المتجولة غير المرئية: المرأة وأدب الحداثة
هشام عمر النور
2016 / 2 / 10 - 07:58
جانيت وولف
ترجمة هشام عمر النور
تجربة الحداثة:
أدب الحداثة يصف تجربة الرجل. وهو جوهرياً أدب التحولات في المجال العام والوعي المرتبط به. التاريخ الحقيقي لظهور "الحديث" يختلف بإختلاف التفسيرات وكذلك سمات "الحداثة" تختلف بإختلاف الكتّاب. ولكن ما تشترك فيه تقريباً كل التفسيرات هي اهتمامها بالمجال العام للعمل والسياسة وحياة المدينة. وهذه هي المجالات التي تم إقصاء المرأة منها، أو هي المجالات التي تختفي منها المرأة عملياً. مثلاً، إذا كانت السمة الرئيسية للحداثة هي فكرة فيبر عن تزايد العقلنة، فإن المؤسسات الكبيرة التي تأثرت بها هذه العملية هي المصنع والمكتب والمصلحة الحكومية. طبعاً، هنالك نساء يعملن في المصانع؛ كما أن نمو البيروقراطية كان قد اعتمد إلى حدٍ ما على نمو قوة عمل نسائية جديدة من الكاتبات والسكرتيرات. وعلى الرغم من كل ذلك فإن هذا العالم هو عالم الرجل لسببين. الأول، إن هذه المؤسسات يديرها الرجال من أجل الرجال الآخرين (المالكين، الصناعيين، المديرين، الممولين)، وهي يهيمن عليها الرجال في تسييرها وتراتبها الهرمي. الثاني، تطور المصنع، ومؤخراً، البيروقراطية تطابق مع عملية الفصل بين المجالين العام والخاص (وهي عملية موثقة الآن تماماً)، وتزايد حصر المرأة في المجال الخاص للمنزل وضواحي المدينة.[1] وعلى الرغم من أن نساء الطبقة الوسطى الدنيا والطبقة العاملة واصلن الخروج إلى العمل طوال القرن التاسع عشر إلاّ أن الأيديولوجيا القائلة بأن مكان المرأة هو المجال المنزلي تخللت كل المجتمع، على الأقل في إنجلترا، والدليل على ذلك مطلب الطبقة العاملة في ذلك الوقت بما يسمى (أجر الأسرة) للرجل.[2] ومن ثمّ، فإن المجال العام، على الرغم من حضور بعض النساء في مجالات محددة منه، كان مجالاً ذكورياً. وبما أن تجربة "الحديث" وقعت بشكل رئيسي في المجال العام ولذلك فهي تجربة الرجل بالأساس.
في هذا المقال، على أية حال، لن أتابع التحليلات السوسيولوجية الأرثوذكسية للحداثة من زاوية عملية العقلنة (أو ربما عملية التمدين ـــــــــ وهذا، بالطبع، يضع الحدث في تاريخ مبكر جداً). فأنا أريد أن اهتم بمساهمات وانطباعات ومقالات أولئك الكتّاب الذين حددوا "الحديث" في حياة المدينة، في الطبيعة الزائلة والمؤقتة وغير الشخصية للمواجهات التي تحدث في البيئة الحضرية، وفي وجهة النظر الخاصة عن العالم التي يطورها سكان المدن. وبؤرة الاهتمام هذه ليست غريبة على السوسيولوجيا؛ فمقالات جورج سيميل تخطر للذهن كدراسات في السيكولوجيا الاجتماعية لحياة المدينة،[3] وسوسيولوجيا ريتشارد سينت الأكثر معاصرة أعادت الاهتمام إلى محاولات تعريف شخصية المدينة الحديثة.[4] ولكن هنالك اهتماماً خاصاً بتجربة الحداثة تم في مجال النقد الأدبي؛ وكان شارلس بودلير هو الرائد في هذا المجال، شاعر باريس في منتصف القرن التاسع عشر،[5] ومقالات والتر بنجامين عن بودلير التي كتبها في الثلاثينات من القرن الماضي توفر سلسلة مدهشة من تأملات بودلير في "الحديث"[6] (على الرغم من تناثرها وغموضها النموذجي). وكنقطة بداية للبحث في هذا الأدب الخاص للحداثة فإنني سأبدأ بعبارة بودلير، في مقاله المكتوب في 1859 ــــــــــ 1860م "رسام المدينة": أنا أعني بالحداثة المؤقت والزائل والعارض، نصف الفنون، التي يتكون نصفها الآخر من الأبدي والثابت".[7] ونجد صدى هذه الكلمات في كتاب مارشال بيرمان الأكثر معاصرة عن تجربة الحداثة، الذي يصف "الوحدة المتناقضة" للحداثة:
"وحدة اللاوحدة: تصبنا جميعاً في دوامة أبدية من التحلل والتجديد، من الصراع والتناقض، من الغموض والألم. أن تكون حديثاً هو أن تكون جزءاً من كونٍ، كما قال ماركس، كل ما هو صلب فيه يتبخر في الهواء."[8]
وهذا يستدعي أيضاً تعريف سيميل للشخصية الحضرية: "الأساس السيكولوجي للنوع الحضري من الفردية يتكون في الإثارة العصبية الكثيفة التي تنتج من التغيير الدائم والسريع للمؤثرات الداخلية والخارجية.[9]
وبالنسبة إلى سيميل فإن هذا يرتبط بإقتصاد المال الذي هيمن في أواخر القرن التاسع عشر. والجدير بالتأكيد هنا، على الرغم من أن المدن لم تكن جديدة في القرن التاسع عشر إلاّ أن نقاد الحداثة والمدافعين عنها يعتقدون أن الوجود الحضري قد اكتسب خصائص مختلفة حوالي منتصف القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن تحديد هذا التوقيت إلى حدٍ ما اعتباطي (وهو أيضاً يختلف من باريس إلى لندن إلى برلين)،[10] إلاّ أنني أعتقد من المفيد اتخاذ هذه الفترة من التمدن المتسارع والمترافق مع التحولات في مجال العمل والسكن والعلاقات الاجتماعية التي أحدثها صعود الرأسمالية الصناعية، كسنوات حاسمة في ميلاد الحداثة. ويحدد بيرمان تاريخاً ممهداً للحداثة في تلك العناصر من الحداثة التي بدأت في الظهور في الفترة السابقة على الثورة الفرنسية والتي وجدت التعبير عنها في كتاب جوته "فاوست".[11] وقد رأى براد بري وماكفيرلين، اللذان ركزا على الفترة المتأخرة من عام 1890 إلى 1930م، أن بودلير هو "مبتدر" الحداثة.[12] ولكنهما يكتبان عن ظاهرة مختلفة وهي ظاهرة الحداثة في الفنون؛ وعلى الرغم من أن الحداثة modernity والحداثة في الآداب والفنون modernism كثيراً ما تتداخل، إلاّ أنني لا أعتقد أن أي شخص يستطيع أن يدعي أن بودلير كان شاعراً حديثاً، بمعنى تثوير لغة الشعر وشكله.[13] وليس هنالك تناقضاً في تحديد التجربة المبكرة للحداثة في منتصف القرن التاسع عشر وتحديد التعبير المتأخر عنها في مجال الفنون في أواخر القرن.
