الدين في المجال العام - يورغن هابرماس
هشام عمر النور
2015 / 11 / 1 - 17:20
ترجمة هشام عمر النور
1
اكتسبت التقاليد الدينية وجماعات العقيدة أهمية سياسية جديدة منذ التغيرات التي غيرت العصر في 1989ــ 1990م[i] وهي أهمية لم تكن متوقعة من قبل. ولسنا في حاجة إلى القول، أن أول ما يتبادر إلى الذهن هو مختلف الأصوليات الدينية التي نواجهها ليس فقط في الشرق الأوسط وإنما أيضاً في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وفي شبه القارة الهندية. وهي ترتبط أحياناً بالصراعات القومية والأثنية، ولكنها أصبحت في عصرنا الراهن الحاضنة للإرهاب غير المركزي الذي يعمل عولمياً ويتم توجيهه ضد الإهانات والجراحات المعروفة التي سببتها الحضارة الغربية المتفوقة. وهنالك أيضاً أعراض أخرى.
مثلاً، الاحتجاج في إيران ضد النظام الفاسد هيأ المكان وبدعم من الغرب إلى حكم حقيقي لرجال الدين يخدم الحركات الأخرى كنموذج تتبعه. وفي بلدان مسلمة عديدة، كما في إسرائيل، قانون الأسرة الديني إما بديل للقانون العلماني المدني أو ملحق له. وفي أفغانستان (وقريباً في العراق)، فإن تطبيق دستور ليبرالي على نحوٍ ما يجب أن يكون متوافقاً مع الشريعة. وبالمثل، تشق الصراعات الدينية طريقها إلى المجال الدولي. والآمال التي ارتبطت بالأجندة السياسية لحداثات متعددة، زودتها بالطاقة الثقة الذاتية لتلك العوالم الدينية والتي هي بدون شك تشكل وجه الحضارات الكبرى. وفي الجانب الغربي من السياج، تغير الوعي بالعلاقات الدولية في ضوء الخوف من "صدام الحضارات" ـــ "محور الشر" هو فقط أحد الأمثلة البارزة لذلك. وحتى المثقفون الغربيون، ولنبدأ نقداً ذاتياً في هذا الخصوص، بدأوا في الاستجابة بعداء لصورة الحضارة الغربية التي يمتلكها الآخرون عن الغرب.[ii]
الأصولية في أركان الدنيا الأخرى يمكن أن تقرأ، ضمن أشياء أخرى، في ضوء تأثير الاستعمار العنيف لفترات طويلة والفشل في تفكيكه. ففي ظروف غير مؤاتية، اخترق التحديث الرأسمالي هذه المجتمعات من الخارج فقدح زناد عدم الأمان الاجتماعي والفوضى الثقافية. في هذه القراءة، فإن الحركات الدينية تقوم بتغييرات جذرية في البنية الاجتماعية وتتسبب في عدم التوافق الثقافي، والتي يعيشها الفرد تحت شروط تحديث متسارعة أو فاشلة كأحساس بالانخلاع من الجذور. وما هو أكثر إثارة للدهشة هو البعث السياسي للدين في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتجلى دينامية التحديث بأكثر طرقها نجاحاً. وبالتأكيد، نحن ندرك في أوروبا، ومنذ أيام الثورة الفرنسية، قوة الشكل الديني من التقليدية والتي كانت ترى نفسها كثورة مضادة. على أية حال، إن استدعاء الدين كقوة للتقاليد يكشف ضمنياً عن شك مقلق بشأن إمكان انهيار صحة ما اعتبرناه تقاليد. وفي المقابل، فإن الصحوة السياسية المستمرة لوعي ديني قوي في الولايات المتحدة الأمريكية لم تتأثر وبشكل واضح بهذه الشكوك.
هنالك دليل إحصائي على موجة العلمانية في معظم الدول الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ـــ بالترافق يداً بيد مع التحديث الاجتماعي. وفي المقابل، فإن المعلومات تشير في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن الجزء الأكبر بالمقارنة من السكان يتكون من مواطنين مخلصين ونشطاء دينياً وظلوا كذلك خلال الستة عقود الأخيرة.[iii] والأكثر أهمية: أن اليمين الديني ليس تقليدياً. لأنه، وعلى وجه الدقة، يطلق طاقة تلقائية من إعادة الحيوية التي تسبب حنقاً مثبطاً وسط المعاديين من العلمانيين.
حركات التجديد الديني في قلب الحضارة الغربية عززت، على المستوى الثقافي، من الإنقسام السياسي في الغرب الذي أثارته حرب العراق.[iv] وتشمل قضايا الإنقسام، ضمن قضايا أخرى، إزالة أحكام الإعدام، قواعد ونظم ليبرالية للإجهاض، وضع العلاقات المثلية على قدم المساواة مع علاقات الزواج بين الجنسين؛ الرفض غير المشروط للتعذيب، وبشكل عام تحقيق أولوية الحقوق على المنافع الجمعية؛ مثلاً، الأمن القومي. ويبدو أن الدول الأوروبية تحافظ على التقدم في ذلك الطريق الذي شقته، منذ الثورتين الدستوريتين في أواخر القرن الثامن عشر، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه الأثناء، تزايد تأثير استخدام الدين لغايات سياسية في كل أنحاء العالم. وعلى هذه الخلفية، فإن الإنقسام في الغرب تم فهمه في الواقع وكأنما أوروبا كانت تعزل نفسها عن بقية العالم. وتبدو الآن ما سماها ماكس فيبر بـ"العقلانية الغربية" هي الانحراف الحقيقي في ضوء تاريخ العالم.
ومن وجهة النظر الرجعية هذه، فإن التقاليد الدينية تبدو مستمرة دون أن تضعف قوتها مزيلةً العقبات المفترض من قبل أنها قائمة بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة. وبهذه الطريقة، فإن صورة الغرب نفسه عن الحداثة يبدو، كما في التجارب النفسية، أنها تخضع لتحويل: فالنموذج المعياري لكل الثقافات الأخرى فجأة يصبح سيناريو لحالة خاصة. وحتى إذا كان هذا التحول الجشتالطي المقترح لا يصمد تماماً أمام الفحص السوسيولوجي وإذا كان الدليل المقابل يمكن أن يصبح متسقاً مع التفسيرات المتفق عليها للعلمنة،[v] فليس هنالك شك أن الدليل نفسه وفوق كل ذلك حقيقة الأساليب السياسية المنقسمة كعرض، كلها تتبلور حوله.
ظهرت مقالة في يومين بعد الانتخابات الرئاسية، كتبها مؤرخ وعنونها "اليوم الذي انتهى فيه التنوير". وقد سأل سؤالاً تحذيرياً: "هل لا يزال من الممكن أن ندعوا الناس الذين يؤمنون بولادة العذراء بحماسة أكبر من إيمانهم بالتطور بأنهم أمة مستنيرة؟ أمريكا، الديمقراطية الحقيقية الأولى في التاريخ، نتاج لقيم التنوير ... وعلى الرغم من أن المؤسسين قد إختلفوا على أشياء كثيرة إلاّ أنهم تشاركوا قيم ما عُرف بعد ذلك بالحداثة ... إحترام الدليل لم يعد قائماً بعد الآن، حين يشير استطلاع أجري قبل الانتخابات بأن 75% من الداعمين للسيد بوش يعتقدون أن العراق أما أن يكون قد عمل بصورة لصيقة مع القاعدة أو أنه متورط بطريقة مباشرة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر".[vi]
بغض النظر عن الكيفية التي نقييم بها الوقائع فإن تحليل الانتخابات يؤكد أن الانقسام الثقافي للغرب يجري تماماً في الأمة الأمريكية نفسها: التوجهات القيمية المتصارعة ـــ الإله والشواذ والسلاح ـــ تغطي على مصالح متباينة أكثر ملموسية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن للرئيس بوش تحالف ناخبين دوافعهم الأساسية دينية عليه أن يشكرهم لانتصاره.[vii] هذا التحول في السلطة يشير إلى تحول ذهني في المجتمع المدني الذي يشكل أيضاً خلفية المناقشات الأكاديمية عن الدور السياسي للدين في الدولة والمجال العام.
