أكثر من عام على حكومة الائتلاف اليميني: الشعب التونسي بين مطرقة الاستبداد الديمقراطي وسندان الأخونة الناعمة
محمد الحباسي
2015 / 12 / 30 - 00:36
مرت أكثر من سنة على تشكل حكومة الائتلاف اليميني في تونس، وهي أول حكومة دائمة لتونس ما بعد الثورة،والتي أفرزتها نتائج الانتخابات التشريعة التي أجريت في26 اكتوبر 2014. ويقود هذا الائتلاف الحكومي حزبي نداء تونس الليبرالي "الحداثي" وحزب حركة النهضة الليبرالي المحافظ. وتأتي في ظل ظرفية تاريخية أهم الأوليات المطروحة فيها هي عملية تنزيل الدستور في تشريعات وتركيز المؤسسات المتفرعة عنه. وهي المرحلة الأخيرة من مسار الانتقال الديمقراطي الذي ينضوي في إطار أشمل هو المسار الثوري الذي انطلق في 17 ديسمبر2010. وتحف بهذه العملية صعوبات ورهانات شتى أبرزها المناخ الاجتماعي والأمني حيث تواجه حكومة الحبيب الصيد المشاكل العالقة التي قامت من أجلها الثورة وعلى رأسها البطالة والتهميش والتفاوت الجهوي والتي لاتزال قائمة بتواصل اعتماد نفس منوال التنمية الليبرالي الذي أنتجها من جهة، بالإضافة إلى معطى خاص بمرحلة ما بعد الثورة-وان كانت أسبابه العميقة مرتبطة بالخيارات الهيكلية لمنوال التنمية المنتهج قبل وبعد الثورة- وهو تنامي ظاهرة الارهاب كميا ونوعيا حيث تصاعدت وتيرته خاصة في الفترة الاخيرة متخذا أبشع تجلياته في عمليتي نحر الراعي وتفجير حافلة كانت تقل عدد من أعوان الأمن الرئاسي وهو ما أودى إلى استشهاد 12 منهم وإصابة آخرين بجروح وأضرار متفاوتة الخطورة. والمتابع عن كثب لحصيلة عمل هذا الائتلاف يستوقفه ظاهرتين تعملان بشكل تكاملي وتفاعلي الأولى تتم من فوق متخذة من الترسانة التشريعية التي يتم إصدارها أداة لها والأخرى تجري من الأسفل حيث مجال اشتغالها هو النسيج المجتمعي والقاعدة الجماهيرية الواسعة. العملية الأولى يمكن أن نطلق عليها اسم الاستبداد الديمقراطي و توظيف الأغلبية الانتخابية من أجل الالتفاف على الدستور ومضامينه الديمقراطية. والثانية يمكن أن نطلق عليها عملية الأخونة الناعمة للمجتمع.
الاستبداد الديمقراطي أو عملية الإطباق على المجتمع من الأعلى:
من المعلوم أن المرحلة الحالية التي تمر بها تونس ما بعد الثورة هي مرحلة بناء النظام الديمقراطي بعد الانتهاء من وضع أسس النظام الجديد بصدور دستور 27 جانفي 2014. ويشترط في البناء القانوني والمؤسساتي أن يكون وفيا ومنسجما مع الخيارات التأسيسية التي تواضع عليها أغلب مكونات الطيف السياسي والمدني في تونس بعد أن تم تعديل مخرجات الشرعية الانتخابية، ونعني بذلك تصور الترويكا للدستور المعبر عنه في المسودات التي سبقت النسخة النهائية، بشرعية توافقية كانت تستند إلى المشروعية الثورية وانحراف الترويكا عن مضمون هته المشروعية لتفرض الرجوع إلى أهداف الثورة التي تم التنكر لها لفائدة تصور استبدادي قروسطي يتغذى من شعارات الخصوصية والهوية. وكان لقوى المجتمع السياسي والمدني الثورية والديمقراطية دور حاسم في تعديل موازين القوى والخروج بدستور يحضى بتوافق واسع ويستوعب أهم مقومات النظام الديمقراطي كقيم الدولة المدنية والمواطنة والنظام الجمهوري والمساواة ومبدأ الفصل بين السلطات إضافة إلى الأخذ بمنمظومة الحقوق والحريات في شموليتها وان لم يتم تكريس مبدأـ كونية حقوق الإنسان بشكل صريح.