ومن ثم، فإن السمات الخاصة بالحداثة تتكون في الطبيعة المؤقتة والزائلة للمواجهات والانطباعات التي تحدث في المدينة. ويجب أن تكون سوسيولجيا الحداثة قادرة على تحديد أصول هذه النماذج الجديدة من السلوك والتجربة في الجوانب الاجتماعية والمادية من المجتمع المعاصر. وسيميل، كما ذكرت سابقاً، يربط بين الشخصية الحضرية واقتصاد المال. وبداية مارشال بيرمان من تفسير ماركس لـ"رؤية التبخر"[14] يبدو معه وكأنه يتبنى في ذات الوقت تحليل ماركس لأساس هذه الرؤية في التغييرات الجذرية التي أحدثتها البرجوازية ونمط الإنتاج الرأسمالي في المجتمع. ومن جهة أخرى فإن بودلير يهتم بالظاهرة نفسها وليس بأسبابها. وليس من واجبي في هذا المقال أن أوفر سوسيولوجيا للحداثة، كما أنني لن أقوّم التفسيرات المختلفة للأساس الاجتماعي والاقتصادي للتجربة الحديثة، ولن أفحص بدقة كافية مفاهيم "الحداثة" التي أناقشها. كل ما أريد أن أفعله هو أن أنظر في هذه التفسيرات التي تصف سوسيولوجياً، بطريقة أو أخرى، تجربة الحضر الحديثة، وأن اهتم بهذه التفسيرات من وجهة نظر التقسيم النوعي (الجندر) لمجتمع القرن التاسع عشر. ولذلك فليس مهماً أن يكون التفسير المحدد متسقاً مؤسساً بشكل كافي على فهم تاريخي اجتماعي لهذه الفترة، كما أنه ليس مهماً أيضاً أن يكون التفسير المحدد متسقاً ومنطقياً. (فكما وضح بيرمان، نجد أن بودلير قد وظف العديد من مفاهيم "الحداثة"، كما وظف أيضاً تقويمات مختلفة لهذه الظاهرة).[15]
وتعليقات بودلير في الحداثة أكثر وضوحاً في كتاباته النقدية في الفنون، رغم أننا نجد نفس الموضوعات في شعره وفي قصائده النثرية. هنالك إشارة مبكرة ظهرت في نهاية مراجعته لمعرض عام 1845م، والتي تم إلحاقها بنهاية الفقرة الأخيرة كفكرة لاحقة. في هذه الإشارة أثنى بودلير على رسوم عصره، ولكن عاب عليها فقدان الاهتمام بحاضرها.
"لا أحد يلقي سمعه لرياح الغد؛ ورغم ذلك فإن بطولة الحياة الحديثة تحاصرنا وتضغط علينا. ونحن ممتلئين على نحوٍ كافٍ بمشاعرنا الحقيقية بقدرتنا على التعرف عليها. فليس هنالك فقدان للموضوعات، ولا للألوان لتشكيل الملاحم. فالرسّام، الرسّام الحقيقي الذي نبحث عنه، هو الذي يستطيع أن يلتقط الطابع الملحمي من الحياة اليومية ويجعلنا نرى ونفهم، بفرشاته أو قلم رصاصه، عظمتنا وشاعريتنا في ربطات عنقنا وأحذيتنا اللامعة الجلدية. وفي السنة القادمة دعنا نأمل في أن يضمن لنا الباحثون الحقيقيون متعة استثنائية للاحتفال بظهور جديد."[16]
ولكن السنة التالية لم تكن أفضل، واشتكى بودلير مرة أخرى من غياب الفن المعاصر الحقيقي. الذي يهتم بالموضوعات والشخصيات الحديثة بذات طريقة رؤية بلزاك. في هذه المرة أفرد بودلير عدة صفحات لموضوع بطولة الحياة الحديثة ــــــــــ في القسم الأخير من مراجعته لمعرض عام 1846م. وبدأت الحياة الحديثة في هذه الفقرة تكتسب بعض الملامح المحددة: الرتابة المنتظمة لألوان ملابس الناس، و"المتأنق" الظاهرة الحديثة التي ظهرت كرد فعل على ذلك، والموضوعات الخاصة التي يمجدها بودلير بإعتبارها أكثر بطولية من موضوعات الرسوم العامة والرسمية.
"إن مهرجان حياة الموضة وآلاف الموجودات الطافحة ــــــــ المجرمون والنساء المقهورات ــــــ التي تجري في العالم التحتي للمدينة الكبيرة؛ وصحف Gazette des Tribunaux و Moniteur كل ذلك يثبت لنا أن علينا أن نفتح عيوننا فقط للتعرف على البطولة... إن حياة مدينتنا غنية بالموضوعات الشعرية والمدهشة."[17]
هذه الموضوعات اغتنت بالتفاصيل في "رسام الحياة الحديثة" الذي كتبه بودلير في 1859 ــــــــــ 1860م. في هذا الوقت وجد بودلير فناناً اعتبره أهلاً للقيام بواجب تصوير "الحديث": ألا وهو كونستانتين قايز، وهو موضوع مقاله. ألوان قايز المائية وروسوماته بشكل عام موهوبة ولكنها أعمال سطحية، ذات قيمة قليلة في تاريخ الفنون ـــــــــ على الرغم من أحكام كهذه تستدعي كل أنواع الأسئلة عن التقويم النقدي. ولقد رفض بيرمان رسومات قايز المبتذلة عن الناس الجميلين وعالمهم واستغرب بودلير الذي كان يجب أن يفكر كثيراً قبل أن يفكر في فن لا يماثل شيئاً من فن بونويت أو بلومينجال.[18] على أية حال، فإن المقال مثير للاهتمام لأنه يوسع من فكرة "الحداثة". يذهب قايز، رسام الحياة الحديثة، إلى الزحام ويسجل عدد لا يحصى من انطباعات الليل والنهار.