مرة أخرى، الصراع حول مادة الجملة الأولى من الإصلاح [الدستوري] الأول: "يجب على الكونغرس ألاّ يضع قانوناً ينصب ديناً، أو من ثم يمنع حرية ممارسته". الولايات المتحدة كانت الرائدة في طريق تأسيس حرية التدين التي تعتمد على الاحترام المتبادل للحرية الدينية للآخرين.[viii] المادة 16 الرائعة من إعلان الحقوق الذي حُدّد في فرجينيا عام 1776م هي الوثيقة الأولى لحرية التدين التي ضمنته كحق أساسي يمنحه المواطنون الديمقراطيون لبعضهم البعض عبر انقسامات مجتمعاتهم الدينية المختلفة. وعلى عكس ما تم في فرنسا، فإن ابتدار حرية التدين في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن يعني انتصار العلمانية على سلطة هي في أفضل حالاتها تتسامح مع الأقليات الدينية وفقاً لمعاييرها التي تفرضها. هنا، علمنة سلطات الدولة لا تخدم بطريقة أساسية الغرض السلبي لحماية المواطنين من إرغامهم على تبني عقيدة ضد إرادتهم. وإنما، بدلاً عن ذلك، تمت صياغتها لضمان الحرية الإيجابية للمستوطنين الذين أداروا ظهرهم لأوروبا القديمة للاستمرار في ممارسة كل منهم لدينه دون عائق. ولهذا السبب، فإن كل الأطراف في الحوار الأمريكي الحالي عن الدور السياسي للدين تدعي وفاءها للدستور. وسنرى لأي حد هذا الزعم صحيح.
وفيما يلي سأعنى بالحوار الذي ثار مع إحياء نظرية جون رولز السياسية، خاصةً مفهومه عن "الاستخدام العمومي للعقل". كيف يؤثر الانفصال الدستوري للدولة عن الكنيسة على الدور الذي سُمح للتقاليد والمجتمعات والمنظمات الدينية أن تلعبه في المجتمع المدني والمجال العام السياسي، وفوق كل ذلك في صياغة الرأي والإرادة السياسية للمواطنين أنفسهم؟ أين يجب أن نضع الحد الفاصل من وجهة نظر الرجعيين؟ هل المعارضون الذين هم حالياً في طريقهم للحرب ضد النسخة الليبرالية من معايير أخلاق المواطنة يعظمون فقط من معنى الدولة العلماني الذي ينحاز إلى الدين وهو الذي ظل يعني الحياد، في مقابل فكرة العلمانية الضيقة عن المجتمع التعددي؟ أم أنهم يغيرون بطريقةٍ ما غير ملحوظة الأجندة الليبرالية من قاعدتها إلى قمتها ـــ ومن ثم هم يجادلون أصلاً على أساس خلفية فهم ذاتي مختلف للحداثة؟
وأود أولاً أن استحضر للذهن المقدمات الليبرالية للدولة الدستورية والمستتبعات التي تلزم عن فهم جون رولز للاستخدام العمومي للعقل على أخلاق المواطنة (2). ومن ثم سأذهب لمعالجة أكثر الاعتراضات أهمية على هذه الفكرة التي هي بالأحرى مقيدة للدور السياسي للدين (3). ومن خلال المناقشة النقدية للمقترحات الرجعية التي تمس بالتأكيد أسس الفهم الذاتي لليبرالية سأطور فهماً خاصاً بي (4). على أية حال، يستطيع المواطنون العلمانيون والدينيون فقط أن يلبوا التوقعات المعيارية للدور الليبرالي للمواطنين إذا ما استطاعوا بالمثل تلبية شروط معرفية محددة ونسبوا إلى المقابل النقيض السلوك المعرفي نفسه. وسأشرح ماذا يعني هذا بمناقشة التغير في شكل الوعي الديني الذي حدث كاستجابة لتحديات الحداثة (5). وبالتباين، فإن الوعي العلماني الذي يعيش في مجتمع ما بعد علماني يأخذ شكل التفكير ما بعد الميتافيزيقي في المستوى الفلسفي (6). وفي الاعتبارين معاً، تواجه الدولة الليبرالية مشكلة أن المواطنين العلمانيين والدينيين يستطيعون أن يكتسبوا هذا السلوك فقط من خلال عمليات التعلم المكملة لبعضها البعض، بينما تظل نقطةً خلافية إذا ما كانت هذه "العمليات التعليمية" لا يمكن للدولة مطلقاً وبأية طريقة التأثير عليها بوسائلها في القانون والسياسة (7).
2
تطور الفهم الذاتي للدولة الدستورية ضمن إطار التقليد التعاقدي الذي يعتمد على العقل "الطبيعي"، بكلمات أخرى الذي يعتمد فقط على الحجج العمومية التي هي، افتراضاً، متاحة لجميع الأشخاص على قدم المساواة. ويشكل افتراض العقل الإنساني العام قاعدة تبرير الدولة العلمانية تلك التي لم تعد تعتمد على المشروعية الدينية. وهذا بدوره يجعل الفصل بين الدولة والكنيسة ممكناً على المستوى الدستوري في المكان الأول. وكان السقوط التاريخي الذي ظهر الفهم الليبرالي بالتضاد معه هو الحروب الدينية ونزاعات الوحي في عصور الحداثة المبكرة. ولقد استجابت الدولة الدستورية أولاً بالعلمنة ثم لاحقاً بدمقرطة السلطة السياسية. هذه الأصول تشكل أيضاً الخلفية لنظرية جون رولز الليبرالية السياسية.[ix]
الحرية الدستورية للتدين هي الإجابة السياسية المناسبة لتحديات التعددية الدينية. بهذه الطريقة، يمكن السيطرة على إمكان النزاع على مستوى التفاعل الاجتماعي للمواطنين، بينما على المستوى المعرفي يمكن للصراعات العميقة الجذور أن تستمر في الوجود بين المعتقدات ذات الصلة وجودياً، للمؤمنين، وللمؤمنين بمعتقدات أخرى، ولغير المؤمنين. ومع ذلك فإن الطابع العلماني للدولة ضروري على الرغم من أنه ليس شرطاً كافياً لضمان حريات دينية متساوية للجميع. فليس كافياً الاعتماد على العطف العظيم للسلطة المعلمنة التي أصبحت متسامحة مع الأقليات التي كان يتم التمييز ضدها من قبل. إن الأطراف المختلفة نفسها يجب أن تصل إلى اتفاق على الحدود المتصارع عليها دائماً بين الحرية الإيجابية لممارسة دين ما للفرد نفسه والحرية السلبية لأن تظل سالماً من الممارسات الدينية للآخرين. وإذا كان مبدأ التسامح أن تكون فوق أي نوع من الشعور بالقهر فإننا يجب أن نجد أسباباً ملزمة لتعريف ما يمكن أن نتسامح بشأنه وما لايمكن، أسباب يمكن لجميع الأطراف قبولها بالتساوي.[x] ولا يمكن أن نجد ترتيبات عادلة إلاّ إذا تعلمت الأطراف المشاركة أن تنظر من منظورات الآخرين. وأفضل إجراء يمكن أن يناسب هذا الغرض هو الأسلوب التدبري لتكوين الإرادة الديمقراطية. في الدولة العلمانية، يجب أن توضع الحكومة وبأية طريقة على أسس غير دينية. الدستور الليبرالي يجب أن يملأ فجوة فقدان المشروعية بسبب العلمنة التي جردت الدولة من استخلاص سلطتها من الإله. ومن ممارسة صياغة الدساتير، ظهرت تلك الحقوق الأساسية التي يجب أن يوفرها المواطنون الأحرار والمتساويين لبعضهم البعض إذا أرادوا أن يرتبوا تعايشهم عقلانياً على أساس وبواسطة قوانينهم الوضعية.[xi] الإجراء الديمقراطي قادر على توفير المشروعية بفضل عنصرين ـــ أولاً المشاركة السياسية المتساوية لكل المواطنين، التي تضمن أن يفهم الذين تخاطبهم القوانين أنهم هم أيضاً الذين وضعوها؛ ـــ ثانياً البعد المعرفي للتدبر الذي يؤسس للنتائج المقبولة عقلانياً.[xii]
هذان العنصران للمشروعية يفسران نوع القيم السياسية التي تتوقعها الدولة الليبرالية من مواطنيها. وعلى وجه الدقة فإن شروط المشاركة الناجحة للممارسة المشتركة للتقرير الذاتي الديمقراطي تلك التي تحدد أخلاق المواطنة: لكل إختلافهم المستمر بشأن مسائل رؤية العالم والمذاهب الدينية، فإن المواطنين معنيين بإحترام أحدهما الآخر كأعضاء متساويين وأحرار في مجتمعهم السياسي. وعلى أساس هذا التضامن المدني فإن المتوقع من المواطنين هو النظر بطريقةٍ ما للوصول إلى إتفاق على أسس عقلانية حينما نأتي إلى المسائل السياسية الخلافية ـــ فهم يدينون أحدهم للآخر بالحجج العقلانية الجيدة. يتحدث رولز في هذا السياق عن "واجب المدنية" و"الاستخدام العمومي للعقل": "مثال المواطنة يفرض واجباً أخلاقياً ـــ واجب المدنية ـــ لا واجباً قانونياً، لكي يكون قادراً على التفسير لأحدهما الآخر وعلى أساس هذه الأسئلة الجوهرية كيف يمكن أن يتم دعم المبادئ والسياسات التي يدافعون عنها ويصوتون لها بواسطة قيم العقل العمومي. ويشمل هذا الواجب أيضاً الرغبة في سماع الآخرين والذهنية العادلة لتقرير متى يجب عقلانياً أن يتم استيعاب وجهة نظرهم".[xiii]
