النخلة بين الدين والأسطورة، الجزء الأول
سلام عبود
2015 / 12 / 12 - 11:06
1
ذو النخلة (صلـّى الله عليه وسلـّم)
النخلة شجرة مثمرة، معروفة، أنثوية التسمية، لا مذكر لها، حالها كحال كلمة رجل الذكورية، التي لا مؤنث لها. يقال ذكر النخل أو فحل النخل، لما هو مذكر منها. جمعها نخل ونخيل، وقد يأتي الجمع بصيغة المؤنث السالم أيضا.
يصف صاحب (لسان العرب) مراتب وأطوار نمو ثمرة النخل، قائلا: "أوّله طلع ثم خـَلال ثم بلح ثم بُسر ثم رطب ثم تمر".
والنخلة أنواع، أشهرها نخلة التمر، التي يقال إنها ظهرت في "عصر انقراض الديناصور"، قبل ثمانين مليون عام.
حب العرب للنخلة، وأهميتها الغذائية والطبية والاقتصادية والتقديسية، جعلها تكون مادة للتأليف والبحث، منذ وقت مبكر من عمر نهوض الثقافة العربية- الاسلامية، الى الحد الذي رأينا كاتبا متأخرا، مثل كمال الدين الدميري، صاحب كتاب (حياة الحيوان الكبرى) (1341م) يقرّبها، في خصائصها الحيوية والتشريحية، من الحيوان. فهي ذات جذع، لها ذكر وأنثى، تثمر بالتلقيح، تموت بقطع رأسها، لا تعوض سعفها، ليفها شعري الملمس.
تشترك النصوص التلمودية والإسلامية في أمر هام يتعلق بالنخلة، مفاده أن التمر مادة غذائية ودوائية في الوقت نفسه. فهو يشفي من بعض الأمراض كعسر الهضم، ويجعل الجسم متينا نضيرا. يضيف المسلمون الى هذا الوقايةََ من السموم وأمراض النفاس، وحتى مقاومة السحر. وللبخاري حديث نبوي يقول: " من تصبّح بسبع تمرات، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر". وأورد لسان العرب: " إن في عجوة العالية ترياقا". والترياق ما يستخدم لدفع السم، ( دواء مضاء للسموم). أما وجودها في مائدة الإفطار، فقد أضحى جزءا من تقاليد شهر رمضان، لأسباب ثلاثة: الفائدة الغذائية والتقديسية والعلاجية.
وفي حديث نبوي، يخص المرأة النفساء، أكسب الرسول محمد التمر كرامة خاصة في مجال تربية الطفل الصحيّة والروحيّة، لأنه كان أصل غذاء نبي الله، "ذو النخلة"، وليد مريم البتول.
قِدمُ عمر النخلة، وتعدد مزاياها، في بلاد الرافدين وما جاورها وشمال إفريقية، ربط اسمها بالحكايات والأساطير وبالشعائر والمرويات الدينية. فهي موجودة في ثقافة الديانات التوحيدة الأربع (يصر الدارسون على جعلها ثلاثا، باخراج الصابئية منها)، في الصابئية (المندائية)، وفي أسفار التوراة والإنجيل والقرآن. تأتي النخلة في أسفار العهد القديم بصور متنوعة، في صيغة المفرد والجمع، وتأتي بمعنى شجرة التمر المعروفة، وصفة " مدينة النخل" أي أريحا، و"نخلة دبورة"، النخلة التي اعتادت النبية وأشهر القضاة الجلوس قربها للحكم. وقد تأتي في صيغة ثمر، كاسم مكان: تامارا(مدينة أمورية)، وبعل تامارا، وحصون تامارا. ولا نعدم أن نجد بعض مكونات النخل الدقيقة، كما جاء في سفر حزقيال 2:6 "لأنهم