|
هم لا فرانسيسكو ريدي
محمد رفعت الدومي
الحوار المتمدن-العدد: 5042 - 2016 / 1 / 12 - 03:29
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
برغم أنهم سبقوا العالم الإيطالي إلي اكتشاف خطأ نظرية التولد الذاتي، وبالتالي، قد انتبهوا إلي أن الذبابة الزرقاء "Calliphora vicina" أو "Blue bottle fly" هي المتهم الأول بالمسئولية عن تحلل أجساد الموتي، إلا أن هذا الاكتشاف نُسِبَ إلي مؤسس علم الأحياء التجريبي "فرانسيسكو ريدي"، هذا كان شاعرًا أيضًا، وهو أول من أثبت بالدليل الذي لا يقبل القسمة علي اثنين أن ديدان المقابر لا تطرأ ذاتيًا إنما من بيض الذباب..
وحتي الآن، ما زال سكان مصر الأصليون، يعتقدون أن ذبابة زرقاء تحوم في البيت قبل مرور أربعين يومًا من وفاة أحدهم، وفي أي وقت، هذا يعني أن روح ميت جاءت البيت زائرة، وعلي هذه الخلفية، كانوا ينظرون إليها بما يشبه الشغف، ويحدث أن تمتصهم الذكريات أحياناً، وأن تدمع أعينهم حيناً! غير أن هذا الاعتقاد السائد لم يكن يحظي باحترام الذين حصلوا علي قدر من التعليم يكفي ليجعلهم يضعونه في حيز الأسطورة، وهو في الحقيقة إلي الأسطورة أقرب لولا أن رمزيته تتماهي بشكل كبير مع حقيقة علمية مثيرة، ومما يعمق رمزيته وعيهم التام بدورة حياة هذه الحشرة، وهي أقل من أربعين يومًا..
لقد عرفوا بطريقة ما أن أسراب الذباب الأزرق تهتدي إلي جثث موتاهم، ولهذا، ربما، يصفون السنين العجاف بـ "سنين زرقا"، ويصفون ذائعي الصيت بالخبث فيهم بـ "الفِتل الزرقا"!
إنها واحدة من الحقائق التي تجعل المرء يشهق من فرط الدهشة، كيف عرفوا أن الذبابة الزرقاء بواسطة قرون الاستشعار تستطيع أن تشم رائحة الجثث الطازجة عن بعد خمسة كيلو مترات، وأن تصل إلي مخابئها في غضون دقائق قليلة، ثم تضع بيضها حول فتحات خروج السوائل والغازات: الأفواه والجيوب الأنفية، فلا تمر ستة أشهر حتي يكون الدود قد التهم الجسد كاملاً، خلال هذه المدة تكون دورة حياة هذه الحشرة قد اكتملت تمامًا، لتكرر الدورة على جثة أخرى، ولربما، قد توصلوا إلي هذا الاعتقاد من ملاحظاتهم التراكمية حول مراحل صناعة السمك المملح، أو ما يعرف بـ "الفسيخ"، ذلك أن مفردة "التحلل" قريبة المعني جدًا من مفردة "التفسخ"، ربما ..
بمرور الوقت، بهدف المبالغة في تهديد أحدهم بإخفاء جثته في أبعد مكان عن العالم، أذابوا هذا الاعتقاد في تعبير شهير: "الدبان الازرق ما يعرفلوش طريق جرة"!
وهذه فرصة مناسبة لنتفهم لماذا بالغ المصريون القدماء في إخفاء جثث موتاهم داخل طبقات كثيرة من الكتان الصلب، ولماذا كانوا يحرصون أثناء عملية التحنيط علي إخراج مخ الميت وتفريغ جسده من السوائل والغازات، ووضع الملح في كل بقعة بإسراف شديد، والقطران أيضًا، كأنهم انتبهوا إلي امتلاك الأخير بعض خصائص المبيدات الحشرية، ما يجعل من الواضح جدًا أنهم كانوا المصدر الذي أخذ عنه العرب اختيارهم الأول لعلاج الجرب، وثمة حادثة تاريخية مشهورة تؤكد استخدام العرب القطران للتداوي، ذلك أن الشاعر الفارس "دريد بن الصمة" رأي الشاعرة "الخنساء" لأول مرة فأحبها عندما كانت متخففة من ملابسها تدهن جملاً أجربًا بالقطران، وخلد هذه اللحظة في أبيات منها: ما إن رأيت ولا سمعت به / كاليوم طالي أينق جرب
متبذلاً تبدو محاسنه / يضعُ الهناءَ مواضع النقب..