فقط مع إطار قانوني لاتحاد ذاتي الحكم لمواطنين متساويين وأحرار يُطرح سؤال المرجع لاستخدام العقل العمومي الذي يتطلب من المواطنين تبرير مقولاتهم السياسية وسلوكهم السياسي لأحدهما الآخر في ضوء (تأويل معقول)[xiv] لمبادئ دستورية صحيحة. وهنا يشير رولز إلى "قيم العقل العمومي" أو في مكان آخر إلى "المقدمات التي نقبلها ونظن أن الآخرين يمكن أن يقبلوها عقلانياً".[xv] في الدولة العلمانية تكون القرارات السياسية المشروعة هي فقط تلك التي يمكن تبريرها تبريراً محايداً في ضوء الأسباب المتاحة عموماً، بكلمات أخرى أن تكون مبررة بالنسبة للمواطنين الدينيين والمواطنين غير الدينيين والمواطنين من المعتقدات الأخرى. القاعدة التي لا يمكن تبريرها تبريراً محايداً هي قاعدة غير مشروعة بسبب أنها تعكس حقيقة أن طرفاً يفرض إرادته على الآخر. مواطنو المجتمع الديمقراطي ملزمون بتوفير حجج لأحدهما الآخر، قوة الحجج السياسية وحدها هي القادرة على خلع سطوتها القامعة. هذا الاعتبار يفسر "الشرط" الجدالي لاستخدام الحجج غير العمومية.
مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة يلزم السياسيين والموظفين داخل المؤسسات السياسية بصياغة وتبرير القوانين، وقواعد القضاء، والقرارات والمقاييس فقط باللغة التي تكون متاحة بالتساوي لكل المواطنين.[xvi] ولكن الشرط الذي يخضع له المواطنين والأحزاب السياسية ومرشحيها والمنظمات الاجتماعية والكنائس والجمعيات الدينية الأخرى ليس شرطاً محدداً تحديداً تاماً في المجال العمومي السياسي. يكتب رولز: "الأول هو أن المذاهب الشاملة المعقولة، دينية أو غير دينية، يمكن أن يتم تقديمها في المناقشة السياسية العامة في أي وقت، بشرط أن يتم في الوقت المناسب تقديم الحجج السياسية ـــ لا تلك الحجج التي توفرها المذاهب الشاملة وحدها ـــ والتي تكون كافية لدعم كل ما تقول المذاهب الشاملة أنه يدعمه".[xvii] وهذا يعني أن الحجج السياسية يمكن ببساطة ألاّ يتم وضعها مقدماً كنص قبلي، ولكنها يجب أن "تحاسب" بغض النظر عن السياق الديني الذي يتم تضمينها فيه.[xviii]
من وجهة النظر الليبرالية، تضمن الدولة حرية التدين للمواطنين بشرط أن تقبل المجتمعات الدينية، كلٌّ من منظور تقاليدها المذهبية، ليس فقط فصل الكنيسة عن الدولة وإنما أيضاً تعريف محدد للاستخدام العمومي للعقل. يصر رولز على هذا المطلب حتى عندما يواجه الاعتراض، الذي يثيره هو نفسه: "كيف يكون ممكناً ... لأصحاب معتقد ما ... أن يصادقوا على نظام دستوري حتى لو أدى ذلك إلى عدم ازدهار مذهبهم الشامل في ظل ذلك النظام، أو تراجعه في الواقع؟"[xix]
قابل مفهوم رولز عن العقل العمومي نقد صارم. لم يتوجه النقد على مقدماته الليبرالية تحديداً، وإنما توجه ضد تعريفه العلماني المفترض الزائد الضيق للدور السياسي للدين في الإطار الليبرالي. وهذا ليس للتقليل من شأن حقيقة أن الاعتراض أيضاً يلمس في النهاية الجوهر الحقيقي للدولة الليبرالية. ما يهمني (هنا) هو ما هو الحد الذي يجب أن يرسم للمطالب التي تصل إلى ما بعد الدستور الليبرالي. الحجج التي تدعم دوراً سياسياً واسع الأبعاد لا ينسجم مع الطبيعة العلمانية للدولة، يجب ألاّ يُخلط مع الإعتراضات المبررة على الفهم العلماني للديمقراطية وحكم القانون.
يتطلب مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة أن تعمل مؤسسة الدولة بحياد صارم مع كل المجتمعات الدينية؛ يجب على البرلمانات والمحاكم والإدارة ألاّ تنتهك الوصفة القائلة بعدم تمييز جانب على حساب الجانب الآخر. ولكن هذا المبدأ يجب أن يتم تمييزه عن المطلب العلماني بإبتعاد الدولة عن تبني أي موقف سياسي يدعم أو يمنع ديناً ما بما هو كذلك، حتى إذا أثر ذلك على كل المجتعات الدينية بالتساوي. هذا يمكن أن يصير فهماً زائد الضيق لفصل الدولة عن الكنيسة.[xx] وفي نفس الوقت، رفض العلمانية يجب ألاّ يؤدي إلى الاستسلام لفتح الباب واسعاً أمام المراجعات التي تضعف المبدأ نفسه. التسامح مع التبريرات الدينية ضمن العملية القانونية يمثل حالة جديرة بالإعتبار، كما سنرى. وهي التي تقول، أن موقف رولز الليبرالي حاول لفت انتباه النقاد إلى أخلاق المواطنة أكثر من لفت انتباههم إلى حيادية مؤسسات الدولة.
3
معارضو رولز ضربوا أمثلة تاريخية لتأثيرات سياسية جيدة كانت للكنائس والحركات الدينية في الواقع بالتأكيد على الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويوضح مارتن لوثر كنج وحركة الحقوق المدنية الأمريكية النضال الناجح من أجل استيعاب أوسع للأقليات والمجموعات المهمشة في العملية السياسية. وفي هذا السياق، فإن الجذور الدينية لدوافع معظم الحركات الاجتماعية والاشتراكية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية معاً هي أمرٌ بالغ الإثارة.[xxi] هنالك أمثلة تاريخية واضحة على النقيض من ذلك، وتحديداً للدور القمعي والسلطوي للكنائس والحركات الأصولية؛ وعلى أية حال، وفي الدول الدستورية جيدة التأسيس فإن الكنائس والمجتمعات الدينية بشكل عام تؤدي وظائف ليست قليلة الأهمية لاستقرار وتقدم ثقافة سياسية ليبرالية. وهذا صحيح صحة خاصة بالنسبة لشكل الدين المدني الذي نشأ في المجتمع الأمريكي.[xxii]
استخدم بول ج. ويثمان الاكتشافات السوسيولوجية للتحليل المعياري لأخلاق المواطنة الديمقراطية. وهو يصف الكنائس والمجتمعات الدينية كفاعلين في المجتمع المدني الذي يلبي الضرورات الوظيفية لإنتاج الديمقراطية الأمريكية. فهي تنتج الحجج للحوار العمومي في القضايا الحرجة ذات الحمولات الأخلاقية وتعالج مهمات التنشئة السياسية بتنوير أعضائها وتشجيعهم على المشاركة في العملية السياسية. وعلى أية حال، سيذوي إلتزام الكنائس بالمجتمع المدني، هكذا تمضي الحجة، إذا كان عليهم في كل مرة التمييز بين القيم الدينية والسياسية للحفاظ على معايير شرط رولز ـــ في كلمات أخرى، إذا كان لزاماً عليهم أن يجدوا مكافئاً لكل مقولة دينية ينطقون بها في لغة كلية متاحة للكل. ومن ثم يجب على الدولة الليبرالية، إذا كان لأسباب وظيفية فقط، أن تمتنع عن إلزام الكنائس والمجتمعات الدينية بمثل هذه المعايير في الرقابة الذاتية. ومن ثم يجب عليها أن تتجنب كل ما يزيد فرض تحديدات مشابهة على مواطنيها.[xxiii]
وهذا، بالطبع، ليس الإعتراض المركزي على نظرية رولز. فبغض النظر عن الطريقة التي توزن بها المصالح في العلاقة بين الدولة والمنظمات الدينية فإن الدولة غير قادرة على تحميل مواطنيها، الذين تضمن لهم حرية التعبير الديني، عبء واجبات لا تنسجم مع متابعتهم لحياة مخلصة دينياً ـــ فهي لا تستطيع أن تتوقع منهم شيئاً مستحيلاً. هذا الإعتراض يعبّر عن فحصٍ دقيق.
