم والثوم والندى فيزداد دفئاً، والثالث اكتفى بشراء أرغفة ثلاثة يحملها على كفه الأيسر ويرفعها إلى الأعلى وباليد اليمنى يمسك قطعة خبز مستلذاً بطعمها، والرابع ينشر أرغفة الخبز المتعرِّقة على عَتَبَةِ الدكان لتهويتها... من البيت المقابل يأتيها صوت الفلاح أبو داهود الغاضب لاعناً زوجتيه وبقرتيه وحياته وأرض مختار الضيعة التي سيحرثها بالصمد الخشبي اليدوي، يمتزج صياحه مع وقع أقدام الحمار العجوز على إسفلت الطريق ساحباً خلفه طنبور عدسو في طريقه إلى الكازية لتعبئة براميل الكاز التي يسترزق منها... يفاجئها صوت جرس بسكليت أبو فاطمة، الرجل قصير القامة، قادماً من أسفل الضيعة صاعداً الطريق المؤدي إلى المحطة في طريقه إلى المدينة مشياً على قدميه، مُشمّراً أكمام قميصه البني عن ذراعيه لِيُظهِرَ ساعة معصمه الضخمة ورجولته، ساحباً إلى جانبه بيديه الاثنتين دراجته الكبيرة ذات الجسرين، البسكليت الغليظ الذي اختاره لنفسه ليرسم له قامة الرجال، لكن جسره بقي دوماً أعلى من قامته الصغيرة...
يفرمل أبو فاطمة دراجته ويتوقف فجأة أمام دكان حسون، إذ يلتقي أبو سمير الساعاتي المكتنز نازلاً على دراجته الصغيرة في طريقه إلى الفرن، يُصبّحُ عليه بالخير، يسأله عمّا حلّ بساعة معصم أم فاطمة التي تركها في دكان الساعاتي قبل أكثر من شهر، يجيبه الساعاتي ساخراً كعادته: عطلها بسيط أخي أبو فطوم، إنّها تحتاج فقط إلى زمبلك ونابض، سأصلحها لك في القريب العاجل، ثم يُغيِّر مجرى الحديث سائلاً بخبث عن حال صحة أم فاطمة... يسمع أبو داهود حديثهما، يلعنهما ويسبهما، يضحك الرجال ويتفرقوا...
ثم يعلو الصراخ والعويل في منزل الرحّال الفقير، كان الرحّال طويل القامة عبوساً وحزيناً، لوجهه لون الصَّدَأ، يرتدي صيفاً وشتاءً بدلة لا لون لها، لعلها كانت بدلة عسكرية في وقت مضى، كان غريباً لا يشبه أهل القرية، فقيراً أكثر مما تسمح به أجهزة المخابرات في ذاك الزمن، يعمل طيلة النهار في مكان ما لا اسم له، زوجته تشبهه في كل شيء، اِمرأة سمراء طويلة فقيرة حزينة وعبوسة، كانا وأولادهما الأطفال قد جاؤوا من مكانٍ مجهول، استأجروا تلك الغرفة الصغيرة التي تَطلّ بنافذتها إلى الشارع وسكنوا في الضيعة دون انتماء...
الْبُكَاء وَالصُّيَاح المتصاعد اِسْتَرْعَى انْتِباه الطفلة داريا دون أن تحرك ساكناً، حمل الرحّال بيده تنكة زيت الزيتون المتبقية في بيته، فتح غطاءها وراح يدلق محتواها من الزيت في الشارع وكأنّه يدلق السَّيْفَ من غِمْدِهِ، وكأنّه يدلق الماء الوسخ من سطل الغسيل...
فاحت رائحة الزيت وامتزجت برائحة الخبز وتغير لون الشارع، خرحت زوجته تولول بصوت جنائزي وتندب حظها وفقرها وتلعن جنون زوجها، خرجت ابنته أميمة من الغرفة المظلّمة، ضاعت في الشوارع ولم تعد إلى الغرفة منذ ذاك اليوم...
استيقظ رجل من نومه على الضجيج القادم من الشارع، هيئته توحي بأنه من أنجب داريا، الأب يسأل زوجته عمّا يحصل في الخارج، أجابته لا شيء يذكر سوى تفاصيل فرح و وجع، فلم من أفلام الهواء الطلق، مدَّ الأب رأسه من نافذة غرفة الجلوس ونادى طفلته: داريااااا... ألم ينتهي فلم اليوم بعد؟ ادخلي إلى البيت، الفطور جاهز..." -----
نعم لقد شارف الفلم على النهاية...