قريس، وسلاّء لديك". والسلاء شوك النخل، واحدتها سُلاّءة. لما تزل هذه الكلمة مستخدمة في العامية العراقية، وتنطق"سلاّية"، ومنها المثل الشعبي:"بالوجه مراية وبالقفا سلاّية". واستخدمت النخلة في العهد القديم كناية عن أجمل الصفات البشرية: الشخص المؤتمن والصديق الصدوق. وتختزن هذه الألفة اللغوية العجيبة أسمى درجات العلاقة الأخلاقية بين النبات والإنسان. نستطيع أن نمضي أبعد من هذا فنقول إن كلمة "بعل" (أشهر الآلهة الكنعانية، عبد في بلاد الشام والجزيرة العربية وشمال افريقية. يوجد معبده الكبير في تدمر السورية. من وظائفه الرئيسية الخصوبة وإنزال المطر) تطلق على نوع خاص جدا من النخل. وهي النخلة التي لا تروى بماء السقي أو المطر، والتي تكتفي بالمياه الجوفية، تمتصها عبر جذرها الطويل. ومنها قيل الزراعة البعلية. وقد وردت الكلمة في كتاب للرسول محمد. ونجد النخلة ماثلة في شريعة حمورابي (1760 ق.م)، في المادة 237 في كلمة "تمر"، وفي المواد 59 و60 و62 و63 و54 و65 من الترجمات العربية، التي تحل محلها كلمة "شجرة" في الترجمات الأخرى. ووجدت في نقوش السومريين والآشوريين والبابليين، وارتبطت بأشهر آلهتهم عشتار. وهي موجودة في الطقوس المصرية القديمة، وفي عبادات الفينيقيين ورموزهم العليا: عشتروت.
ظهرت علامات تقديس النخلة في وقت مبكر من عمر الحضارات. بيد أن أقدم مكان وزمان وجدت فيه النخلة، على ضوء ما تناقلته المرويات الشعبية، هو الجنة الأولى، في لحظة خلق آدم. يقال إن الله أمر أن يؤخذ بعض التراب، لكي يُصنع منه جسد آدم، فتمّ وضعه في غربال لنخله ناعما ثم عجنه. أما ما بقي في الغربال من النخالة فقد خلقت منه النخلة. وليس خافيا على أحد أن هذه الرواية نُسجت من طريق الربط بين كلمة نخل (الشجر) وبين الفعل "نـَخـَلَ". أما جذر الرواية الإخباري فنجده في الحديث النبوي:" اكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم". وبصرف النظر عن قوة أو ضعف هذا الحديث، إلا أن وجوده ضمن المرويات الإسلامية والعربية جزء من ثقافة زمن روايته. لهذا السبب يقول ابن فارس القزويني، صاحب (مقاييس اللغة) (1004م.)، إن كلمة نخلة أخذت من الفعل "نـَخـَلَ". وهذا تفسير لغوي يطابق الحكاية الأسطورية المتعلقة بخلق النخلة. فقد سمي نخلا لأنه "أشرف كل شجر ذي ساق واحدة".
وفي حديث نبوي آخر جاء: "العجوة من الجنة"، كما ورد في (لسان العرب).
يلخّص محي الدين بن عربي، في (الفتوحات المكية) قصة خلق النخلة قائلا:" وفضلت من خميرة طينته (آدم) فضلة، خلق منها النخلة، فهي أخت لآدم عليه السلام، وهي لنا عمّة، وسماها الشرع عمّة، وشبهها بالمؤمن، ولها أسرار عجيبة دون أسرار النبات". ويلاحظ هنا تطابق الوصف البلاغي بين ما ذكره ابن عربي وبين ما جاء في أسفار العهد القديم من تشبيه للنخلة بالمؤمن.