ولكن المتتبع للعمل التشريعي في ظل السلطة الحالية يلاحظ احتدام التوتر والقطيعة بين الأغلبية والمعارضة ومرد ذلك تمسك ائتلاف النهضة النداء ومن معهم بأسلوب واحد في التعاطي مع القضايا الكبرى المطروحة على جدول أعمال المجلس. هذا الأسلوب يتمثل في الاحتكام إلى الأغلبية العددية في سن القوانين حتى وان كان ذلك يتم على حساب التنكر لمقتضيات الدستور وروحه. هذا الأسلوب في الحكم يسمى بالاستبداد الديمقراطي فهو استبداد لأنه يفرز قوانين وتشريعات تتعارض مع الدستور وهو في نفس الوقت ديمقراطي لأنه يحتكم إلى منطق الأغلبية الحاكمة في التصويت بشكل يفضي إلى الالتفاف على الدستور وإفراغه من محتواه عبر آلية التشريع المحتكمة إلى فهم وتأويل الأغلبية فهم يتم غالبا على حساب القيم الديمقراطية المكرسة في الدستور ولغاية تحقيق المصالح الضيقة التي يعبر عنها الحزبين الأغلبيين في البرلمان ومن يشاركهم في الحكم. وبعبارة أخرى يتم الأخذ بالأسلوب الديمقراطي من أجل أهداف غير ديمقراطية وكأن الأداة الديمقراطية غاية في حدا ذاتها بدل أن تكون وسيلة لتحقيق الهدف الديمقراطي ، وكأن الديمقراطية مجرد عملية شكلية وليست قبل كل شيء ثقافة ومضمون. انه الأسلوب الليبرالي في الديمقراطية الذي يحول هته الأخيرة إلى أداة شكلية لخدمة مصالح الأقلية الحاكمة المهيمنة على المجالس التمثيلية بقوة المال والإعلام . ما نشهده اليوم هو المرور من الاستبداد بالقوة او الاستبداد البوليسي إلى استبداد ناعم يتم بشكل ديمقراطي ، هو الانتقال من ديكتاتورية الحزب الواحد غالى ديكتاتورية الأغلبية الانتخابية العددية.
وقد تجلى هذا الأسلوب في كل محطة من محطات المسار التشريعي فالكل يتذكر تعاطي الأغلبية في مجلس نواب الشعب مع القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء والذي أرادت من خلاله الأغلبية أن تجعل من القضاء مجرد مرفق خاضع وتابع للسلطة التنفيذية والحال أن الدستور كان واضحا في اعتبار القضاء سلطة مستقلة تسهر على سمو الدستور وضمان الحقوق والحريات.
أما المناسبة الثانية التي انتهجب فيها الأغلبية ذات الأسلوب فقد برزت خاصة من خلال التنكر للخيارات الدستورية المؤكدة على ضرورة بناء نظام ديمقراطي يقطع مع الاستبداد والفساد وتقديم مشروع قانون بشأن المصالحة المالية ينسف مسار العدالة الانتقالية ويفتح الباب على مصراعيه لعودة الفساد من خلال اجراء مصالحة دون المرور بمرحلتي المكاشفة والمحاسبة. وهو نفس التمشي الذي تم توخيه عند المصادقة على مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية؛ فرغم حساسية هته المؤسسة بالنظر الى مكانتها الهامة كمؤسسة تعديلية تسهر على مطابقة القوانين للدستور وتلاؤمها مع مقاصده وفلسفته إلا أن الأغلبية الحاكمة أصرت على تمرير وجهة نظرها والضرب عرض الحائط بمقترحات المعارضة وقوى المجتمع المدني والحال أن هته المؤسسة بالذات كان من المفروض أن تكون موضوع أوسع قدر ممكن من التوافق بالنظر إلى دورها الحيوي والاستراتيجي في عملية البناء القانوني والمؤسساتي. وربما يكون ما أبدته الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين من حرص على ضمان علوية الدستور هو مبعث تخوف الأغلبية الحاكمة من القضاء الدستوري ودوره التعديلي. فقد تمسكت الهيئة بموقفها القاضي بعدم دستورية مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء في صيغته الأولى( قرار الهيئة يوم 8 جوان 2015) والثانية (قرار الهيئة يوم 23ديسمبر 2013) كما قضت بعدم دستورية عدة فصول من مشروع قانون المالية 2016.
أما بخصوص القوانين ذات البعد الاقتصادي المباشر فحدث ولا حرج، فقد كان الاحتكام إلى منطق الأغلبية هو المعيار الأوحد والحاسم في تعامل الأغلبية داخل مجلس نواب الشعب إذ تمت المصادقة على قانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام بسرعة قصوى دون أخذ بعين الاعتبار لموقف المعارضة المندد بتداعيات هذا القانون الخطيرة على بنية الاقتصاد التونسي الهشة والضعيفة.