"يخرج ويراقب نهر الحياة يتدفق ماراً به بكل جلالته وعظمته... ينظر في مناظر المدينة الكبيرة ـــــــ مناظر الحجارة التي داعبها الضباب أو ضربتها الشمس. يستمتع بالمركبات الجميلة وخيلها الشامخة، ووسامة العرسان المذهلة، وخبرة جنود المشاة، وغنج مشية النساء، وجمال الأطفال... وإذا تغيرت بدرجة بسيطة موضة ما أو تفصيلة زي ما، أو تم استبدال الانحناءات والتموجات بعقدة الشريط، أو سقطت كعكة شعر إمرأة قليلاً على عنقها العاري، أو ارتفعت قليلاً خصورهن أو امتلأت تنانيرهن، فتأكد أن هنالك عين صقر قد التقطت هذا المشهد مهما كان بعيداً."[19]
هذه هي الفقرة التي رفضها بيرمان باعتبارها "نسخة دعاية". ولكن إذا كانت هي بيان مفصل لما هو سطحي ومحض موضة، فإن هذا يعني ــــــــ وهذه هي النقطة الهامة ـــــــــــ أن الوعي الحديث يتكون في استعراض الانطباعات، الجمال الخاص المناسب للعصر الحديث، والأكثر أهمية في هذا المقال أن بودلير يقترح الخصائص الشكلية للعقل الحديث الذي يمسك بالمؤقت والزائل والعارض. ويظهر المتأنق مرة أخرى لتتم مقارنته وتمييزه من قايز، فهما يتماثلان في اهتمامهما بالمظهر والأصالة الشخصية، ويختلفان في السلوك غير المكترث للأول الذي يرفضه قايز، وفقاً لبودلير.[20] قايز هو المتجول، في محيطه في الزحام ـــــــــ في قلب العالم وفي ذات الوقت مختبئاً عن العالم.[21]
المتجول رمز مركزي في كتابات بنجامين عن بودلير وباريس القرن التاسع عشر. وموطن المتجول هو شوارع وأروقة المدينة وهو الذي يذهب دارساً في الأسفلت، على حد تعبير بودلير.[22] والجمهور المجهول يوفر ملجأ للأفراد من هامش المجتمع؛ وهنا يضع بنجامين بودلير نفسه كمتجول مع ضحايا ومجرمي قصص المحقق بو (التي ترجمها بودلير إلى الفرنسية).[23] وعلى أية حال، فبالنسبة إلى بنجامين نجد أن مدينة المتجول أكثر محدودية مما يرى بودلير. فلا لندن ولا برلين توفر بدقة شروط الانخراط / عدم الانخراط التي يزدهر فيها المتجول الباريسي؛ ولا باريس، في فترة متأخرة قليلاً حينما تم إحكام شبكة من المسيطرات، جعلت الهرب إلى المجهول أمراً غير ممكن.[24] (بودلير، وبيرمان، على العكس، يجادلان في أن باريس قد ازدادت انفتاحاً بشوارع هوسمان الواسعة "البوليفار"، التي حطمت الانقسامات الجغرافية والاجتماعية بين الطبقات، وأصبحت بذلك مكان التحديق الحديث، وحدود المتجول).[25]
المتجول هو البطل الحديث؛ تجربته، مثل تجربة قايز، هي تجربة التحرك بحرية في المدينة، يلاحظ وتتم ملاحظته، ولكنه لا يتعامل أبداً مع الآخرين. والرمز القريب من ذلك في أدب الحداثة هو الغريب. والغريب عنوان لإحدى قصائد بودلير النثرية.[26] وهي حوار قصير يتم فيه سؤال "رجل ملغز" عما يحبه ـــــــــ والده، والدته، أخته، أخاه؟ أصدقائه، بلاده، الجمال، الذهب؟ ويجيب بالسلب على كل ذلك، مؤكداً أنه ببساطة يحب السحب الراحلة. بالنسبة إلى سيميل فإن الغريب، على أية حال، ليس هو الرجل الذي لا ارتباطات ولا التزامات له. بل هو من يتصف بنوع من معين من الاشتراك غير العضوي في المجموعة، فهو ليس عضواً فيها منذ البداية، ولكنه استقر في هذا المكان الجديد. "وهو الشخص الذي يأتي اليوم ويبقى غداً"؛[27] وفي ذلك فهو يختلف عن المتجول وعن غريب بودلير، فلا أحد منهما يستقر أو حتى يجري اتصالاً مع الذين يحيطون به. ولكن غريب سيميل دائماً متجول بالإمكان: "فهو على الرغم من كونه لم يتحرك إلاّ أنه لم يتجاوز تماماً حرية المجئ والذهاب".[28] ومن ثم فإن أبطال الحداثة هؤلاء يتقاسمون إمكانية واحتمال السفر وحيدين، إمكانية احتمال الاستقرار الطوعي، إمكانية احتمال الوصول المجهول إلى مكان جديد، وكلهم بالطبع رجال.
المرأة والحياة العامة
لم يكن صدفة أو خطأ من الاستخدام البطريركي اللامبالي للغة أن يكون عنوان كتاب ريتشارد سينت عن الحداثة هو "سقوط الرجل العام". إن الشخص العام في القرن الثامن عشر وما قبله، الذي يجدول إيجار أرضه، والذي يمضي الوقت في بيوت القهوة، ويستعرض في الشوارع وفي المسارح، والذي يخاطب الغرباء بحرية في الأماكن العامة، هذا الشخص العام كان واضحاً أنه رجل. (على الرغم من أن سينت يقول أنه من الممكن أن يخاطب الرجل إمرأة غريبة في الحدائق أو الشوارع، طالما أنه لا يفترض أن الأجابة لا تعني أنه يمكن أن يهاتفها في المنزل، إلاّ أنه ليس هنالك أدنى افتراض بأن النساء يمكن أن يخاطبن الغرباء).[29] وفي القرن التاسع عشر، حين لم تعد الحياة العامة مكاناً للتنافس، ظهر المتجول ــــــــــ لتتم مراقبته وليس مخاطبته.[30] وتقاسم النساء والرجال خصوصية الشخصية، والاغفال والانسحاب الحريصين من الحياة العامة؛ ولكن الخط المرسوم بتزايد حاد بين العام والخاص، هو الذي حصر النساء في الخاص، بينما تمتع الرجال بحرية التحرك في الجمهور أو إلى القهاوي والمنتديات. وحلت أندية الرجال محل بيوت قهوة السنوات المبكرة.