اقتران النخيل بالأعناب، واقترانهما معا بالجنة، ظاهرة تعبيرية لافتة في النص القرآني، جديرة بالمراقبة. ولا تشمل هذه الظاهرة كل تسميات النخلة، بل انحصرت غالبا في جمع الكثرة "النخيل"، ربما لأنه جمع جمع، يوحي بمظهر الكثرة الكاثرة. وما هو أكثر غرابة من هذا أن المادتين، اللتين يصنع منهما الخمر لدى العرب، تلازمتا حتى في القرآن، ليس كفاكهة خالصة حسب، بل كمادة مسكرة. فمن المفارقات غير القابلة للتفسير أن تكون جلّ الآيات التي حوت كلمة "نخيل" مصاحبة للجنة والأعناب. بعض الآيات مثير في درجة التباسه، مثل نص سورة النحل، الآية 67: "ومن ثمرات النخل والأعناب تتخذون منه سَكـَرا ورزقا حسنا". أربكت كلمة "سكرا" الشراح المسلمين، فاضطربوا في تأويلها، فقيل في تفسير الطبري: السكر الشراب عامة، وقيل إن السكر هو المحرم والرزق هو الحلال. وقيل أيضا: إن هذا النص سابق للتحريم، وإن الآية منسوخة، نسخت بالتحريم. وكلنا نعرف أن تحريم الخمر كان تدرّجيّا. وقد أورد هذا الرأي كثيرون للتخلص من الاحراج الذي تسببه عبارة "تتخذون منه". فحتى لو كان انتباذ التمر عادة مألوفة لدى العرب، لا نعرف من هم الذين يتخذون منه! ولمن يوجه الله الخطاب! يؤكد اللغويون والفقهاء العرب القدماء على أن لفظ الخمر محصور في العنب، ومنهم من جعله في العنب والحبوب على رأي أبي حنيفة، ومنهم من جعله في التمر أيضا. ويقال للخمر المعتصرة من العنب النبيذ. قال ابن منظور:"وهو ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك. يأخذ (المرء) تمرا أو زبيبا، يطرح في وعاء أو سقاء عليه الماء ويتركه حتى يفور فيصير مسكرا". وقال: "نبذ تمرا جعله نبيذا"، "سواء كان مسكرا أو غير مسكر فإنه يقال له نبيذ".
وذكر الفيروزآبادي في (القاموس المحيط) أن أهل المدينة " ما كان شرابهم إلا البسر والتمر"، لأنه لم يكن بالمدينة خمر عنب. بيد أن هذا التلازم له دلالة تاريخية جديرة بالتوضيح، أغفلها كثيرون، أو تجاهلوها عمدا. إن الخمر جزء من شراب الجنة. وهذا يعني أن التقديس الذي تحظى به النخلة له دلالة شاملة ومطلقة زمانيا ومكانيا، تمتد من مرحلة ما قبل المعصية، وهي مرحلة ما قبل ظهور الإنسان في صورته المعروفة: آدم وحواء، التي هي رمز ديني، يصور حكائيا عملية خروج الإنسان التاريخية من طور الحيوان وخلوصه الى صفته الجديدة، كائن عالم بنفسه؛ مرورا بمرحلة نزول آدم الى الأرض، ثم مرحلة البعث بعد الموت، والتي يذهب البشر فيها في طريقين مختلفتين: الجنة أو النار، يقابلهما التمر والأعناب غذاءً ونبيذاً في الجنة، والزقوم طعاما في الجحيم.
لا تتوقف رواية خلق النخلة عند هذا الحد، بل تسترسل فتصف كيف أن آدم طلب من الله أن يكرمه بإنزال النخلة معه الى الأرض بعد المعصية. وكان له ما أراد. إن هذه التتمة الضرورية أخذت في الحسبان أن مغادرة الجنة حكم ملزم لآدم. لذلك أضحى طبيعيا ومنطقيا أن تغادر النخلةُ الجنةَ أيضا مع توأمها آدم. منذ ذلك الزمن البعيد وهي موجودة على أرضنا، رغما عن طرافة الحكاية الأسطورية المتعلقة بولادتها.
وليس عسيرا معرفة أن صانع أو صناع رواية آدم والنخلة، آثروا أن يصوغوا حكاية متكاملة ومتقنة، تشرح الحديث النبوي الموجز والضعيف، بطريقة ممتعة ومرتبة ودالة. من خلال هذه القصة نستطيع تكوين صورة أولية، توضح لنا طريقة ولادة وصناعة الأساطير في العصور الغابرة.