ويلبس روبرت أودي واجب المدنية الذي إفترضه رولز مبداً خاصاً هو "مبدأ التبرير العلماني" عندما يكتب: "يجب أن يكون للشخص إلتزاماً منذ البداية بألاّ يدافع أو يدعم أي قانون أو سياسة عامة ... إلاّ إذا كان يملك، أو يرغب في توفير، حجج مدنية كافية لهذا الدفاع أو الدعم".[xxiv] ويضيف أودي لهذا المبدأ مطلباً يذهب أبعد من هذا، تحديداً المطالبة بأن تكون الحجج العلمانية على درجة كافية من القوة بحيث توجه سلوك المواطن نفسه، مثلاً في التصويت في الانتخابات، بإستقلال تام عن الدوافع الدينية التلقائية.[xxv] ومع إعتبار الحكم الأخلاقي للمواطن الفرد، فإن العلاقة بين الدافع الحقيقي لأفعاله وتلك الحجج التي يصوغها في المجال العام يمكن أن تكون ذات صلة. ولكن الفارق بين الحجة والفعل لا يحمل أية تبعات من منظور ما هو ضروري للحفاظ على النظام الديمقراطي ككل، تحديداً من حيث مساهمة المواطنين التي يجب أن يقوموا بها للحفاظ على الثقافة السياسية الليبرالية. وفي النهاية فإن الحجج الواضحة فقط، وفقط تلك الحجج التي لها تأثير على النظام السياسي، تستطيع في الواقع التأثير على تشكيل الأغلبية وقراراتها ضمن المؤسسات السياسية.
وبخصوص التوابع السياسية، فإننا "نحسب" فقط كل تلك القضايا والمقولات والحجج التي تجد طريقها إلى التيار غير الشخصي للتواصل العمومي وتساهم في الدافع المعرفي لأي قرار (تدعمه سلطة الدولة وتنفذه) ـــ إذا كان مباشراً في دعم قرارات الناخبين أو غير مباشر في دعم القرارات التي يتخذها قادة الأحزاب السياسية وأعضاء البرلمان أو الأشخاص الذين يحتلون مناصب (مثل القضاة والوزراء والموظفين المرتبطين بالإدارة). ولهذا السبب لن أعير إهتماماً لمطلب أودي الإضافي بشأن الدافع ولتمييزه بين الحجج المعبر عنها في المجال العام أو تلك التي تشكل دافعاً لسلوكه داخل غرفة التصويت.[xxvi] ما هو ذو أهمية ملموسة للنسخة المعيارية من الليبرالية السياسية هو ببساطة متطلب "التبرير العلماني": فإذا كان المعطى هو أن الدولة الليبرالية تحسب فقط الحجج العلمانية، فإن المواطنين المرتبطين بمعتقدٍ ما ملزمين بإقامة توازن بين قناعاتهم الدينية وقناعاتهم العلمانية ـــ وبكلمات أودي توازن لاهوتي ــ أخلاقي.[xxvii]
هذا المطلب يقابله إعتراض بأن العديد من المواطنين المتدينين لن يكون في مقدورهم أن يشرعوا في هذا الإنقسام المصطنع في ذهنهم دون أن يخاطروا بوجودهم كأشخاص منحازين. هذا الإعتراض يجب أن يتم تمييزه عن الملاحظة التجريبية بأن العديد من المواطنين الذين يتخذون موقفاً في قضايا سياسية من وجهة نظر دينية، لا يملكون المعرفة أو الخيال الكافي لإيجاد تبريرات علمانية لأنفسهم تكون مستقلة عن معتقداتهم الأصلية. هذه الحقيقة مقنعة بدرجة كافية خاصةً أن أية "يجب" تتضمن "يستطيع". ومع ذلك يمكننا أن نخطو خطوةً للأمام. هنالك وزن معياري لهذا الاعتراض المركزي، بسبب ارتباطه بالدور التكاملي الذي يلعبه الدين في حياة الشخص المعتقد، بكلمات أخرى لارتباطه بـ"مقعد" الدين في الحياة اليومية. فالشخصية المخلصة تتابع نشاطها اليومي بالرسم على إعتقادها. لنضعها بطريقة مختلفة، المعتقد الحقيقي ليس فقط مذهباً، محتوى نعتقد فيه، ولكنه مصدر للطاقة يصب للشخص ذي الإعتقاد في ممارسته ومن ثم يغذي كل حياتها أو حياته.[xxviii]
هذه النوعية الشاملة من أسلوب الإعتقاد التي تنتشر في كل مسام حياتنا اليومية تجري على الضد، يمضي الإعتراض، من أي تبديل هش للجذور الدينية للمعتقدات السياسية بأساس معرفي مختلف: "فهو أمر ينتمي إلى المعتقدات الدينية للعديد من الأشخاص المتدينين الجيدين في مجتمعنا أنه يجب عليهم تأسيس كل قراراتهم المتعلقة بالقضايا الجوهرية للعدالة على معتقداتهم الدينية. فهم لا يرونه كخيار يمكن أن يقوموا به أو لا يقوموا به. فإعتقادهم هو أنه يجب عليهم الكفاح من أجل الشمول والإتساق والتكامل في حياتهم: أي أن عليهم أن يسمحوا لكلمات الرب، وتعاليم التوراة، وأمر يسوع ومثاله، أو مهما يكن، لتشكيل وجودهم ككل، بما في ذلك، من ثم، وجودهم الاجتماعي والسياسي. فدينهم، بالنسبة إليهم، ليس عن شئٍ آخر غير وجودهم السياسي والاجتماعي".[xxix] فهمهم للعدالة المتأسس دينياً يخبرهم ما هو الصحيح سياسياً أو غير صحيح، وهذا يعني أنهم غير قادرين على تمييز أي حجج مستخلصة من الحجج العلمانية.[xxx]
إذا قبلنا هذا كإعتراض مقنع لذهني، فإن الدولة الليبرالية التي تحمي بطريقة خاصة مثل هذه الأشكال من الحياة من حيث أنها حقوق أساسية، لا تستطيع في نفس الوقت أن تتوقع من كل المواطنين أن يبرروا مقولاتهم السياسية بإستقلال من معتقداتهم الدينية أو رؤيتهم للعالم. هذا المطلب المحدد يمكن فقط أن يوضع على باب السياسيين، الذين هم ضمن مؤسسات الدولة يكونوا خاضعين للإلتزام بأن يظلوا محايدين في وجه رؤيات العالم المتنافسة؛ بكلمات أخرى يمكن فقط أن يقوم بها كل من يشغل وظيفةً عامة أو مرشح لها.[xxxi]
الشرط القبلي المؤسس لضمان الحريات المتساوية للجميع في التدين هو أن تظل الدولة محايدة تجاه رؤيات العالم المتنافسة. الإجماع على مبادئ دستورية يجب على كل المواطنين افتراض أنهم يتقاسمونها مع زملائهم المواطنين الآخرين وترتبط أيضاً بمبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة. وعلى أية حال، وفي ضوء الإعتراض سابق الذكر سيكون من التعميم الزائد للعلمنة أن نمد هذا المبدأ من المستوى المؤسسي لنطبقه على المقولات التي تقدمها المؤسسات والمواطنين في المجال العام السياسي. لا يمكننا أن نستخلص من السمة العلمانية للدولة إلتزام شخصي مباشر من كل المواطينين بأن يلحقوا مقولاتهم العمومية لمعتقداتهم الدينية بما يكافئها في لغة عامة متاحة للجميع. وبالتأكيد فإن التوقع المعياري بأن كل المواطنين المتدينين عندما يمارسون حقهم في التصويت فأنه يجب عليهم في الموقف الأخير أن يدعوا أنفسهم ينقادون للإعتبارات العلمانية هو أن يتجاهلوا واقع حياتهم المخلصة، الوجود الموجه في ضوء الإعتقاد. هذا الإفتراض تم الإعتراض عليه، على أية حال، بالإشارة إلى الوضع الواقعي للمواطنين المتدينين في البيئة العلمانية للمجتمعات الحديثة.[xxxii]