كل الكتاب الذين ذكرتهم يدركون التجربة المختلفة للمرأة في المدينة الحديثة. فمثلاً، سينت يدرك أن حق الهروب إلى الخصوصية العامة لم يكن يتمتع به الجنسان بالتساوي، فحتى أواخر القرن التاسع عشر لم يكن النساء يستطعن الذهاب إلى القهوة وحدهن في باريس أو إلى المطعم في لندن.[31] وكما يقول فإن "الجمهور الوحيد" كان مجالاً للحرية الخاصة، وكان الرجل هو الذي يتمتع بالهروب إليه، بغض النظر عما إذا كان ذلك بسبب الهيمنة أو بسبب الحاجة الكبيرة. وقد لاحظ أيضاً أنه وفي الفترة المبكرة من الحياة العامة كان على النساء أن يهتممن بقدر كبير بدلالات ملابسهن، التي يتم فحصها كدلالة على مراتبهن الاجتماعية وللتمييز بين المرأة "المحترمة" والمرأة "المنحلة".[32] وسيميل، الذي استخدمت مقالاته السوسيولوجية انتقائياً، قد انتبه أيضاً في مكان آخر إلى شرط النساء. وقد كتب مقالات عن وضع النساء، وسيكولوجيا النساء، وثقافة الأنثى، وحركة النساء وديمقراطيتهن الاجتماعية.[33] وكان الأول الذي سمح للنساء بحضور سمناراته الخاصة، قبل وقت طويل من قبولهن كطالبات في جامعة برلين.[34] وبيرمان، أيضاً، يرى أن النساء قد اعترفن في وقت متأخر بأن لهن تجربة مختلفة مع المدينة من تلك التي للرجال. واعتبر أن كتاب جين جاكوبز "موت وحياة المدن الأمريكية الكبيرة" يعطي وجهة نظر نسائية كاملة ومفصلة عن المدينة.[35] هذا الكتاب صدر في عام 1961م ويصف حياتها اليومية في المدينة ـــــــــ حياة الجيران، وأصحاب الدكاكين، والأطفال الصغار، وكذلك العمل. وأهمية هذا الكتاب، كما يقول بيرمان، هي أنه قد كشف عن أن للنساء ما يقلنه عن المدينة وعن الحياة التي نتشاركها معهن، وأننا قد أفقرنا حياتنا وحياتهن لأننا لم نستمع إليهن حتى الآن.[36]
والمشكلة، أيضاً، أن أدب الحداثة قد تم إفقاره بإهمال حياة النساء. المتأنق، المتجول، البطل، الغريب ــــــــــ كل هذه الرموز تم استحضارها لتلخص تجربة الحياة الحديثة ــــــــــ وهي كلها وبدون تمييز رموز ذكورية. وفي عام 1831م وعندما أرادت جورج ساند أن تجرب حياة باريس وأن تتعلم شيئاً عن أفكار وفنون عصرها، تنكرت في زي صبي لتعطي نفسها الحرية فقد كانت تعلم أن النساء لا يتمتعن بها.
"ولذلك صنعت لنفسي سترة طويلة من قماش ثقيل رمادي وبنطلون وصديري ملائمان لها. ومع طاقية رمادية وربطة عنق قطنية كبيرة، كنت مثالاً لطالبٍ في السنة الأولى. ولا أستطيع أن أعبّر عن السعادة التي منحني لها حذائي الطويل الساق Boot، كنت أنام بهما وأنا سعيدة، تماماً كأخي في صغره حين حصل على أول زوج منهما. ومع ذلك الكعب الحديدي الصغير، كنت صلبة على الرصيف. وطرت من طرف باريس إلى طرفها الآخر. وكان يبدو لي أنني أستطيع أن أدور العالم. ومن ثم فإن ملابسي لم تكن تخشى شيئاً. كنت أخرج في أي نوع من الطقس، وأعود في أي وقت إلى المنزل، وأجلس في المسرح في المقاعد الخلفية الرخيصة. لا أحد ينتبه إلي، ولا أحد يشتبه في تنكري... لا أحد يعرفني، ولا أحد ينظر إلي، ولا أحد يجد شيئاً خاطئاً فيّ؛ لقد كنت ذرة ضائعة في جمهور ضخم."[37]
لقد جعل التنكر حياة التجول متاحة لها، فقد كانت تدرك أنها لا تستطيع أن تتبنى دوراً غير موجود هو دور المتجولة. فالنساء لا يستطعن أن يتجولن وحيدات في المدينة.