ولم تكن المرويات الاسلامية وحدها، التي تنص على علاقة النخلة بالخروج من الجنة الأولى، أي انفصال الإنسان التاريخي عن مرحلة ما قبل الإنسان، التي رمزت اليها الأديان التوحيدية بخلق آدم ومعضلة المعصية. فقد ورد في النصوص اليهودية أيضا أن النخل وجد منذ وجد آدم. ومن المفيد الإشارة هنا الى أن الإنسان عاش نحوا من مليون عام في المرحلة الوحشية. ولم ينتقل الى مرحلة الإنسان "العاقل" إلا في العصر الحجري القديم الأعلى، قبل خمسين ألف سنة تقريبا، مع بدء استخدامه الأدوات. ولم يتم الانتقال الى مرحلة المدنية والتحضر إلا قريبا، في أواخر الألف الرابعة ق.م. في وادي الرافدين والنيل. وقد دخلت بلاد الرافدين عصر السلالات الأول، أو عصر دول المدن، في الألف الثالثة ق.م. 2800 تقريبا.
وفي الديانة الصابئية المندائية تتجسد قدسية النخلة " في ( عيد الفل ) الذي يصادف في شهر تشرين الأول من كل عام . ففي مثل هذا اليوم أرسل الملاك هيبل زيوا ( الملاك جبرائيل ) الملك المقرب من العرش الإلهي من جانب الله وأعطيت له المهمة لخلق الأرض وخلق الخضروات والأشجار. ومن بين أول الأشجار التي خلقت كانت شجرة النخيل. وقد أمر الملاك هيبل زيوا لكي يأكل منها وان المتاع الذي اختاره الملاك هيبل زيوا للعودة الى تلك الدنيا كان من شجرة النخيل، لذلك فإن الصابئة المندائيين ينظرون الى هذه الشجرة نظرة مقدسة، وتبركا بذلك اليوم الذي وجدت فيه شجرة النخيل وتناول هيبل زيوا من هذه الشجرة الطاهرة يحتفلون بهذا اليوم ولاتمام هذا الاحتفال يهيئون قبل يوم من العيد كمية من التمر المعزول من النوى ويضاف إليه السمسم المحمر على النار ثم تضاف إليه بعض الحبوب المعطرة ويمزج الخليط جيدا، ثم يعملون منه كرات صغيرة أو ضفائر يأكل منها كل أفراد العائلة ". ( الحوار المتمدن فائز الحيدر– العدد 2023 )
ويحتل التمر موقعا في "لقمة العروس والعروسة". وهو طقس الزواج لدى الصابئة، يقدم فيه الكاهن للعروسين لقمة مباركة، تشتمل على أصناف عديدة من الخيرات، كالتمر والزبيب واللوز والسمك والدقيق.
ولو تركنا المرويات والنصوص الى النقوش، نجد أن القصة المتوارثة عبر الأديان والأجيال، التي تربط النخلة بالجنة، موثقة ومطبوعة على الرقم والألواح العراقية القديمة. فقد "تم اكتشاف قصة أدم وحواء والشجرة المحرمة في انقاض الحضارة السومرية التي يرجع تاريخها الى 2700 سنة ق.م، حيث عثرعلى لوح يحتوي على رجل وعلى رأسه قلنسوة ذات قرنين وامرأة حاسرة الرأس جالسين وبينهما نخلة تحمل عذقين من التمر واليد اليمنى للرجل ممتدة قرب أحد العذوق، بينما اليد اليسرى للمرأة تقطف التمر من العذق الثاني، وهناك أفعى منتصبة وراء المرأة، تحثها وتغريها على أكل ثمار الشجرة المحرمة وهي التمر."
(عن الشبكة العراقية لنخل التمر: عبدالباسط عودة ابراهيم)
حتى وقت قريب، ظلت صورة أدم وحواء والشجرة والحية الغاوية، حاضرة في بيوت العراقيين للزينة. ( الحية رمز رافديني يشير في الأصل الى تجدد الحياة. ظهرت في ملحمة جلجامش، ولعبت دورا حاسما في تغيير مصير جلجامش، وترتبط في الملحمة بموضوع سرقة عشبة الخلود. والخلود هو الجنة في المخيلة الدينية "جنة الخلد".). لكن تلك الصورة، التي تخلـّد آدم وحواء متلبّسين في المعصية، النابعة من المتخيل الأوروبي، نسيت أجمل وأصدق معلم أسطوري فطري، نابع من البيئة والتاريخ الثقافي: النخلة، التي توارت في الصورة. لأن الأوروبي رسم لنا آدمه وحواءه وجنته وشيطانه، ونسي نخلتنا.