النزاع بين المعتقدات الدينية للشخص والسياسات والإعلانات المبررة علمانياً يمكن أن ينشأ فقط بسبب حقيقة أن المواطن المتدين يجب عليه أن يقبل أيضاً دستور الدولة العلمانية لأسباب وجيهة. فهو لم يعد يعش في مجموعة سكانية منسجمة دينياً ضمن دولة مشروعيتها مشروعية دينية. ومن ثم فإن يقينيات الإيمان كانت دائماً ومنذ البداية متشابكة مع معتقدات قابلة للتخطئة من طبيعة علمانية؛ فلقد فقدت ومنذ زمن بعيد ـــ في صيغة المحرك الذي لا يتحرك ولكنه ليس غير قابل للحركة ـــ حصانتها المزعومة ضد مضايقات التفكير المتأمل الحديث.[xxxiii] في التركيب المتمايز للمجتمعات الحديثة فإن اليقينيات الدينية معرضة لضغط متزايد من التأمل. هذا الإعتراض الإبستمولوجي يقابل بدوره حجة مضادة: بسبب إمكانية تأسيسها على مرجعية يمكن الدفاع عنها حتى عقلانياً، مرجعية سلطة دوغمائية لأساس صلد من حقائق الوحي التي لا تقبل الخطأ، فإن المعتقدات الوجودية المتجذرة دينياً تتحاشى ذلك النوع من التفكير الجدالي غير المتحفظ الذي تخضع له التوجهات الأخلاقية ورؤيات العالم الأخرى ، أي أن المفاهيم العلمانية للفضيلة تكشف نفسها.[xxxiv]
4
يجب ألاّ تحوّل الدولة الليبرالية المطلب المؤسسي بفصل الدين عن السياسة إلى عبء نفسي وذهني غير مشروط على مواطنيها الذين يتبعون عقيدةً ما. ويجب، بالطبع، أن نتوقع منهم الإعتراف بمبدأ أن تتم ممارسة السلطة السياسية بحياد تجاه رؤيات العالم المتنافسة. أي مواطن يجب أن يعرف ويقبل أن الحجج العلمانية فقط هي التي يتم اعتبارها فيما وراء الفاصل الذي يفصل بين المجال العام غير الرسمي من جهة والبرلمانات والمحاكم والوزارات والإدارات من جهة أخرى. ولكن كل ما هو مطلوب هنا هو القدرة المعرفية على النظر لمعتقدنا تأملياً من خارجه وعلى ربطه بوجهات النظر العلمانية. المواطنون المتدينون يمكن أن يدركوا تماماً "شرط الترجمة المؤسسية" هذا بدون أن تنقسم هويتهم إلى قسم عمومي وآخر خاص في اللحظة التي يشاركون في الخطابات العمومية. ومن ثم يجب أن يتم السماح لهم بالتعبير عن معتقداتهم وتبريرها بلغة دينية إذا لم يكن لهم القدرة على إيجاد "ترجمة" علمانية لها.
هذه الحاجة لاتغرّب بأي وسيلة مواطنين من العملية السياسية، فهم يتخذون موقعاً بقصد سياسي حتى إذا قدموا حججاً دينية. وحتى إذا كانت اللغة الدينية هي اللغة الوحيدة التي يستطيعون تكلمها في المجال العام، وإذا كانت الآراء المبررة دينياً هي الوحيدة التي يستطيعون أو يرغبون في وضعها في المناقشات السياسية، فهم على أية حال يفهمون أنفسهم كأعضاء في مجتمع مدني، يمكنهم من أن يكونوا مؤلفي القوانين التي يخضعون لها كمخاطَبين بها. وإذا كانوا يدركون أنهم يستطيعون فقط التعبير عن أنفسهم في تعبيرات دينية وتحت شرط الترجمة المؤسسية الذي يدركونه فإنهم يمكن أن يدركوا أنفسهم كمشاركين في عملية التشريع على الرغم من أن الحجج العلمانية وحدها هي التي يتم اعتبارها في هذه العملية إذا وثقوا أن زملاءهم المواطنين سيتعاونون معهم لإنجاز الترجمة المطلوبة.
السماح بمقولات دينية غير مترجمة في المجال العام السياسي يمكن أن يتم تبريره ليس فقط في ضوء حقيقة أننا لا يجب أن نتوقع تطبيق شرط رولز على أولئك المؤمنين الذين لا يستطيعون الامتناع من الاستخدام السياسي لحججهم الخاصة بدون تعريض أساليبهم في الحياة للخطر. ولا يجب أيضاً، ولأسباب وظيفية، التقليل الزائد التسرع من التركيب المتعدد لأصوات المجال العام. لأن الدولة الليبرالية لها مصلحة في تحرير الأصوات الدينية في المجال العام السياسي كما لها مصلحة في المشاركة السياسية للمنظمات الدينية. وهي يجب ألاّ تثبط الأشخاص الدينيين والمجتمعات الدينية من التعبير عن نفسها سياسياً كمجتمعات وأشخاص دينيين، لأنها لا تستطيع أن تعلم إذا ما كان المجتمع المدني من ثم سيعزل نفسه عن مصادر مفتاحية في خلق المعنى والهوية. المواطنون العلمانيون أو أولئك الذين لهم قناعات دينية أخرى يمكن أن يتعلموا تحت ظروف بعينها شيئاً ما من المساهمات الدينية؛ وسيكون هذا هو الحال، مثلاً، إذا أدركوا في محتوى الحقيقة المعياري لمقولاتهم الدينية حدس موارب بحقيقتهم.
التقاليد الدينية لها قوة خاصة في التعبير عن الحدس الأخلاقي، خاصةً فيما يخص الأشكال الضعيفة من الحياة الجماعية. وفي مناسبات الحوار السياسي الملائم، تجعل هذه القدرة الكلام الديني مرشحاً جاداً لنقل محتويات الحقيقة الممكنة والتي يمكن حينها ترجمتها من قاموس مجتمع ديني معين إلى لغة متاحة بشكل عام. وعلى أية حال، فإن الفاصل المؤسسي بين "الحياة البرية" للمجال العام السياسي والإجراءات الرسمية داخل المؤسسات السياسية يشكل أيضاً مصفاة تسمح بالمرور فقط للمساهمات العلمانية من الأصوات المتعددة في المجرى غير الرسمي للتواصل العمومي. في البرلمان، مثلاً، القواعد القائمة في إجراءات البرلمان يجب أن تمكّن رئيس البرلمان من شطب المقولات والتبريرات الدينية من المحضر. محتوى الحقيقة للمساهمات الدينية يمكن أن يدخل فقط إلى الممارسات المؤسسية للتدبر وصناعة القرار إذا حدثت منذ البداية الترجمة الضرورية في المجال السابق على البرلمان، أي في المجال العام السياسي نفسه.