وفي مقالات بودلير وقصائده تظهر النساء أحياناً. فالحداثة تربّي، أو تجعل من الممكن رؤية، عدد من أصناف سكان المدينة الإناث. وأكثر هذه الأصناف بروزاً في نصوص بودلير هي: العاهرة، الأرملة، السيدة العجوز، السحاقية، ضحية القاتل والمرأة العابرة المجهولة. وفي الحقيقة، وطبقاً لبنجامين، فإن السحاقية هي بطلة الحداثة الأدبية عند بودلير؛ ومن المعروف أن بودلير كان يرغب في تسمية قصائده المعروفة الآن بـ"أزهار الشر" Les Fleurs du mal كان يرغب في تسميتها بـ Les Lesbiennes، أي السحاقيات.[38] (ولكن، كما يشير أيضاً بنجامين، في القصيدة الرئيسة عن سحاقيات السلسلة "دلفين وهيبولت" يصل بودلير إلى إدانة النساء كضحايا جديرين بالرثاء مكبلين إلى نار جهنم).[39] أما العاهرة وهي موضوع قصيدته "الشفق" Crépuscule du Soir والتي ناقشها أيضاً في قسم من مقاله "الرسام والحياة الحديثة"[40] فهي توضح سلوكاً مماثلاً لما مضى يتكافئ فيه الضدان الإعجاب والإشمئزاز (القصيدة تشبه الدعارة بالكثبان التي يصنعها النمل ويشبهها أيضاً بالدودة التي تسرق طعام الرجل). والأكثر وضوحاً هو تعاطف بودلير مع النساء الهامشيات الأخريات، المرأة العجوز، الأرملة؛ الأولى يراقبها برفق من بعيد كوالدها، والأخيرة يلاحظها بحساسية لكبريائها وآلامها وفقرها.[41] ولكن ولا واحدة من هؤلاء النساء تقابل الشاعر كندٍ له. فهن موضوعات لتأمله ودراسته. والمرة الوحيدة التي اقترب فيها بودلير من المواجهة المباشرة مع إمرأة غير هامشية أو منحطة هي في قصيدته "تردد"A une passante.[42] (وحتى هنا، فالجدير بالملاحظة أن المرأة كانت في حالة حداد ــــــــــ en grand deuil.). تمر به المرأة الجليلة الطويلة في الشارع المشغول؛ تقابلت عيونهم للحظة قبل أن تستمر في رحلتها، وظل الشاعر يسأل إذا ما كانا سيلتقيان في الأبدية مرة أخرى. وردها على نظرته يتأكد في السطر الأخير من القصيدة "يا أنت التي أحببت، يا أنت التي تعرفين" : "Ô toi que j eusse aimée, ô toi qui le savais." وتأويل بنجامين لهذه القصيدة هو أن مراوغة هذه المواجهة العابرة هي التي أذهلت بودلير: "إن متعة ساكن المدينة ليست في الحب من أول نظرة وإنما في الحب من آخر نظرة".[43] والمقابلة اتصفت بسمة حديثة خاصة "بالصدمة".[44] (ولكن إذا كانت هذه الحالة نادرة لإمرأة تشارك في تجربة المدينة، فإننا يمكن أن نتساءل أيضاً إذا ما كانت إمرأة "محترمة" في الخمسينات من القرن التاسع عشر سترد على نظرة رجل غريب.)
هنالك، على أية حال، افتراض عام واضح بأن النساء الذين يشاركن في "العام" بأي شئ بذات شروط الرجل فإنهن يظهرن بطريقة ما خصائص ذكورية. ويصف بودلير إحدى الأرامل التي راقبها بأنها تتمتع بطريقة ذكورية مميزة في السلوك.[45] وطبقاً لبنجامين، فإن إعجاب بودلير المختلط بالسحاقية إنما يعود لتمتع الأخيرة برجولة (مفترضة).[46] ويشرح بنجامين نفسه الأمر، فالنساء كان عليهن في القرن التاسع عشر الخروج إلى العمل في المصانع ومع مرور الوقت فإن هؤلاء النساء يظهرن خصائص ذكورية.[47] وحتى ريتشارد سينت (وبدون أي دليل، ودون الاستفادة من المنظورات المعاصرة لبناء النوع) يدعي أن النساء في نهاية القرن التاسع عشر اللائي كن يلتزمن أيديولوجيا التحرر كن يلبسن مثل الرجال ويتمثلن ايماءات جسدية رجولية.[48] ولكن ربما هذا الإدراك للذكورة في النساء اللائي يظهرن في عالم الرجل هو مجرد اعتراف تمت إزاحته بإقصاء النساء التام عن هذا العالم. ووجهة نظر بودلير العامة في النساء، في رسائله ونثره، هي كاشفة لسياق تعبيراته الشعرية عن نساء المدينة المذهلات. وباعترافه في إحدى الرسائل لإحدى النساء لخص الأمر: "لدي أحكام كراهية مسبقة عن النساء. في الحقيقة، أنا لا أثق فيهن؛ إن لك روح نهائي، ولكن، وفي نهاية الأمر، فهو روح إمرأة."[49] المرأة كلا شخص هي التي يمجدها بودلير "رسام الحياة":
"المرأة، بكلمة واحدة، بالنسبة للفنان عموماً، وبالنسبة إلى السيد قايز خاصة، هي أكثر بكثير من كونها مجرد أنثى للرجل. إنها إلهية، نجمة، توجه كل معارف الرجل؛ كتلة متألقة من كل محاسن الطبيعة، متكثفة في موجود واحد؛ وهي موضوع لأحرص إعجاب وفضول تستطيع أن تمنحه صورة الحياة للمتأمل فيها. هي نوع من الآلهة، ربما غبية، ولكنها ساحرة وفاتنة، وهي تتمسك بالمصير والإرادة معلقان على نظرتها... كل شئ يزين المرأة، وكل شئ يخدمها لتظهر جمالها، الذي هو جزء منها؛ وأولئك الفنانون الذين قاموا بدارسة خاصة لهذا الكائن الملغز شغفوا بتفاصيل متعلقاتها أكثر من المرأة ذاتها... ما الذي سيغامر به الشاعر حينما يجلس ليرسم اللذة التي تسببها رؤية إمرأة جميلة ويجردها من ملابسها؟[50]
ازدواجية كاره النساء الكلاسيكية للمرأة كمثال ولكن تافه، كحقيقة حسية ولكنها مكروهة، هذه الازدواجية التي يظهرها بودلير (والتي يشهد عليها مؤرخي سيرته) ترتبط ارتباطاً وثيقاً باستعراض معين للنساء نلاحظه في أدب الحداثة.
ولكن الكتاب الآخرين الذين ناقشناهم لم يكونوا كارهي نساء، وإنما هم، على العكس، متعاطفين مع أوضاع النساء ومع تحررهن ومساواتهن مع الرجل. نحن في حاجة إلى النظر أعمق من أحكام بعينها لتفسير اختفاء المرأة من أدب الحداثة. هذا التفسير ثلاثي ويقع في 1) طبيعة الأبحاث السيكولوجية 2) وتبعاً لذلك الفهم الجزئي للحداثة 3) واقع وضع المرأة في المجتمع. وأكثر هذه الأسباب ناقشته الأعمال الجديدة للمؤرخات والسوسيولوجيات النسويات، ولكنها جديرة بالاستعادة هنا في السياق الخاص لمشكلة الحداثة.