تتكرر مشاهد قطع النخيل في الدعاية الحربية الآشورية، بطريقة مثيرة، كدليل على البأس والبطش. وقد دوّن الآشوريون ذلك في العديد من الألواح والمجسمات. إن تكرار هذه الصور ضرب من الدعاية الحربية، هدفها إخافة الأعداء، من طريق قتل الشجرة الواهبة للحياة، ومن جانب آخر تعكس الصور نزعة القوة لدى الآشوريين. هذا المناخ الحربي والعقلي هو الذي دفع الملك البابلي حمورابي ( 1792- 1750 ق.م.) الى تحريم "قطع النخل" في المادة 59 من شريعته. وحمورابي هو الخطوة التاريخية الكبرى في سلسلة الارتباط بين الديني والسياسي، بعد خطوة جلجامش الكبيرة، التي جعلت منه "ثلثا إله وثلث بشر"، أي أدنى من مرتبة الإله، وأعلى من مرتبة بشر. وهو تدرج مهم في التاريخ الديني والعقلي للإنسان. أما حمورابي فقد اكتفى بأن كان خليل الإله، وتلك عصامية سلطوية على درجة عالية من الحكمة، نقلها الملك الفارسي كورش "ذو القرنين" ( 529 ق.م.) الى مرتبتها العليا: التوحيد. لذلك نعتقد أن تعاليم الكنيسة المسيحية أرادت العودة بالمسيح، ولو روحيا، الى ما قبل جلجامش. وقد فعل محبو الاسكندر المقدوني (مات في بابل 323 ق.م) الأمر نفسه، بإشاعة إلوهيته، على الرغم من أنّ بعض المسيحيين جعله نصرانيا، ولم يكن هذا ولا ذاك. ومن مفارقات التاريخ أن الامبراطور الروماني يوليانوس، الملقب بالجاحد والمرتد، (331م- 363م)، الذي مات قتيلا قرب نهر دجلة، أنكر ألوهية المسيح، وحاول إعادة سلسلة التطور الى الوراء بالعودة الى الوثنية، في حين اختلف اليعاقبة (سريان وأقباط أرثدوكس) مع ما يعرف بمذهب (الوَحدِيطبيعي) (المونوفيزية)، حول الطبيعة التكوينية للمسيح: ناسوت أم لاهوت، أم إتحاد. وكان العرب "الغساسنة" من حملة فكرة الطبيعة الواحدة للمسيح، التي ترى أن الطبيعة البشرية قد انتفت في المسيح، وأنه ذو طبيعة إلهية حسب. ونستطيع أيضا فهم فكرة الإيمان بغيبة المهدي على ضوء مبدإ اليعاقبة، نظرا لتشابه الحالين واقعا وتأويلا. لقد حوت أسفار التوراة نصا يطابق تماما مضمون المادة 59 من شريعة حمورابي، لكن التلموديين المتزمتين ينكرون صلة النص بالأصل البابلي. وهو إنكار خال من الحصافة، سواء أكان النبي إبراهيم سابقا لحمورابي، وفق رأي بعض المؤرخين، أو كان لاحقا. وفي السنة الثانية عشرة للهجرة أوصى عمر بن الخطاب جنده المتوجهين الى فلسطين ألا يقطعوا "شجرة مثمرة". (ورد ذكر عمر في النصوص المسيحية، على أنه أمّ فلسطين للتجارة قبل الاسلام). وهذا يدل على أن قطع الشجر، الذي ظهر في الرسوم الآشورية، على هيئة شجر النخيل، لم يكن تهديدا دعائيا فارغا، بل كان سلوكا عدوانيا واقعيا تمارسه الأقوام المحاربة.