ومطلب الترجمة هذا يجب أن يُدرك كواجب تعاوني يجب أن يساهم فيه وبنفس القدر المواطنون غير المتدينين، إذا لم يكن على زملائهم المواطنيين المتدينين أن يتحملوا عبئاً زائداً. فبينما يمكن للمواطنين المؤمنين أن يقدموا مساهمتهم العمومية في لغتهم الدينية التي تخصهم بحيث تخضع فقط لشرط الترجمة، فإن المواطنين العلمانيين يجب أن يفتحوا أذهانهم لمحتوى الحقيقة المحتمل في هذه التمثلات الدينية والدخول معها في حوار يمكن أن تخرج منه الحجج الدينية بحيث تتحول إلى حجج متاحة على نحو عام.[xxxv] إن مواطني المجتمعات الديمقراطية يدينون لأحدهم الآخر بحجج جيدة تدعم مقولاتهم السياسية وسلوكهم السياسي. وحتى إذا لم تخضع المساهمات الدينية للرقابة الذاتية، فهي تعتمد على أفعال الترجمة التعاونية. فبدون الترجمة الناجحة لن تؤخذ وجهة نظر المضمون الجوهري للأصوات الدينية ضمن أجندة ومفاوضات الهيئات السياسية وفي العملية السياسية بشكل أوسع. وبالتباين، فإن نيكولاس ولترستورف وبول ويثمان يرغبان في التخلي عن هذا الشرط. وهم بذلك، وعلى النقيض من زعمهما في البقاء متسقين مع مقدمات الحجة الليبرالية، فإنهم ينتهكون مبدأ أن تظل الدولة محايدة تجاه رؤى العالم المتنافسة.
وفي رأي ويثمان أن المواطنين لهم الحق في تبرير مقولاتهم السياسية العمومية في سياق رؤية شاملة للعالم أو في سياق مذهب ديني. وفي هذه العملية يجب أن يلبوا شرطين. أولاً، يجب أن يكونوا مقتنعين بأن لحكومتهم الحق في تنفيذ القوانين والسياسات التي يدعمونها بالحجج الدينية. ثانياً، يجب أن تكون لديهم الرغبة في الكشف عن أسباب إعتقادهم هذا. وهذه نسخة مخففة من الشرط[xxxvi] الذي يطالب بالخضوع لاختبار تعميم يجري من منظور ضمير المتكلم. بهذه الطريقة، يرغب ويثمان في أن يجعل المواطنين يصدرون أحكامهم عن وجهة نظر تصدر من فهم للعدالة حتى إذا أدركوا هذه العدالة من وجهة نظر دينية أو أي رؤية جوهرية أخرى للعالم. يجب على المواطنين أن يقدروا، ولو من منظور مذهبهم الخاص، ما الذي يمكن أن يكون فاضلاً بالنسبة للجميع وبالتساوي. وعلى أية حال، فإن القاعدة الذهبية ليست هي الأمر المطلق؛ فهي لا تلزم كل فرد من بين كل الناس المعنيين أن يفترض بالتبادل منظور الشخص الآخر.[xxxvii] وبهذا الأسلوب، يشكل أي منظور خاص بالشخص يعاين منه العالم أفقاً لا يمكن تجاوزه لتدبره في العالم: "فالشخص الذي يجادل في المجال العام في المعايير يجب أن يكون على استعداد للتصريح بما يفكر أنه يبرر تفعيل الحكومة لهذه المعايير، ولكن التبرير الذي هو مستعد لتقديمه يمكن أن يكون معتمداً على مزاعم، بما في ذلك المزاعم الدينية، يرى المدافعون عن المنهج المعياري أنها غير متاحة للجميع".[xxxviii]
وبما أنه ليس هنالك مصفاة مؤسسية منظورة بين الدولة والمجال العام، فإن هذه النسخة لا تستبعد إمكانية تنفيذ السياسات والبرامج القانونية فقط على أساس العقيدة الدينية للأغلبية الحاكمة. وهذه النتيجة توصل إليها بوضوح نيكولاس ولترستورف، الذي لم يكن يرغب في إخضاع الاستخدام السياسي للحجج الدينية لأية قيود مهما كانت.[xxxix] إذا فتحنا البرلمانات على معارك العقائد الدينية، فإن السلطة الحكومية يمكن أن تصبح وبطريقة قاطعة أداة بيد الأغلبية الدينية التي تؤكد إرادتها ومن ثم تنتهك العملية الديمقراطية.
وبالطبع فإن ما هو غير مشروع ليس تصويت الأغلبية، بإفتراض أنه تم على وجهه الصحيح، وإنما هو انتهاك المكون الجوهري الآخر للعملية، وبالتحديد طبيعة المناقشة التي جرى تدبرها قبل التصويت. ما هو غير مشروع هو انتهاك مبدأ الحيادية إذ طبقاً لهذا المبدأ يجب أن تصاغ كل القرارات السياسية الإدارية في لغة متاحة لجميع المواطنين على قدم المساواة، كما يجب أن يكون ممكناً تبريرها في هذه اللغة أيضاً. ينقلب حكم الأغلبية إلى قمع إذا استخدمت هذه الأغلبية الحجج الدينية في مجرى عملية تكوين الإرادة السياسية والرأي السياسي ورفضت أن توفر تلك الحجج المتاحة في العموم والتي تستطيع الأقلية الخاسرة، إذا كانت علمانية أو صاحبة معتقد مختلف، أن تتابعها وتقييمها في ضوء المعايير المشتركة. العملية الديمقراطية لها القدرة على توفير المشروعية وبطريقة مضبوطة لسببين معاً كونها شاملة لكل المشاركين ولطابعها التدبري، لأن وجهة النظر المبرَّرَة للحصيلة العقلانية يمكن تأسيسها فقط على هذا الأساس على المدى الطويل.
ولقد حجب ولترستورف هذه الحجة برفضه لكامل حجة خلفية الإجماع المعقول على الأسس الدستورية. من وجهة النظر الليبرالية، تفقد السلطة السياسية عنفها الملازم لها فقط بفضل التهدئة القانونية التي توفر إجماعاً يقوم على مبادئ متفق عليها.[xl] ويسجل هنا ولترستورف إعتراضات تجريبية لمعارضة هذا الفهم. فهو يسخر من الافتراضات المثالية المتجسدة في الممارسة الخالصة للدولة الدستورية، باعتبارها "وفاءً بروتستانياً بالمثال" (على الرغم من أن مبدأ التوحيد البروتستانتي لا يتطابق والعملية الديمقراطية). وهو يرى أن المحاججة بين المفهومات المختلفة للعدالة التي تتأسس على ديانات أو رؤيات مختلفة للعالم لا يمكن أن تحل بالافتراض العام لخلفية إجماع شكلي مهما يكن. وعلى الرغم من أنه يريد أن يستدعي مبدأ الأغلبية من الإجماع الليبرالي، فإن ولترستورف يتخيل أن قرارات الأغلبية في مجتمع منقسم أيديولوجياً يمكن أن تؤدي في أفضل حالاتها إلى تلاءم ممانع مع طريقة حياة modus vivendi. وستشعر الأقلية المهزومة وكأنها تقول: "أنا لا أوافق، أنا أخضع ـــ إلاّ إذا وجدت أن القرار مخيف حقاً".[xli]
وليس واضحاً من هذه المقدمة لماذا لا يتعرض المجتمع السياسي في أي وقت ببساطة لخطر التفكك إلى صراعات دينية. بالتأكيد، إن القراءة التجريبية المعتادة للديمقراطية الليبرالية تعتبر دائماً قرارات الأغلبية كخضوع مؤقت للأقلية للقوة الفعلية للحزب السائد عددياً. ولكن هذه النظرية النفعية تفسر قبول عملية التصويت بسبب رغبة الذين اختاروا عقلانياً المساومة؛ فهي تحسب مع أحزاب تطمح وفقاً لتفضيلاتها إلى أكبر نصيب ممكن من المنافع الأساسية، مثل المال والأمن ووقت الرفاه. الأحزاب يمكن أن تصل إلى مساومات لأنها كلها تطمح إلى نفس الأنواع من المنافع القابلة للتقسيم. ومع ذلك فإن هذا الشرط لا يمكن الوفاء به على نحو دقيق بمجرد خمود الصراعات على النصيب من ذات المنافع المادية، وإنما يحل على أساس القيم المتنافسة و"منافع الخلاص" المستبعدة لبعضها البعض. الصراع على القيم الوجودية بين جماعات الإيمان لا يمكن حله بالمساومة. وإنما يمكن أن يتم إحتوائه، على أية حال، بنفي أية حدة سياسية في وجود خلفية الإجماع المفترض على مبادئ دستورية.