اختفاء المرأة من أدب الحداثة
إن صعود وتطور السوسيولوجيا في القرن التاسع عشر كان ذو علاقة وطيدة بنمو وتزايد الفصل بين المجالين "العام" و"الخاص" في نشاطات المجتمعات الغربية الرأسمالية. وشرط هذا الفصل كان الفصل بين البيت والعمل، مع تطور المصانع والمكاتب. مما جعل الانتقال ممكناً إلى ضواحي المدن الكبيرة (مثلاً، المدن الصناعية في إنجلترا، مثل مانشستر وبيرمنجهام)[51] في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن النساء لم يحدث أن عملن بشروط متساوية مع الرجل (مالية وقانونية وغيرها)، إلا أن هذا الفصل الفيزيائي قد وضع حداً لانخراطهن الهام والحميم فيما كان وإلى وقت قريب يعتبر شأناً عائلياً ــــــــــ إذا كان في التجارة أو الانتاج أو حتى العمل المتخصص. وحصر النساء تدريجياً في العالم المنزلي وفي ضواحي المدينة تم تدعيمه بقوة بأيديولوجيا المجالات المنفصلة.[52] وفي ذات الوقت، فإن عالماً عاماً جديداً كان في طور التكوين، عالم منظمات العمل، والمؤسسات المالية والسياسية والثقافية والاجتماعية. هذه المؤسسات كانت بدون تمييز مؤسسات ذكورية، رغم أن النساء كان يتمتعن في مرات قليلة بعضوية شرف أو يسمح لهن بمشاركة ضئيلة كضيفات في مناسبات بعينها. وفي النصف الثاني من القرن، أدى تزايد التخصصات إلى إقصاء النساء من مجالات متسعة من النشاط، بعضها تقليدياً كن منخرطات فيه (مثل الطب)، وبعضها كان أصلاً قد تم إقصائهن منه (مثل المهن القانونية والأكاديمية)، وبعضها كان جديداً (مثل تعليم الفنانين). والسوسيولوجيا كنظام جديد تضمنت شيئين، أولاً، أن الرجال كانوا يهيمنون عليها، وثانياً، أنها كانت تهتم بشكل رئيسي بالمجالات العامة للعمل، بمجالات السياسة والسوق.[53] وفي الحقيقة فإن النساء لا يظهرن في المراجع الكلاسيكية للسوسيولوجيا إلا بقدر ما هن مرتبطات بالرجال، في العائلة، أو في الأدوار الصغيرة في المجال العام. وكما قال ديفيد مورجان تعليقاً على كتاب فيبر "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية":
"أنه لا يفلت من انتباه العديد من الناس، على الأقل في السنوات الحديثة، أن النساء قد تم اخفائهن من هذا التاريخ المحدد؛ الأدوار الرئيسية ــــــــ فرانكلين، لوثر، كالفين، باكستر، ويسلن ــــــــــ كلها لعبها رجال وأن النساء لا يظهرن على المسرح إلا في زي عاملات في المصانع الألمانية مع إتجاهات في الغالب تقليدية في العمل."[54]
ولأن الفصل بين المجالات كان عملية غير مكتملة، فإن العديد من النساء واصلن الذهاب إلى العمل ليكسبن عيشهن (على الرغم من أن نسبة عالية منهن قامت بذلك في الخدمة المنزلية)، وحتى أولئك النسوة، في مصانعهن، ومطاحنهن، ومدارسهن، ومكاتبهن، ظللن نساء غائبات عن كتب السوسيولوجيا التقليدية. والمؤسسات العامة التي شاركن فيها بالفعل نادراً ما كانت مؤسسات ينسب إليها محللي المجتمعات المعاصرة أية أهمية كبيرة.
وهذا يعني أيضاً أن تجربة الحداثة بالتحديد كانت، في غالبها، مساوية للتجربة في المجال العام. إن النمو المتزايد للمدينة، وصدمة التجاور بين الغنى الفاحش والفقر المدقع الذي وثقه إنجلز ــــــــــ (وفي بعض المدن تم تحاشيه أو رفعه بإنشاء ضواحي المدن)، وحِدّة العلاقات الزائلة وغير الشخصية في الحياة العامة، كل ذلك وفر الموضوعات والإدهاش لكتاب "الحديث"، ولعلماء الاجتماع والمعلقين الاجتماعيين الآخرين الذين وثقوا لملاحظاتهم في المقالات الأكاديمية والنثر الأدبي وفي الشعر. وإلى حدٍ ما، طبعاً، فإن هذه التحولات للحياة الاجتماعية أثرت على كل شخص غض النظر عن نوعه أو طبقته، ولكنها فعلت ذلك بطريقة مختلفة للمجموعات المختلفة. ولكن أدب الحداثة تجاهل المجال الخاص إلى الحد الذي صمت فيه عن موضوع المجال الأساسي للنساء. هذا الصمت ليس محدداً فقط لأي فهم لحياة الجنس المؤنث؛ ولكنه يخفي جزءاً حاسماً من حياة الرجال، أيضاً، بتجريد أحد أجزاء تجربتهم والفشل في بحث العلاقة بين المجالين العام والخاص. والرجال يشغلون المجالين الأثنين معاً. والأكثر من ذلك، أن المجال العام يمكن أن يتكون فقط كمجموعة معينة من المؤسسات والممارسات على أساس نقل المجالات الأخرى من الحياة الاجتماعية إلى المجال الخفي لما هو خاص.[55] وأدب الحداثة، مثل معظم سوسيولوجيا عصره، يعاني مما سمي حديثاً "بالإفراط في تحويل المجال العام إلى أمر اجتماعي".[56] الرؤية المنحرفة لكتاب أدب الحداثة تفسر لماذا تظهر النساء فقط في هذا الأدب من خلال علاقتهن بالرجال في المجال العام، ومن خلال طرقهن غير المشروعة والمنحرفة إلى ميدان الذكر ـــــــــ أي من خلال دورها كعاهرة أو أرملة أو ضحية لقاتل.[57]
الوضع الحقيقي لنساء النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان أكثر تعقيداً من الحصر الصريح والمباشر في المنزل. وهو يختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى، وحتى من منطقة جغرافية إلى أخرى، اعتماداً على الصناعة المحلية، ودرجة التصنيع، وعوامل أخرى عديدة. وعلى الرغم من أن الحياة المستقلة والوحيدة للمتجول لم تكن متاحة للنساء، إلا أن النساء كن نشيطات بوضوح ومتواجدات بطرق أخرى في الميدان العام. وقد أشار سينت، كما ذكرت من قبل، إلى أهمية الانتباه الحريص للزي الذي يجب أن تحافظ عليه المرأة، وهو ما قاله ثورستين فيبلن في وقت أبكر من ذلك:
