الحراك الشعبي .. الواقع والأفاق ( ملاحظات أولية )
سعد محمد حسن
2015 / 11 / 1 - 22:23
الحراك الشعبي .... الواقع والأفاق
( ملاحظات أولية )
ما أن اندلعت الاحتجاجات الشعبية في 31 تموز حينما أطلق أبناء البصرة شرارتها الأولى محتجين على سوء إمدادات الطاقة الكهربائية وانقطاعها لساعات طويلة في اليوم و في صيف بلغت درجة الحرارة فيه أكثر من خمسين درجة مئوية , حتى امتدت شراراتها لتصل العاصمة بغداد والمدن العراقية الأخرى في وسط وجنوب العراق لتفاجئ الجميع ومنهم القوى اليسارية والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني ألا أن ذلك لم يحول دون اشتراك هذه القوى والمنظمات بالاحتجاجات وبشكل مستمر وفعال
ومنذ الجمعة الأولى ظهرت مؤشرات أولية على نوعية الشرائح والفئات الاجتماعية المشاركة في الاحتجاجات , حيث توزعت بين عمال , طلبة . نساء . شباب , شيوخ , موظفين حكوميين , إعلاميين , مدرسين . أساتذة جامعات. فنانين وممثلين ورسامين تشكيلين. ولكن بنسب متفاوتة , غير أن نسبة الشباب كانت هي الأعلى في الحضور والتواجد ر .
ومع استمرار تلك الاحتجاجات أسبوعيا, جرى تحول نوعي للمطالب الشعبية , ففي بادئ الأمر كان الدافع ورائها , هو المطالبة بتحسين واقع الكهرباء ثم ارتفع سقف المطالب الشعبية عندما طالب المتظاهرون , الجهات ذات العلاقة بالكشف عن ملفات الفساد المتعلقة بعقود الكهرباء وبيان أسباب النقص فيها وتقديم الموظفين الفاسدين العاملين في وزارة الكهرباء إلى القضاء مهما كان موقعهم ومسؤوليتهم التنفيذية والإدارية . وفي الجمعة الثالثة جرى تحول نوعي أخر حيث طالب المحتجين السلطات القائمة على الأجهزة التنفيذية بالكشف عن ملفات الفساد المتعلقة . بعقود الأسلحة وأجهزة فحص السونار إضافة لملف الكهرباء ليرتفع سقف المطالب الشعبية في الجمعة الرابعة حيث طالب المتظاهرون بكشف كافة ملفات الفساد في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية و تقديم الفاسدين إلى القضاء واسترداد أموال الشعب العراقي المنهوبة . مهما كانت مواقع هولاء المسئولين وحجم مسئولياتهم خاصة ممن جرى وصفهم بالحيتان الكبار وفي المقدمة منهم نوري المالكي ومستشاريه وأعضاء مكتبه الخاص .
ولما مسؤولية كشف جرائم سرقة المال العام وهدره تقع ضمن مسئوليات وصلاحيات سلطة القضاء بهيئاته المتعددة , فأن فشل هذه السلطة عن تقديم أي من المسئولين الكبار ممن تدور حولهم شبهات فساد , دفع بالجماهير المحتجة للمطالبة بضرورة أعادة تشكيل السلطة القضائية , بعيدا عن تدخل الأحزاب والعمل على ضمان نزاهتها وشفافية قراراتها و على ضرورة أبعاد القضاة الفاسدين منها وعلى رأسهم مدحت المحمود رئيس السلطة القضائية , الذي تدور حوله شبهات فساد هو الأخر إضافة لدوره القضائي المشبوه في دعمه لنظام صدام حسين المقبور , ومما زاد من إصرار المحتجين وتمسكهم بمطالبهم العادلة هو صدور تقرير اللجنة الأمنية في مجلس النواب الخاص بسقوط مدن الموصل وصلاح الدين وأجزاء من محافظتي ديالى وكركوك بيد عصابات داعش الإجرامية , حيث حمل تقرير اللجنة الأمنية عدد من كبار المسئولين ., مدنيين وعسكريين المسئولية الكاملة والمباشرة بضياع تلك المدن وما لحق بها من خسائر ما دية وبشرية . وفي المقدمة منهم نوري المالكي بصفته القائد العام للقوات المسلحة حينها .