5
الصراع بين رؤيات العالم والمذاهب الدينية التي تطرح زعماً بتفسير موقع الإنسان من العالم ككل لا يمكن أن تطرح على الآخرين على المستوى المعرفي. وبمجرد ما يخترق أختلاف الرأي المعرفي عميقاً إلى أسس التكامل المعياري بين المواطنين، يتفكك المجتمع السياسي إلى طوائف غير قابلة للتصالح ولذلك فهي تستطيع فقط العيش على أساس طريقة حياة غير مستقرة. في غياب الرابط التوحيدي للتضامن المدني، الذي لا يمكن أن يفرض بالقانون، لا يدرك المواطنون أنفسهم كمشاركين أحرار ومتساويين في الممارسات المشتركة لتكوين الرأي السياسي والإرادة السياسية حين يدينون لأحدهما الآخر بالحجج لمقولاتهم السياسية وسلوكهم السياسي. هذه التوقعات المتبادلة بين المواطنين هي التي تميّز المجتمع المتكامل بالقيم الدستورية من المجتمع المنقسم عبر خطوط انقسام رؤيات العالم المتنافسة. والأخيرة تحرر المواطنين العلمانيين والدينيين في تعاملهم الواحد مع الآخر من أي إلتزامات متبادلة لتبرير أنفسهم في الحوار السياسي أحدهما أمام الآخر. في مثل هذا المجتمع فإن خلفية المعتقدات المتنازعة والروابط الثقافية الثانوية تهزم الإجماع الدستوري المفترض والتضامن المدني المتوقع؛ وفي حالة النزاعات التي تتجذر عميقاً، لا يحتاج المواطنون إلى التلاءم مع أو مواجهة أحدهم الآخر كأشخاص آخرين.
افتراض التبادلية السابق ذكره وعدم الإهتمام المتبادل السابق ذكره أيضاً؛ الإثنان معاً يجدان التبرير بحقيقة أن نسخة المعيار الليبرالية داخلياً متناقضة ذاتياً إذا كانت تنسب إلى كل المواطنين سلوكاً سياسياً يوزع في الحقيقة أعباءً معرفية غير متساوية بين المواطنين المتدينين والمواطنين العلمانيين. مطلب الترجمة للحجج الدينية وما يتبعه من أسبقية مؤسسية للحجج العلمانية يتطلب من المواطنين المتدينين جهداً للتعلم والتلاءم غير مطلوب من المواطنين العلمانيين القيام به. وهذا سيتطابق بأي درجة مع الملاحظة التجريبية بأنه حتى في الكنائس فإن هناك مقدار معين من الكراهية قد تواجد لمدة طويلة تجاه الدولة العلمانية. إن واجب القيام بالاستخدام العمومي للعقل يمكن أن يتم فقط تحت شروط أولية معرفية معينة. ومع ذلك فإن السلوك المعرفي المطلوب هو تعبير عن ذهنية معطاة ولا يمكن أن تصير، كالدوافع، مادة للتوقعات المعيارية والمطالب السياسية. أن أية "يجب" تفترض "يمكن". والتوقعات المعيارية لأخلاق المواطنة ليس لها مطلقاً تأثير إلاّ إذا وقع التغيير المطلوب في الذهنية أولاً؛ وفي غياب هذا التغيير فإن هذه الأخلاق لن تخدم سوى إشعال الكراهية في جانب أولئك الذين يشعرون أنهم تمت إساءة فهمهم واستنزفت قدراتهم.
في الثقافة الغربية، على أية حال، نلاحظ في الحقيقة تغييراً في شكل الوعي الديني منذ حركة الإصلاح الديني والتنوير. ويصف السوسيولوجيون هذا "التحديث للوعي الديني" كاستجابة للتحدي الذي واجهته التقاليد الدينية في نظرتها لحقيقة التعددية، ولظهور العلم الحديث، وانتشار القانون الوضعي والأخلاق الدنيوية معاً. في هذه الجوانب الثلاثة، يجب أن تطور المجتمعات التقليدية للإيمان إختلافاً معرفياً لم ينشأ عند المواطنين العلمانيين، أو ينشأ عندهم فقط عندما يرتبطون بمذاهب تقوم على ذات طريقة الدوغمائية:
يجب أن يطور المواطنون الدينيون سلوكاً معرفياً تجاه الأديان الأخرى ورؤيات العالم الأخرى التي يواجهونها في عالم الخطاب الذي كان يحتله من قبل دينهم فقط. وهم سينجحون بقدر ما سيربطون معنقداتهم الدينية تأملياً بمقولات مذاهب الخلاص المنافسة بطريقة لا تجعلهم يهددون زعمهم الخاص الحصري بالحقيقة.
أكثر من ذلك، يجب أن يطور المواطنون الدينيون موقفاً معرفياً تجاه إستقلال المعرفة العلمانية عن المعرفة المقدسة وتجاه الاحتكار المؤسسي للخبراء العلميين الحديثين. وهم سينجحون فقط إذا ما أدركوا من وجهة نظرهم الدينية العلاقة بين المعتقدات الدوغمائية والمعتقدات العلمانية بطريقة لا تجعل التقدم التلقائي للمعرفة العلمانية يتناقض مع إيمانهم.
وأخيراً، يجب أن يطور المواطنون الدينيون موقفاً معرفياً تجاه الأولوية التي تتمتع بها الحجج العلمانية في المجال السياسي. وهذا يمكن أن ينجح فقط إلى المدى الذي يربطون فيه وبقناعتهم بين الفردية المساواتية وكلية القوانين والأخلاق الحديثتين بمقدمات مذاهبهم الشاملة.
هذه المهمة الشاقة للتأمل الذاتي التأويلي يجب أن يتم إنجازها من داخل التقاليد الدينية. وفي ثقافتنا، أنجز اللاهوت جوهرياً هذه المهمة، وفي الجانب الكاثوليكي تم انجاز هذه المهمة أيضاً بواسطة فلسفة الأديان التي تقدمت بطريقة محزنة في تفسير معقولية الإيمان.[xlii] ومع ذلك فإن الإيمان والممارسة في المجتمع الديني هما اللذان يقرران في اللحظة الأخيرة إذا ما كانت المعالجة الإعتقادية لتحديات الحداثة المعرفية "ناجحة" أم لا؛ وحينها فقط سيقبلها المؤمن الحقيقي كنتيجة لـ"عملية تعلم". ويمكن أن نصف السلوك المعرفي الجديد كسلوك "مكتسب بالتعلم" فقط إذا نشأ من إعادة بناء، مقنعة بالتأكيد للمؤمنين، للحقائق المقدسة في ضوء شروط حياة حديثة لم تعد توجد بدائل لها. أما إذا كان هذا السلوك محض نتيجة عارضة لتأقلم سلوكي وأضطراري، فإننا يجب أن نجيب على سؤال فوكو المتعلق بالكيفية التي تم بها الوفاء بالشروط المعرفية لإقامة الأخلاق الليبرالية للمواطنة ــ بالتحديد، بسبب يقظة ذلك النوع من "السلطة الخطابية" التي تؤكد نفسها في الشفافية المزعومة للمعرفة المستنيرة. وبالطبع، فإن هذه الإجابة ستتناقض مع الفهم الذاتي المعياري للدولة الدستورية. بل أن إجابة مثل هذه، بالطبع، تتناقض مع الفهم الذاتي المعياري لأية دولة دستورية.
ما يهمني، ضمن هذا الإطار الليبرالي، هو السؤال الذي لم تتم الإجابة عليه هل بعد كل ذلك يلقي مفهوم المواطنة بعد مراجعته كما اقترحت أعباء غير متساوية على التقاليد الدينية والمجتمعات الدينية. من الناحية التاريخية، كان على المواطنين المتدينين أن يتعلموا تبني السلوك المعرفي تجاه بيئتهم العلمانية، وهو سلوك يتمتع به أصلاً المواطنون العلمانيون مما يعني أنهم بالدرجة الأولى لا يتعرضون لنزاع معرفي مشابه. وعلى أية حال فإن المواطنين العلمانيين، بالمثل، لا يوفرهم العبء المعرفي لأن السلوك العلماني لا يكفي للتعاون المتوقع مع زملائهم المواطنين المتدينين. ويحتاج فعل التلاءم المعرفي هذا لأن يتم تمييزه من محض فضيلة التسامح السياسي. فما هو على المحك ليس شعور ما بالاحترام للأهمية الوجودية المحتملة للدين بالنسبة للشخص الآخر. فما يجب أن نتوقعه أيضاً من المواطنين العلمانيين أكثر من ذلك، نتوقع منهم تجاوزاً تأملياً لفهمهم الذاتي العلماني للحداثة.