وقد مثلت المصادقة على قانون الميزانية المنعرج الحاسم في النزعة الهيمنية لأحزاب الأغلبية مما اضطر المعارضة إلى الانسحاب من جلسة المصادقة على فصول القانون خاصة عندما طفح الكيل بهم وتجرأ نواب كتلة نداء تونس على تضمين مشروع القانون بنود واردة في مشروع قانون المصالحة الذي تم تأجيل عرضه على مداولات مجلس نواب الشعب تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية ضده فالتجأت كتلة النداء، وبتواطىء نواب كتلة حركة النهضة، إلى الحيلة حيث وقع ترحيل جزء منه،هو الأخطر والمتعلق بالعفو على جرائم الصرف، الى مشروع قانون المالية إضافة غالى تضمن هذا الأخير لعدة بنود تفتح الباب واسعا أمام الغش والتهرب الجبائيين على غرار الفضل 56 منه. وقد تقدم نواب المعارضة وهم 31 نائبا (نواب كل من الجبهة الشعبية، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الحزب الجمهوري والتيار الديمقراطي) بطعن في دستورية بعض أحكام هذا القانون (الفصول 46،59،60،64 و84) أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين التي أنصفت المعارضة وقضت بعدم دستورية هته الفصول وهو ما يشكل حجة دامغة على إصرار الأغلبية على تمرير القوانين التي تخدم مصالحها غير عابئة بمخالفتها للدستور مما يبين أن هته الأغلبية التي تتمسك بموجب أو دونه بالشرعية الانتخابية هي بعيدة كل البعد عن احترام المشروعية الديمقراطية والدستورية. وقد اعتبرت المعارضة وتحديدا نواب الجبهة الشعبية أن مشروع قانون المالية جاء في أغلبه خدمة لمصالح الأقلية التي تدافع عنها الأغلبية الانتخابية داخل مجلس نواب الشعب وأن الأغلبية الحقيقية للشعب لا مصلحة لها في هذا القانون كما اعتبر نواب المعارضة أن انسحابهم من البرلمان أثناء المصادقة على مشروع قانون المالية هو تعبير عن أن الخلاف لم يكن يتمحور حول مجرد وجهات نظر في التصورات والرؤى بل أن ما الفاض الكأس وجعلها تنسحب هو استعمال الأغلبية العددية للدوس على المبادئ الدستورية والتنكر للمقومات الدنيا للعقد الاجتماعي التي لا تخضع للمساومة ومنطق الأغلبية والأقلية.
مشروع الاخونة الناعمة متواصل:
بالإضافة إلى دكتاتورية الأغلبية التي طبعت تجربة الائتلاف اليميني الحاكم فان ما يلاحظ بوضوح أيضا هو مواصلة احد مكونات هذا الرباعي وهو حركة النهضة لسياسة اختراق المجتمع وتوظيف الدين والمال الفاسد للهيمنة على كل الفضاءات الاجتماعية والثقافية واستغلال محدودية الوعي السياسي للقاعدة الجماهيرية العريضة من أجل اجتذابها إلى مشروع فكري وسياسي يعمق اغترابها وتخلفها ويجعل منها احتياطيا في خدمة مشروع يعادي مصالحها الاقتصادية والاجتماعية . ويجدر التذكير هنا أن فترة حكم الترويكا وتولي حركة النهضىة زمام السلطة تزامن مع انقضاض هته الأخيرة على كل مؤسسات الدولة ومحاولة أخونة مراكز النفوذ فيها عبر السيطرة على مؤسساتها وهياكلها بالإضافة إلى عملية تدجين المجتمع ومحاولة تغيير نمطه المجتمعي تطبيقا لنظرية التمكين والتدافع الاجتماعي. إعمال نظرية التمكين من أعلى عبر استغلال امتيازات الحكم وتطبيق نظرية التدافع الاجتماعي من الأسفل عبر السعي الدؤوب إلى أخونة المجتمع وتغيير قيمه الفكرية والثقافية عبر جحافل الجمعيات الخيرية التي اخترقت النسيج المجتمعي وجيوش الأئمة الذين حولوا المساجد إلى منابر لشيطنة خصوم حركة النهضة السياسيين وعلى رأسهم اليساريين والديمقراطيين. وقد أدى تفاعل جملة من العوامل الداخلية أبرزها الحصيلة الكارثية لفترة حكم الترويكا ( تركز الإرهاب وتوسع مجاله ، اعتداءات على المظاهرات