"وفي مجرى التطور الاقتصادي أصبحت مهمة المرأة أن تستهلك بالنيابة عن رأس المنزل؛ وأصبح مظهرها يتم التخطيط له في ضوء هذا الاعتبار. وأصبح العمل المنتج بوضوح محط بالمرأة المحترمة بدرجة معينة، ومن ثم فإن هناك جهداً يبذل في حياكة أزياء النساء، لخلق الانطباع (في كثير من الأحيان متوهم) بأن المرأة التي تلبس هذا الزي لا يمكن أن تنخرط في أي عمل مفيد".[58]
والتواجد المحدد للنساء هنا هو أنهن مجرد علامات على أوضاع أزواجهن. وإن دورهن الهام في الاستهلاك يتم التأكيد عليه:
"في المرحلة من التطور الاقتصادي التي تكون فيها النساء ما يزلن مملوكات للرجال بالمعنى الكامل للكلمة، فإن سلوك الترف الواضح والاستهلاك يصبح جزءاً من الخدمات المطلوبة منهن. ولأن النساء لسن سيدات أنفسهن، فإن الانفاق الواضح والترف من جانبهن سيضاف إلى شرف سيدهن أكثر من إضافته إلى شرفهن؛ ومن ثم فكلما كانت نساء المنزل أكثر إسرافاً وغير منتجات بطريقة أكثر وضوحاً، كلما كانت حياة سيدهن أكثر شرفاً، وكلما كن أكثر تأثيراً في سمعة سيدهن."[59]
وتأسيس المحلات التجارية الكبيرة في أعوام الخمسينات والستينات من القرن التاسع عشر وفر ميداناً جديداً هاماً لمظهر نساء الطبقة الوسطى العام والمشروع.[60] وعلى أية حال، وبالرغم من أن الاستهلاكية جانب مركزي من الحداثة، وبالإضافة إلى ذلك تتوسط بين العام والخاص، فإن الخواص المحددة "للحديث" التي ذكرناها من قبل ــــــــــ الزوال، المواجهة المجهولة والتجول بدون هدف ـــــــــ لا تنطبق على التسوق، أو على نشاطات النساء كعلامات عامة على ثروات أزواجهن أو كمستهلكات.
لقد بدأنا نكتشف أكثر عن حياة النساء المحصورة في الوجود المنزلي لضواحي المدينة؛[61] وعن النساء اللائي ذهبن إلى الخدمة المنزلية بأعداد كبيرة؛[62] وعن حياة نساء الطبقة العاملة.[63] وظهور العصر الحديث أثر على كل أولئك النساء، محولاً تجربتهن في المنزل والعمل. واستعادة تجربة النساء جزء من مشروع استعادة ما كان مخفياً، ومحاولة لملأ الفراغات في التفسيرات الكلاسيكية. إن المراجعة النسوية للسوسيولوجيا والتاريخ الاجتماعي تعني الانفتاح التدريجي لمجالات في الحياة والتجربة الاجتماعيين ما زالت غامضة إلى يومنا هذا بالرؤية الجزئية وبانحياز الاتجاه الرئيسي في السوسيولوجيا.
وليس واضحاً تماماً ما ستكون عليه السوسيولوجيا النسوية للحداثة. طبعاً، ليس هنالك احتمال أن تخترع المتجولة: لأن النقطة الجوهرية هي أن هذه الشخصية نتيجة للإنقسام النوعي في القرن التاسع عشر. وليس من المناسب كذلك أن نرفض كلياً الأدب الموجود عن الحداثة، لأن التجارب التي يصفها تحدد بالتأكيد أعداد كبيرة من حيوات الرجال؛ وهو أيضاً (وإن كان على نحو أقل مركزية بكثير) جزءاً من تجربة النساء. ما نفتقده في هذا الأدب هو أي تفسير للحياة خارج المجال العام، وأي تفسير لتجربة "الحديث" في تجلياتها الخاصة، وأي تفسير أيضاً للطبيعة المختلفة لتجربة النساء اللائي يظهرن في الميدان العام؛ ربما، يكون ما نفتقده هو قصيدة تكتبها إمرأة عن مواجهة مع بودلير؟
الهوامش
[1] Catherine Hall, Gender and Class Formation in the Birmingham Middle Class, 1780-1850 , in People s History and Socialist Theory, ed. Raphael Samuel, Routledge & Kegan Paul, London 1981; Leonore Davidoff and Catherine Hall, The Architecture of Public and Private Life: English Middle Class Society in a Provincial Town 1780- 1850 , in The Pursuit of Urban History, ed. D. Fraser and A. Sutcliffe, Edward Arnold, London 1983.
[2] Hillary Land, The Family Wage , Feminist Review 6, 1980; Michèle Barrett and Mary McIntosh, "The Family Wage": Some Problems for Socialists and Feminists , Capital & Class II, 1980. The ideology of separate spheres, and even of the equation of male/public/ rational, has persisted to the present day, its recent sociological expression being found in Parsonian theories of the family. Talcott Parsons, Family Structure and the Socialization of the Child , in Family, Socialization and Interactions Process, Talcott Parsons and Robert F. Bales, Routledge & Kegan Paul, London, 1956.
[3] George Simmel, The Stranger and The Metropolis and Mental Life , in The Sociology of George Simmel, ed. Kurt H. Wolff, The Free Press, New York 1950.
[4] Richard Sennet, The Fall of Public Man, Cambridge University Press, Cambridge, 1974.
[5] Charles Baudelaire, The Painter of Modern Life , in The Painter of Modern Life and Other Essays, trans. and ed. Jonathan Mayne, Phaidon Press, Oxford 1964 (first published 1863). For Baudelaire s other writings on modernity, see below.
[6] Walter Benjamin, Charles Baudelaire: A Lyric Poet in the Era of High Capitalism, New Left Books, London 1973.
[7] Baudelaire, op. cit., p. 13
[8] Marshall Berman, All That is Solid Melts into Air, Verso, London 1983, p. 15.
[9] Simmel, op. cit., pp. 409-10.
[10] Benjamin, for example, argues that conditions in the three cities were significantly different. Benjamin, op. cit., pp. 128-31.
[11] Berman, op. cit., pp. 16-17 and chapter 1.
[12] Malcolm Bradbury and James McFarlane, The Name and Nature of Modernism , in their (ed.) Modernism 1890 – 1930, Penguin, Harmondsworth 1976, p. 36.