انحيازنا العاطفي للعمة العزيزة النخلة لا يوقعنا في المبالغة لو قلنا إنها شجرة شاملة العطاء، سخية الى حد الكمال. "أشرف الشجر"، كما قالت العرب. لأنها أكثر المزروعات كمالا في التاريخ الطبيعي. ثمرها، المتعدد الأصناف، ومكوناتها من جذع وسعف وخوص وألياف وجذور، تكون ثروة حقيقية متنوعة الأغراض. ناهيك عن جمالها الطبيعي، وعن صبرها وقوة تحملها للعطش والجفاف. ربما لهذا السبب احتلت موقعا كبيرا في ثقافة شعوب كثيرة، منها الشعوب العربية والسامية على اختلاف دياناتها وألسنتها. فقد وردت النخلة في أسفار التوراة، وكانت جزءا من قصص الخروج من مصر، لأن "سبعين نخلة" هي التي اطعمت القوم في رحلتهم. والنخلة صديق مؤتمن، وثمرها الحلو "التمر" اسم للمدن وللأنثى. زينت صورتها هيكل معبد سليمان. وهي شجرة عيد المظال اليهودي، الذي يرمز الى خيم الخروج من أرض مصر الى سيناء. وهو عيد يجمع بين التاريخ الديني والطقوس الزراعية المتعلقة بنهاية موسم الحصاد والاستسقاء. وفي الطقس يحمل المحتفلون السعف والآس والصفصاف. لقد ظلت النخلة العمود الفقري لبناء العرزال اليهودي التقليدي، قبل ظهور الصور العصرية التجميلية، التي فرضها يهود الغرب، كجزء من مهمة الاستيلاء على التاريخ، بما فيه التاريخ اليهودي المشرقي. فقد كانت النخلة تظلل السقف، وينتصب في بعض "العرازيل" جذعها دعامة وسطية لتقوية القوائم الأربعة التقليدية. ويكون سعف النخيل قوام طقس الطواف في المذبح، وقوام سقف خيمة المذبح في الهيكل.
في هذا العيد يأخذ اليهود أربعة أنواع من النباتات، كما يقول سفر اللاويين، الاصحاح 32 الآية 39 : " وتأخذون لأنفسكم في اليوم الأول ثمر أشجار بهجة وسعف النخل وأغصان اشجار غبياء وصفصاف الوادي". وفي نص آخر يظهر الاختلاف التعبيري واضحا، لكنه لا يغيّر من محتوى النص الأساسي: " وَخذوا لَكُم فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ، مِنْ تَمْرِ شَجَرِ الاتْرَنْجِ، وَمِنْ لُبِّ النَّخْلِ، وَمِنْ أَغْصَانَ عُودِ الآسِ عَلَى صَنْعَةِ الضَّفْر، وَمِنْ غَرَبِ الْوَادِي".
وعلى الرغم من ذكر طقوس عيد المظال من قبل المسيحيين، إلا أنهم لا يحتفلون به. ومرد ذلك ربما يعود الى أن المسيح رأى أنه هو الذي كان صخرة الماء، التي تفجرت نبعا، في التيه عند الخروج من مصر. وتفجر الينابيع ظاهرة معروفة في الأديان السامية. والنبع من طقوس عيد المظال اليهودي، يجري استحضاره رمزيا بجعله جرة ماء ذهبية.
تركت البيئة أثرا عميقا على الطبيعة الرمزية للسعف في الطقوس الدينية. والمتتبع لهذه التغييرات البيئية يجد أن تحولات الرمز من بيئة الى أخرى قد تبعده عن مصدره الأول، بمرور الأيام، وتجعل منه شكلا مختلفا يدل على الجوهر التاريخي مضمونا، وعلى ما يغايره شكلا. ففي عيد المظال بدأ التأثير الغربي يبهت الصورة التقليدية الشرقية للعرزال. إن الشكل الذي نراه اليوم صورة أجنبية، غريبة، تغلبت حتى على أصولية تعاليم التوراة، المعروفة بالثبات.