والتجمعات من قبل عناصر فاشستية تتقاطع مع حركة النهضة على المستوى الاستراتيجي،تعنيف، اغتيالات) والدولية ( إسقاط الإخوان في مصر وتولي العسكر زمام الأمور) الى إفشال هته المساعي أو على الأقل تأجيلها وهو ما فرض على حزب الشيخ المناور تغيير التكتيك المرحلي وإعادة ترتيب الأولويات بما يتماشى والظرف المحلي والمعطيات الإقليمية والدولية المستجدة فقبلت التحالف مع خصمها نداء تونس الذي كانت تشيطنه بالأمس القريب وهو الذي أسس بدوره حملته الانتخابية على إبراز تناقضه راديكاليا مع حركة النهضة. بل أن النهضة سعت جاهدة إلى هذا التحالف وقدمت نفسها في وجه الحزب الوطني المسؤول الباحث عن الوحدة الوطنية التي تعلو مصلحته الحزبية الضيقة. ولا يمكن فهم التغير الجذري لتكتيك حركة النهضة إلا على ضوء قراءة تاريخ سياسة هته الحركة وهو تاريخ المناورة والمكيافلية التي جعلت هذا الحزب يقبل بدور الشريك الرقيب في الحكم والمستعد لتقديم كل التنازلات مقابل طي صفحة تجربة حكمه السوداء دون مساءلة وفي المقابل تم تغيير الأولويات بالتركيز على عملية الانغراس والتوسع وسط القاعدة الجماهيرية عبر توظيف المساجد والهيمنة على مؤسسات المجتمع المدني ذات التأثير الفاعل صلب المجتمع مع العمل من فوق على إضعاف حليفها الرئيسي وهو حزب نداء تونس باختراقه وزرع بذور الانشقاق داخله كل ذلك من أجل تهيئة المناخ السياسي العام لإعادة الانقضاض على الحكم في الوقت المناسب ومواصلة تركيز مقومات المشروع الاستبدادي المتغلف بالدين. هذا التكتيك هو الذي يفسر دفاع النهضة المستميت على أبقاء ائمتها في المساجد والضغط على رئيس الحكومة من أجل مراجعة قرارات العزل التي شرع فيها وزير الشؤون الدينية الذي يتعرض إلى حملة واسعة من التشويه لأنه تجاوز الخطوط الحمراء وأضر بما تعتبره حركة النهضة السلاح الأنجع في سياستها التعبوية. وهو نفس التكتيك الذي يفسر كثرة عدد الجمعيات الخيرية التابعة لحركة النهضة والتي تستعملها لاستمالة الفئات المفقرة والمهمشة واستغلال سوء أوضاعها الاجتماعية من أجل شراء ذمم أفرادها وتحويلهم إلى احتياطي انتخابي يوظف لفائدتها في قادم المناسبات الانتخابية. وقد تعدى الأمر المنظمات الاجتماعية والأهلية ليصل إلى محاولة أسلمة الاقتصاد من خلال نظام الصيرفة الاسلامية وهو نظام مالي لا يختلف من حيث كنهه وآثاره على النظام المالي الليبرالي ولكن بإضافة مسحة دينية تجعل القبول به أكثر استساغة نظرا لما لهته المسحة الدينية من تأثير على العواطف الدينية البسيطة للأغلبية من للتونسيين إلى حد جعل بعض المختصين يعتبره بمثابة نظام مالي يشرع للاستعمار "الحلال" .
بين هذين المشروعين يبقى الشعب التونسي هو المتضرر الأكبر وهو الذي قام بثورة أراد من خلالها تركيز نظام جديد يقطع مع القديم ويحقق له انتظاراته في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهو الأمر الذي عجزت عنه القوى اليمينية التي جربها في أكثر من مرة وبأكثر من شكل وهاهي كل الأحزاب اليمينية مجتمعة في الحكم ولم يتغير شي نحو الأفضل بل أن الأزمة لا تنفك تتوسع لتطال فئات وقطاعات جديدة لتؤكد التجربة وهي خير معلم أن الديمقراطية الحقيقية هي ديمقراطية المضامين وليست ديمقراطية الشكل وأن الشرعية الحقيقية هي شرعية الأداء لا شرعية العدد ولكن بالإضافة إلى هته الخبرة التي يكتسبها الشعب من اختياراته السابقة تبقى مسؤولية تقديم البديل ملقاة على القوى الثورية التي عليها أن تكون في مستوى ما يتيحه لها الواقع الموضوعي من فرصة ملائمة لقيادة الشعب في تحقيق أهداف ثورته.