من الواضح أيضًا أن العرب أخذوا عنهم كذلك أفكارهم السابقة عن الذباب الأزرق فلقبوا "عبد الملك بن مروان": "أبو الذبّان" لشدة نتن رائحة فمه، وهذه مقاربة تاريخية تكشف وعيهم المستعار من جيرانهم بالعلاقة بين ذباب المقابر والجثث، وإن كنتَ مثلي لا تثق في كل روايات العصر العباسي عن الأمويين لشهرة كتاب ذلك العصر باختلاق الكثير من الروايات بهدف استرضاء العباسين، فأنت، مثلي، أمام واحدة من الروايات التي لا تغير احتمالية عدم صدقها من الأمر شيئاً!
ولوعي العرب المستعار بهذه العلاقة جذور أكثر عمقاً يفضحها اسم "عنترة بن شداد"، فـ "عنترة" تعني "الذباب الأزرق"، وهذه المعلومة كافية بالقدر الذي يلهمني الشك في أن يكون "عنترة" اسمًا اختاره له أبوه، إنما اكتسبه بعد أن ذاع صيته، كأنهم أرادوا أن يشبهوا قدرته علي القتل بقدرة الذباب الأزرق علي اكتشاف الجثث النافقة، فلا أعتقد أن أباه تنبأ بمستقبله وليدًا، مع ذلك، ثمة بيت من معلقته يدل علي أن الذباب الأزرق كان شائعًا في مجتمعاتهم إلي حد دفع أباه أن يختاره اسمًا له، وبنفس القدر، دفع "عنترة" أن يقول: فترى الذبابَ بها يغني وحده / هزجًا كفعل الشارب المترنم غردًا يحكُّ ذراعَه بذراعِه / فعلَ المُكبِّ على الزنادِ الأجذم
صورة البيت الأخير لا يفهمها إلا من رأي ذبابة عن قرب تحك جناحيها، لقد رسمها "عنترة" في صورة رجل مبتور الذراعين يشعل نارًا، لكن، علي ضوء ما سبق، من المدهش أن يربط "عنترة" بين الذباب والغناء ونشوة الخمر إلا إذا افترضنا أنه كان يري الموت جميلاً ووديعًا! محمد رفعت الدومي
#محمد_رفعت_الدومي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في فيروز، قوقعتي !
-
نجَّار القرن
-
من الذي لا تخجله الكتابة عن نهاية شيخ الصيادين؟
-
الكنديون الجدد
-
لفيف
-
لاستعادة المصريين العالقين في ستوكهولم
-
فكري أباظة : حياته من حكاياته (2)
-
عدالة داعش وعنصرية العالم
-
آية الله أبو الطين
-
مطلوب خياطة
-
عفريت (1)
-
بنات كلب
-
للَّه أمُّكِ جومانا
-
تليفزيون الواقع
-
عادوا
-
حتي يراقَ علي جوانبه الدمُ
-
ديوان الجنوب
-
موكب البابوات
-
معابر الخراب
-
مسمار كاسترو الأخير
المزيد.....
-
-لا خطوط حمراء-.. فرنسا تسمح لأوكرانيا بإطلاق صواريخها بعيدة
...
-
الإمارات ترسل 4 قوافل جديدة من المساعدات إلى غزة
-
الأمين العام لحلف شمال الأطلسي روته يلتقي الرئيس المنتخب ترا
...
-
رداً على -تهديدات إسرائيلية-.. الخارجية العراقية توجه رسالة
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة في لبنان؟
-
زيلينسكي: الحرب مع روسيا قد تنتهي في هذا الموعد وأنتظر مقترح
...
-
الإمارات.. بيان من وزارة الداخلية بعد إعلان مكتب نتنياهو فقد
...
-
طهران: نخصب اليورانيوم بنسبة 60% وزدنا السرعة والقدرة
-
موسكو.. اللبنانيون يحيون ذكرى الاستقلال
-
بيان رباعي يرحب بقرار الوكالة الذرية بشأن إيران
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|