وتحت ضغط قوة الاحتجاجات المتصاعدة طالبت المحتجون في محافظتي النجف وكربلاء , المرجعية الدينية العليا المتمثلة برجل الدين علي السستاني بضرورة بيان موقف مرجعيته الشرعي من المطالب المشروعة , ولولا الضغط المتزايد لظلت المرجعية على ترددها أو دون أن تحرك ساكنا , ويبدو أن هاجس الخوف من أن يتم تجاوزها اجتماعيا من قبل الجماهير المحتجة والعلاقة ا المتشنجة مع أغلب قيادات الأحزاب السياسية الشيعية على وجه الخصوص .جراء سوء أدارة تلك الأحزاب لمؤسسات الدولة وتفشي الفساد فيها هو الذي دفعها للوقوف بجانب الجماهير المحتجة ومطالبهم الشرعية
حافظ المحتجون على سلمية ومدنية الاحتجاجات في الوقت الذي باتت مطالبهم وشعاراتهم أكثر وضوحا وعمقا ليس في أهدافها العامة كمطالب عراقية ذات أبعاد وطنية عامة عابرة للطوائف فحسب بل وفي طبيعة ونوعية الفئات الاجتماعية المشاركة فيها , مما يعد ذلك مؤشرا سليما عن حدوث تطور نوعي في الممارسة المجتمعية
ومع ديمومة الاحتجاجات وإصرار الجماهير المحتجة في بغداد والمدن العراقية الأخرى قد دفع ذلك بالسلطتين التنفيذية والتشريعية إلى طرح حزمة من الإصلاحات على أمل امتصاص زخم الاحتجاجات نفسها والحيلولة دون توسع قاعدتها الشعبية .
ألا أن تزايد الشكوك لدى الجماهير المحتجة في عدم قدرة السلطة التنفيذية على الالتزام بتنفيذ وعودها الإصلاحية , كما وأن حزمة الإصلاحات المتخذة لا ترتقي إلى طموح الجماهير المحتجة نفسها , ومع ذلك فأن تلك القرارات قد لاقت القبول والتأييد . حينها منحت الجماهير تأييدها المشروط لرئيس الوزراء وتفويضه في اتخاذ كافة الإجراءات التي يراها ضرورية في الكشف عن الفساد والفاسدين .
ألا أن تراخي السلطة التنفيذية وضعف إجراءاتها المتخذة في معالجة الفساد ومحاسبة الفاسدين قد دفع ذلك إلى تمسك أبناء شعبنا المحتجين على مواصلة الاحتجاجات بطابعها السلمي والمدني.
ولعل وراء ضعف قدرة السلطة التنفيذية على الوفاء بتنفيذ قراراتها الإصلاحية, يعود في كونها نتاج المحاصصة الحزبية والقومية والطائفية , مما شكل ذلك ضغطا كبيرا تمارسه القوى السياسية الحاكمة الفاسدة للحيلولة دون تطبيق حزمة الإصلاحات لمعتمدة . كما أن هذه القوى قد لجأت إلى طريقة التهديد بسحب تفويضها المنوح لرئيس الوزراء عند تشكيل كابينته الوزارية بل وقد وصل الأمر إلى حد بقيام بعض الشخصيات المرتبطة بتلك الأحزاب في محاولات اغتيال فاشلة .
وتحت ذريعة التصدي لعصابات داعش الإجرامية وضرورة الحفاظ على تماسك الأجهزة الأمنية وتقمها في معارك التحرير باتت هذه الذريعة بيد تلك الاحزاب والقوى الفاسدة للحيلولة دون التطبيق الجاد والمرتجى من الإصلاحات .
وعلى أثر الأزمة المالية التي تعصف بالبلاد بسبب السياسات الضارة التي انتهجتها الأحزاب الحاكمة وفشلها في إدارة الملف المالي والاقتصادي باعتمادها على تصدير النفط ودون رسم السياسات الكفيلة بالنهوض بواقع الصناعة والزراعة وتعزيز نهج تنويع الموارد مما كرس ذلك التوجه تبعية الاقتصاد العراقي للرأسمال العالمي وبات رهينة لتقلبات السوق العالمية على الريع النفطي .وبسبب من الفساد الذي بات ينخر أجهزة الدولة ونهب المال العام وتهريبه إلى البلدان الخارجية وضعف أجهزة الرقابة وفسادها هي الأخرى
.