مضت أيام وأسابيع، كبرت أختي الأصغر، صار طولها يعادل ضعفي طول قطر رغيف الخبز، سيأتي دورها لشراء الخبز، ستعترض على إيقاظها، ستمتنع عن الذهاب ثم توافق مكرهة، ستعتاد على الرحلة، ستذهب ذات صباحٍ، ستقف بين النساء الحَبَالَى تنتظر دورها، ستتعب مفاصلها، ستقرفص وتمسك حجراً صغيراً تحفر به رسوماً لشمسٍ ساطعة وبيت دافئ وفطور شهي، ستتعب من القرفصاء، ستنهض عندما تسمع الخَبَّاز يقول: نفذ الطحين...
النساء يتصايحن، يتزاحمن، يسرقن أدوار الأطفال، يسرقن دورها، تشعر بأنها ستُوبّخ إذْ عادت دون الرغيف، تقاوم بجسدها الصغير أجساد الحوامل، تقترب من الباب الحديدي الغليظ، تتَشَبَّث بدورها، كما يتَشَبَّث الغَرِيقُ الهارب بِالغَرِيقِ اللاجئ، تدخل السَّبَّابَة والوُسطَى في الشق الطولي للباب الغليظ، تصيح: إنّه دوري يا سيد دياب... يضيع صوتها، تتصارع أيادي الحوامل على أرغفة الخبز الأخيرة، تتقاسمها، يشتم الخَبَّاز بصوتٍ عالٍ، يلعن الخبز والفرن والنساء وبطونهن والطحين، يمسك الباب الغليظ ويغلقه بما أعطي من قوة، لتسقط الصغيرة على الأرض في حفرة وحلٍ مغشياً عليها لتبقى بقايا السَّبَّابَة والوُسطَى عالقتان في الشق الطولي الذي لم يعد ينفذ منه الضوء، تتفرق الحوامل إلى بيوتهن والدم ينزف... لا أحد يراها، لا أحد يصرخ لنجدتها، وحدها تلك المرأة القميئة ذات الشَّامَة الكروية، المرأة المشاكسة التي يفصل حائط دكانها طريق ترابي ضيق عن جدار المخبز، وحدها تصرخ، وحدها تَسُبّ البطون المنتفخة، البطون الهاربة باتجاه مخبز الضيعة الجنوبي... وحدها ذات الشَّامَة، سليطة اللِّسان والعينين كانت قادرة على وصف ذلك المشهد القديم، لكنها ماتت أو ستموت دون جرأتها على إعادة تمثيل المشهد، كي لا يُقال عنها: تغلبت على عظمة الله. كي يبقى الله عظيماً!
لا لن أسقط مُنْهكاً في حفرةٍ صنعتها لي نساء الكوكايين؟ لن تدوسني سيارة تلاحقني، لن تتطاير أسناني، لن ينسلخ جلد وجهي، لن تتصدّع أصابعي، لن تقع نظارتي أرضاً، لن أسمح لصحف المدينة أن تعنون صفحاتها الرئيسية: "مات أحمد أبو النحس المتشائل غريباً والجاني ما زال مجهول الهوية!؟"
ستسعفني قدماي بالقفز إلى الرصيف الضيق، سأدخل إلى البناية، بل سألجأ إلى قسم الشرطة لأقدم هناك مذكِّرة اتِّهام أطول من قطر رغيف خبز، لأقدم شكوى ضد دعارة الكوكايين في هذا البلد! يقولون: الشرطة هنا في خدمة الإنسان! سأستعيد عن طريقهم حقوقي الأساسية وأهمها كرامتي... كرامة الإنسان هنا مصانة وغير قابلة للمسّ... حمايتها واحترامها هما واجب إلزامي على كافة سلطات هذا البلد!
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدث في قطار آخن -39-
-
حدث في قطار آخن -38-
-
حدث في قطار آخن -37-
-
حدث في قطار آخن -36-
-
حدث في قطار آخن -35-
-
حدث في قطار آخن -34-
-
حدث في قطار آخن -33-
-
حدث في قطار آخن -32-
-
حدث في قطار آخن -31-
-
حدث في قطار آخن -30-
-
حدث في قطار آخن -29-
-
حدث في قطار آخن -28-
-
حدث في قطار آخن -27-
-
حدث في قطار آخن -26-
-
حدث في قطار آخن -25-
-
حدث في قطار آخن -24-
-
حدث في قطار آخن -23-
-
حدث في قطار آخن -22-
-
حدث في قطار آخن -21-
-
حدث في قطار آخن -20-
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|