[13] For example, Joanna Richardson, translater of Baudelaire s poems, says in her introduction to Baudelaire: Selected Poems (Penguin, Harmondsworth 1975, p. 20): Les fleurs du mal, may not be technically original. The only poem in which Baudelaire really seems to have invented his rhythms is L invitation au voyage . His one revolutionary innovation is in the versification, it is the complete suppression of the auditive caesura in a certain number of lines.
[14] The title of his book, All That is Solid Melts into Air, is a quotation from the Communist Manifesto.
[15] Berman, op. cit., pp. 133- 42.
[16] Charles Baudelaire, The Salon of 1845 , in Art in Paris 1845 – 1862, Phaidon Press, Oxford 1965, pp. 31 – 2. Italics in original.
[17] Charles Baudelaire, The Salon of 1845 , op. cit., pp. 118 – 19.
[18] Berman, op. cit., p. 136.
[19] Baudelaire, 1964, op. cit., p. 11.
[20] Baudelaire, 1964, op. cit., pp. 26 - 9.
[21] Baudelaire, 1964, op. cit., p. 9.
[22] Benjamin, op. cit., p. 36.
[23] Benjamin, op. cit., p. 40 and 170. However, elsewhere Benjamine argues that Baudelaire is not the archetypical flâneur. Benjamin, op. cit., p. 69.
[24] Benjamin, op. cit., p. 49, 128, 47.
[25] Berman, op. cit., p. 150 - 5.
[26] Charles Baudelaire, Petits Poèmes en Prose (Le Spleen de Paris), Garnier – Flammarion, Paris 1967, p. 33.
[27] Simmel, op. cit., p. 402.
[28] Simmel, op. cit., p. 402.
[29] Sennet, op. cit., p. 86.
[30] Sennet, op. cit., pp. 125, 213.
[31] Sennet, op. cit., p. 217. However, there were exceptions to this. See Robert Thorne, Places of Refreshment in the Nineteenth – Century City , in Buildings and Society, ed. Anthony D. King, Routledge & Kegan Paul, London 1980.
[32] Sennet, op. cit., pp. 68 and 166. In these references to Sennet s book, I am again considering fairly uncritically (from any other point of view) a text on modernity. For a critical review of his use of evidence, his historical method, and his sociological explanation for the changes in manners, see Sheldon Wolin, The Rise of Private Man , New York Reviews of Books, 14 April 1977.
[33] David Frisby, Sociological Impressionism. A Reassessment of George Simmel s Social Theory, Heinemann, London 1981, pp. 15, 17, 27, 139.
[34] Frisby, op. cit., p. 28.
[35] Berman, op. cit., p. 322.
[36] Berman, op. cit., p. 323.
[37] Quoted in Ellen Moers, Literary Women, Anchor Press, New York 1977, p. 12.
[38] Benjamin, op. cit., p. 90; Richardson, op. cit., p. 12.
[39] Benjamin, op. cit., pp. 92 – 3; Charles Baudelaire, Selected Poems, Penguin, Harmondsworth 1975, p. 224.
[40] Baudelaire, 1967, op. cit., p. 185; 1964, op. cit., pp. 34 - 40.
[41] Baudelaire, 1975, op. cit., p. 166; 1967, op. cit., pp. 63 - 5.
[42] Baudelaire, 1975, op. cit., p. 170.
[43] Benjamin, op. cit., p. 45.
[44] Benjamin, op. cit., p. 125; also pp. 118 and 134.
[45] Baudelaire, 1967, op. cit., p. 64.
[46] Benjamin, op. cit., p. 90.
[47] Benjamin, op. cit., p. 93.
[48] Sennet, op. cit., p. 190.
[49] Letter to Apollonie Sabattier, quoted in Richardson, op. cit., p. 14. Italics in original.
[50] Baudelaire, 1964, op. cit., p. 30 - 1.
[51] Maurice Spiers, Victoria Park Manchester University Press, Manchester 1967; Davidoff and Hall, op. cit.
[52] Catherine Hall, The Early Formation of Victorian Domestic Ideology , in Fit Work for Women, ed. Sandra Burman, Croom Helm, London 1979.
[53] Margaret Stacey, The Division of Labour Revisited or Overcoming the Two Adams , in Practice and Progress: British Sociology 1950 – 1980, ed. Philip Abrams et al., Allen & Unwin, London 1981; Sara Delamont, The Sociology of Women, Allen & Unwin, London 1980, chapter 1.
[54] David Morgan, Men, Masculinity and the Process of Sociological Enquiry , in Doing Feminist Research, ed. Helen Roberts, Routledge & Kegan Paul, London 1981, 93.
[55] Sennet does discuss, in passing, some changes in the home – for example, the development of a private form of dress – but his central focus is on the public sphere, and he does not present a systematic account for the private or of the relationship between the two spheres. Sennet, op. cit., pp. 66 - 7.
[56] Eva Gamarnikow and June Purvis, Introduction to The Public and the Private, ed. Eva Gamarnikow et al., Heinemann, London 1983, p. 2.
[57] References to the murder victim, whom I have not discussed, originate in Poe s detective stories, which greatly influenced Baudelaire. Benjamin, op. cit., pp. 42 - 4.
[58] Thorstein Veblen, The Theory of the Leisure Class, Unwin Books, London 1970, p. 126. First published in 1899.
[59] Veblen, op. cit., pp. 126 - 7.
[60] Thorne, op. cit., p. 236.
[61] Davidoff and Hall, op. cit.; Catherine Hall, The Butcher, the Baker, the Candlestick-Master: The Shop and the Family in the Industrial Revolution , in The Changing Experience of Women, ed. Elizabeth Whitelegg et al., Martin Robertson , Oxford 1982.
[62] Leonore Davidoff, Mastered for Life: Servant and Wife in Victorian and Edwardian England , Journal of Social History, vol. 7, no. 4, 1974.
[63] Ivy Pinchbeck, Women Workers and the Industrial Revolution 1750 – 1850, Frank Cass, London 1977. First published in 1930. Sally Alexander, Women s Work in Nineteenth – Century London. A Study of the Years 1820 – 1850 , in The Rights and Wrongs of Women, ed. Juliet Mitchell and Ann Oakley, Penguin, Harmondsworth 1976: also in Whitelegg et al. (eds.) op. cit.