وبدلا من معالجة الأسباب الحقيقية وراء تلك الأزمة برسم سياسات واضحة معالجات سليمة واتخاذ الإجراءات الكفيلة بذلك ومنها استرداد مليارات الدولارات المسروقة
و تقديم رموز الفساد إلى القضاء وكشف جرائم سرقة المال العام وتفعيل الجهات الرقابية ومنع تدخل الأحزاب الحاكمة الفاسدة في عملها الرقابي وغيرها من الإجراءات الكفيلة بذلك , أقدمت السلطة التنفيذية بعد موافقة أعضائها بالإجماع على إصدار سلم الرواتب الجديد الذي شكل تهديدا حقيقيا لمعيشة قطاعات واسعة من موظفي الدولة , وعلى أقر ذلك انطلقت في بغداد والمدن العراقية الأخرى موجة أخرى من الاحتجاجات لتشمل هذه المرة , شرائح اجتماعية وقطاعات مهنية واسعة حيث خرج مئات الآلاف من موظفي الدولة وأساتذة الجامعات والمعلمين والمدرسين تنديدا بسلم الرواتب الجديد , محذرين في الوقت نفسه السلطة التنفيذية من مغبة التنفيذ
لقد بات واضحا أن مجمل السياسات التي عملت عليها أحزاب الإسلام السياسي وشركائها من الأحزاب القومية الكردية منذ العام 2003 قد دفعت بالبلاد على طريق الخراب الاقتصادي والاجتماعي وأن أثار تلك السياسات باتت تمس الآن حياة شرائح اجتماعية واسعة من شعبنا , حيث دفعت بمئات الآلاف من العراقيين نحو الفاقة والفقر ,كما وأنها قد شكلت أحدى أكثر الدوافع وراء هجرة مئات الآلاف من العراقيين وجلهم من الشباب إلى بلدان أوربا وسببت كذلك في تزايد معدلات الأمية والبطالة وفي انتشار عصابات الأجرام وغيرها من الظواهر الاجتماعية الخطيرة
أن مؤشر الأفاق المستقبلية للاحتجاجات باتت واضحة للعيان , وأن إدامة زخمها وتوسيع قاعدتها الشعبية ستصيب جوهر النظام السياسي الذي تشكل بعد عام 2003 القائم على اقتسام السلطة والنفوذ طائفيا وقوميا وحزبيا .
أن الرهان الآن ليس في استمرار الاحتجاجات و إدامة زخمها فحسب بل في حشد أوسع الطاقات الشعبية من أجل توسيع رقعة المشاركة فيها وهذه المهمة على الرغم من صعوبتها ألا أنها ليست مستحيلة أطلاقا , وأن الرهان على ذلك تقع مسئوليته على كافة القوى اليسارية والديمقراطية و كافة منظمات المجتمع المدني والناشطين المدنيين المستقلين في أن يتحملوا جميعا كامل عبء المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية , اتجاه شعبنا وقضاياه العادلة
الجدير بالذكر أن القوى السياسية الفاسدة الحاكمة ومليشياتها المسلحة قد أدركت ومنذ الأيام الأولى للاحتجاجات مدى الخطورة الكامنة على مصالحها في حال استمرار هذه الاحتجاجات وتمدد قاعدتها الشعبية لذلك سعت في استخدام كافة إشكال التضييق على المحتجين , فلقد أقدمت مجالس محافظات البصرة و كربلاء وبابل ممن طالب الجماهير المحتجة بحلها وكشف فسادها , على دفع بقوات مكافحة الشغب لتفريق المتظاهرين مستخدمة بذلك خراطيم المياه تارة وتارة أخرى القنابل المسيلة للدموع و أحيانا أخرى استخدام العصي في ذلك .. كما أقدمت بعض المليشيات المسلحة بزج أعداد من المرتزقة المأجورين وسط الحشود المحتجة الذين قاموا بالاعتداء على عدد من الناشطين المدنيين بضربهم بالعصي و جرح البعض منهم مستخدمين بذلك السكاكين و الآلات الجارحة الأخرى..
كما أن الإجراءات القمعية لم تقتصر على هذه الممارسات , وإنما تعدت ذلك , فلقد جرى
اقتياد عدد من الناشطين المدنيين في بغداد ومدن عراقية أخرى إلى آماكن مجهولة والاعتداء عليهم وتعذيبهم جسديا , كما أقمت جهات مجهولة لا تخفي الوقائع عن ارتباطها بالأحزاب الحاكمة الفاسدة ومليشياتها المسلحة , بعمليات اغتيال طالت 13 من الناشطين المدنيين في البصرة وبابل وكربلاء والنجف .