|
التحديث بين الغائية و بين الكيفية
عادل كوننار
الحوار المتمدن-العدد: 5052 - 2016 / 1 / 22 - 16:42
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
على مر تاريخ القرون الوسطى الطويل و الممتد من القرن الرابع الميلادي و حتى القرن الرابع عشر، كان التصور الأساس للوجدود مبنيا على فكرة ثيولوجية تضع الإنسان على الهامش و هي تعتبر الحياة الدنيوية سقوطا و نقصانا و انفصالا عن الأزلي، في موقف كانت الكنيسة أكبر المستفيدين منه، و هو ما عبر عنه القديس أغستين أحد أبرز شخصيات هذا العصر بالقول "إننا نعرف الله لا بالتفكير بل بالإعراض عن التفكير" فكان أن عاش الإنسان حالة من الاستلاب القسري في خضم هذه الإيديولوجيا الثيوقراطية المهيمنة.
و لكي تخرج أوربا من هاته الوضعية، فقد احتاجت لمخاض عسير حتى تصل إلى فكرة محورية الإنسان في الوجود و مركزيته، بما يجعله مقبلا على الحياة لا زاهدا فيها، و بما يمنحه الإمكانية الكافية للتصرف في حياته و في الكون بشكل حر و دونما وصاية من أية جهة، و هي الفكرة التي تم التأسيس لها بداية من عصر النهضة لتزداد ترسخا و تفضي إلى عصر أنوار فتح أمام أوربا عهدا جديدا لحداثة جسدت أرقى ما توصل إليه الجنس البشري على المستوى العلمي و الحضاري.
و أمام هذه التجربة التي شكلت أوربا مختبرا حضاريا لها، وقفت باقي الأمم و من بينها الأمة الإسلامية و العربية بالخصوص، موقفا ملتبسا بين الإنكار و الانبهار، موقف ما يزال صداه يتردد إلى يومنا هذا، و إن كنا قد تجاوزتا بأشواط بعيدة حالة الجرح النرجسي و وصلنا إلى الإقرار أخيرا بحتمية الحداثة و غائيتها التي لا مناص منها، ليبقى إشكالنا اليوم و الذي لا يقل تعقيدا هو الكيفية التي وجب بها أن نسلك درب التحديث.
واقعنا اليوم و كما كان الحال دائما يشهد نزاعا شرسا بين كتلتين، أولاهما محافظة و الثانية حداثية، و صلب النزاع يدور حول سؤال الكيفية الذي يعبر عن قلق خصوصية الهوية و حفظها من النزع و الاستلاب ، أي هل محاكاة الغرب وجب أن تكون في شكل تماه كامل أم تماه مشروط؟ و هل من إمكانية لأن نحاديهم حذو الحذاء للحذاء دونما تماه؟
و هذا ما سيدفعتا للخوض في الإطار الفكري لكل فريق على حدة، فلئن كان فريق المحافظين قد أضحى مقرا بغائية التحديث إلا أن دفاعاته الثقافية ما تزال صامدة، لكون هذه الفئة تعيش دائما على فكرة الحنين إلى الماضي و على قاعدة: لا يمكن أن يكون أحسن مما كان، فتجدهم يعادون كل جديد باسم الدين و يرفضون العلمانية كذلك باسم الدين، رافعين في ذلك شعار "إن الحكم إلا الله" هذا الشعار الذي ظل في أغلب فترات التاريخ الاسلامي إن لم يكن جلها مطية لتسويغ الولاء السلطوي السياسي.
ففيما يخص إطار الحاكمية الإلهية، و في شق المحريمات مثلا، فقد جاءت هذه الأخيرة مضبوطة في القرآن الكريم في 14 تحريم فقط، فيما نجد أن الفقه الإسلامي قد أضاف إليها مئات المحرمات الأخرى، فبحسب مفتي الديار المصرية هنالك ما يناهز المليون و مئتي ألف مسألة فقهية، كل هذا الكم الهائل من المسائل لم تترك للإنسان أي خيار في أدق تفاصيل حياته كالأكل باليمين و الشرب جالسا و الزي الشرعي المفروض عليه، حتى صار هذا الإنسان ك "الربوت" المسير من قبل فقه الفقهاء. مما جعل هذا الإرث الفقهي الثقيل عائقا مهما أمام أية خطوة تتحرى التحديث خارج إطاره المعد و المحصن سلفا.
و إن كان الأمر يبدو صعبا في جهة المحافظين فهو ليس بأقل صعوبة في جهة الحداثيين كذلك، و الذين و إن كان مطلب التحديث عندهم أكبر، إلا أن كيفيته يشوبها في الغالب الكثير من الارتجالية و التقليد و نقص الفهم، ذلك أنهم في خضم حماسهم كثيرا ما يخلطون بين التحديث و بين التغريب، فلئن كان التحديث سيرورة ذاتية تروم التطوير و التجديد بالاستعانة بما تتيحه الحضارة الحديثة من مناهج علمية لم يسبق لها مثيل، فإن التغريب يشكل نفيا للذات و انخراطا في علاقة أحادية بين طرف فاعل و آخر منفعل بما يفضي إلى نزع هوية الطرف المنفعل و استلابها، في منهجية لن تقود سوى إلى طريق مسدود لأنها تعبر عن إلغاء للذات يستحيل أن يمر في أمة تراثية كالأمة العربية.
و أمام هذا الوضع الشديد الحساسية و الذي يشكل و منذ زمن بعيد حالة من الانسداد التاريخي أمام أمتنا، يبدو التحلي بالمرونة ضرورة ملحة من الجانبين للوصول إلى ثقافة حسن تدبير المشترك عبر القطع مع "عقلية القطيعة" التي تتحكم في الجانبين، سواء القطيعة مع التراث من جانب الحداثيين أو القطيعة مع الحضارة الحديثة من جانب المحافظين. و لن يتم كل ذلك إلا بالتحول من موقف دفاعي إلى موقف نقدي بما يمكننا من تجاوز تخلفنا الحضاري و محاكاة العصر بأدوات أكثر ملاءمة و أكثر نجاعة.
#عادل_كوننار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في التضامن، في اللا تضامن و في ما يمكن أن يكون بينهما
-
في الحب و في بعض من ملابساته
-
الإنسان بين حب البقاء و الرغبة في التميز
-
الواقع و المثال، أية علاقة؟
-
رمضان بين العادة و العبادة
المزيد.....
-
بعد ارتفاع أسهم تسلا عقب الانتخابات الأمريكية.. كم تبلغ ثروة
...
-
وزير الخارجية الفرنسي: لا خطوط حمراء فيما يتعلق بدعم أوكراني
...
-
سلسلة غارات عنيفة على الضاحية الجنوبية لبيروت (فيديو)
-
هل تعود -صفقة القرن- إلى الواجهة مع رجوع دونالد ترامب إلى ال
...
-
المسيلة في -تيزي وزو-.. قرية أمازيغية تحصد لقب الأجمل والأنظ
...
-
اختفاء إسرائيلي من -حاباد- في الإمارات وأصابع الاتهام تتجه ن
...
-
أكسيوس: ترامب كان يعتقد أن معظم الرهائن الإسرائيليين في غزة
...
-
بوتين يوقع مرسوما يعفي المشاركين في العملية العسكرية الخاصة
...
-
-القسام- تعرض مشاهد استهدافها لمنزل تحصنت فيه قوة إسرائيلية
...
-
للمرة الأولى... روسيا تطلق صاروخ -أوريشنيك- فرط صوتي على أوك
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|