ولا بد من الإشارة هنا الى أن سقف العرسال يشبه الصورة المرسومة من قبل الرواة المسلمين لمسجد الرسول في المدينة. وهو تشابه بيئي خالص، لكنه لا يخلو من دلالات دينية تاريخية أيضا. فقد بني أول مسجد باللبن وجعل سقفه من جريد النخل ودعائمه من جذوع النخل. وقبل أن يُبنى المنبر اتخذ الرسول من جذع نخلة متكأً، وجُعلت قبلته الى بيت المقدس. ولم يستجب الرسول لطلب صحابته بتغيير السقف، ولم يتغير إلا بعد وفاته. جاء في الروايات (السيرة الحلبية، نقلا عن كتاب الشخصية المحمدية) أن الرسول قال:"ابنوا لي عريشا كعريش موسى... وظلة كظلة موسى...".
حينما عرض الحواري بطرس على المسيح إقامة ثلاث مظال، للاستفادة من جو الشحن العاطفي اليهودي، رفض المسيح العرض، وقال إنه يبحث عن مظال أبدية، غير حسية. واعتبر معجزة النبع جزءا من روحه، أي من روح الله. ولا غرابة في ذلك. المسيح هو الصورة التجريدية لليهودية، المنزهة والمجردة من حسيتها الواقعية والأسطورية، ومن شروطها السلطوية ومن مصالح الدولة، أو مصالح رجال الدين في ظل احتلال وثني. حينما نتمعن في الأمر جيدا، نكتشف حصافة الحواري بطرس، بحسه التنظيمي العالي، وهو يحاول الإفادة من شعيرة (ومعجزة) يهودية سابقة، لمصلحة اللحظة المسيحية القادمة. فلا يلغي طقوس المظال جملة وتفصيلا، بل يعيد تأسيسها بالتحوير والاختزال، صانعا منها طقسا يلائم الدين الجديد. وكان بطرس مساعدا تنفيذيا، كما تدل الواقعة، يلعب دورا بنائيا في الحركة الوليدة. ربما لهذا السبب يرتبط اسمه بتشييد الكنائس الاولى. هنا يختلف دور النبي محمد عن النبي عيسى، في أن النبي محمدا كان القائد التنظيمي وفق قاعدة "وأمرهم شورى بينهم"، وقد شغل بعض من أقربيه دور المساعدين، كابن عمه علي وعمه حمزة علنا، وعمه العباس سراً، الذين كان لهم دور هام في تثبيت أمنه الشخصي، وأمن الجماعة. كان دين المسيح أكثر خلوصا في جانبه المثالي. لم تخدش عظمة مثاليته تقاليد السلطة ومستلزمات وشروط الحكم. كان المسيح منحازا الى الروح انحيازا مطلقا. ولا غرابة في ذلك، فهو مجدد اليهودية،غير السلطوية، في محيط وثني، المتسلح بأعلى درجات التسامي الروحي. ربما لذلك رفض تجديد الأسطورة اليهودية وامتداداتها الطقوسية، ولم يأبه لما تحويه من فائدة عند تجيير التقاليد السابقة لمصلحة دعايته الدينية، وأصر على رمزها الأسمى المتعالي. وهذا ما يميز فسحة رمزية تأويل المسيح مقارنة بضيق وحسية تأويل سنن محمد وموسى رجلي السلطة والدولة. بهذا الطريقة أنهى عيسى بن مريم صلة المسيحية بعيد "المظال" اليهودي. وقد فعل النبي محمد الأمر عينه في تعامله مع الأعياد المسيحية، حينما دعا الى استحداث عيد خاص بالمسلمين، بديلا من عيد الشعانين.
جاء في الحديث: "إن الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد". إن جعل العيد- بصيغة الابهام- بديلا من يوم السباسب تحديدا، دليل على أمرين: الأول حاجة المسلمين الى عيد. لأن عيد الفطرشرع في السنة الثانية للهجرة. أما عيد الأضحى فيرتبط بالحج، والحج يرتبط بالكعبة، التي لم تزل قبل الفتح بيتا للأوثان. والأمر الثاني هو ذيوع شهرة عيد الشعانين بين عرب الجاهلية، حتى لدى الوثنيين منهم، على الرغم من أنه عيد نصراني.