طالما أن المواطنين العلمانيين مقتنعين بأن التقاليد الدينية والمجتمعات الدينية هي إلى حدما بقايا أثرية من المجتمعات ما قبل الحديثة تستمر في الوجود في حاضرنا، فإنهم سيفهمون حرية التدين كنسخة ثقافية من الحفاظ على نوعٍ يتهدده خطر الإنقراض. فمن وجهة نظرهم، لم يعد للدين أي مبرّر داخلي للوجود. ومبدأ فصل الدولة عن الكنيسة يكون بالنسبة إليهم له فقط المعنى الدنيوي لتوفير اللا مبالاة. في القراءة العلمانية، نستطيع أن نتصور، في المدى الطويل، أن الرؤى الدينية ستذوب حتماً تحت شمس النقد العلمي وأن المجتمعات الدينية لن تتمكن من مقاومة الضغوط الكاسحة للتحديث الثقافي والاجتماعي. المواطنون الذين يتبنون مثل هذا الموقف المعرفي تجاه الدين لا يمكن، وبطريقة واضحة، أن يأخذوا بجدية المساهمة الدينية في الجدال في القضايا السياسية أو حتى المساعدة في تقييمها إذا ما كان فيها مادة ما يمكن أن تحتمل التعبير عنها في لغة علمانية وتبريرها بحجج علمانية.
تحت المقدمات المعيارية للدولة الدستورية، يكون لقبول المقولات الدينية في المجال العام السياسي معنى فقط إذا كان في إمكاننا أن نتوقع عدم رفض كل المواطنين لأي مادة معرفية محتملة في هذه المساهمات منذ البداية ــ بينما في نفس الوقت نحترم أولوية الحجج العلمانية وشرط الترجمة المؤسسية. هذا ما يفترضه المواطنون المتدينون على أية حال. ولكنها في جانب المواطنين العلمانيين تفترض عقلية هي أي شئ إلاّ كونها حالة طبيعية في المجتمعات العلمانية في الغرب. وعلى العكس، فإن رؤية المواطنين العلمانيين لأنفسهم كمواطنين يعيشون في مجتمع ما بعد علماني يتم ضبطه معرفياً على الوجود المستمر للمجتمعات الدينية يتطلب أولاً تغييراً في الذهنية ليس أقل تدقيقاً معرفياً من موائمة الوعي الديني ببيئة متزايدة العلمانية بإستمرار. وبالإتفاق مع التغير في هذا المبدأ الأساسي، فإن المواطنين العلمانيين يجب أن يمسكوا بخلافهم مع الآراء الدينية كخلاف متوقع ومقبول عقلانياً.
وفي غياب هذا الشرط المعرفي، فإن الاستخدام العمومي للعقل لا يمكن أن يلزم المواطنين، على الأقل ليس بمعنى أنه يجب على المواطنين العلمانيين أن يرغبوا في الدخول والانخراط في مناقشة محتوى المساهمات الدينية بقصد ترجمتها، إذا كان هنالك مثل هذا المحتوى، إذا كانت بداهات وحجج مقنعة أخلاقياً إلى لغة متاحة على نحو عام.[xliii] وهنا نفترض ذهنية معرفية يجب أن تنشأ من التقييم النقدي الذاتي لحدود العقل العلماني.[xliv] على أية حال، هذا الشرط المعرفي يشير إلى أن نسخة أخلاق المواطنة التي أقترحها فقط يمكن أن نتوقعها من كل المواطنين بالتساوي إذا خضع المواطنون العلمانيون والمتدينون معاً لعمليات تعلم متكاملة.
6
إن ما يبدو أنه تخطي نقدي لما هو بالنسبة إلى عقلي وعياً علمانياً ضيقاً هو نفسه بالضرورة مسألة جدالية ــ على الأقل إلى نفس المدى الذي تكون عليه الاستجابة للتحديات المعرفية للحداثة التي تنزع عنها أسطوريتها. فبينما نحن نلاحظ فعلياً تحديث الوعي الديني بنظرة رجعية ونعتبره موضوعاً للاهوت، فإن الخلفية الطبيعية للعلمانية ما تزال موضوعاً لحوار فلسفي مستمر ومفتوح النهايات. الوعي الديني الذي نعيشه في مجتمع ما بعد علماني ينعكس فلسفياً في شكل فكر ما بعد ميتافيزيقي. هذا الأسلوب من التفكير لا يستنفذه التأكيد على محدودية العقل ولا المزاوجة بين السلوك القابل للتخطئة والسلوك المعادي للشك التي تميز العلم الحديث منذ كانط وبيرس. والنظير العلماني للتحديث الديني هو الموقف غير الديني، ولكنه موقف فلسفي غير إختزالي. فهو يمتنع، من جهة، عن إصدار الأحكام على الحقائق الدينية بينما يصر (بطريقة غير نزاعية) على رسم فاصلٍ محددٍ بين الإيمان والمعرفة. وهو يرفض، من الجهة الأخرى، الفهم العلموي المحدود للعقل وإقصاء المذاهب الدينية من أصول العقل.
الفكر ما بعد الميتافيزيقي يمتنع راضياً عن إصدار مقولات أنطولوجية عن تأسيس كل الموجودات؛ ولكن هذا لا يعني أن نختزل معرفتنا على حاصل مجموع المقولات التي تمثل "حالة العلم" الراهنة في كل وقت. العلموية تغرينا بطمس الحدود بين المعرفة العلمية الصحيحة، التي تكسب ارتباطها بالنسبة إلى الكيفية التي يفهم بها الإنسان نفسه وموقعه في الطبيعة ككل، من جهة، والرؤية الطبيعية للعالم التي نستخلصها تركيبياً من هذه المعرفة، من الجهة الأخرى.[xlv] هذا الشكل الراديكالي من المذهب الطبيعي يحط بقيمة كل أنواع المقولات التي لا يمكن ردها إلى ملاحظات مضبوطة أو افتراضات قانونية أو تفسيرات سببية؛ بكلمات أخرى، الأحكام الأخلاقية والقانونية والتقييمية لا تقل استبعاداً عن الأحكام الدينية. كما يرينا النقاش المتجدد في الحرية والحتمية، وكما يوفر التقدم في علم الجينات الحيوية، وبحوث الدماغ والروبوتات محفزات لنوع من طبعنة العقل الإنساني تضع محل التساؤل فهمنا العملي لأنفسنا كأشخاص مسئولين عما نفعله ويشجع الدعوة لمراجعة القانون الجنائي.[xlvi] الموضعة الذاتية الطبيعية للأشخاص التي تخترق حياتنا اليومية لا تنسجم مع فكرة التكامل السياسي التي تنسب لكل المواطنين إفتراض خلفية الإجماع المعياري.
أحد الدروب الواعدة إلى مفهوم للعقل متعدد الأبعاد لم يعد مثبتاً حصرياً على مرجعية العالم الموضوعي وإنما أصبح واعياً بالنقد الذاتي بحدوده هو إعادة بناء تاريخ تكوينه هو نفسه. وفي هذا الخصوص فإن الفكر ما بعد الميتافيزيقي لا يحصر نفسه في تراث الغرب الميتافيزيقي. وفي نفس الوقت، هو أيضاً يتأكد من علاقته الداخلية بديانات العالم تلك التي تعود أصولها، مثلها مثل أصول الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، إلى أواسط الألفية الأولى قبل ميلاد المسيح ــ بكلمات أخرى تعود إلى ما يسميه يسبرز "العصر المحوري". الأديان التي تجد جذورها في هذه الفترة أنجزت طفرتها المعرفية من السرديات الأسطورية إلى العقل الذي يميز بين الجوهر والعرض بطريقة تشبه تماماً ما فعلته الفلسفة اليونانية. وفي مجرى "التحويل الهيللنستي للمسيحية"، ركبت الفلسفة بدورها الموجة وتمثلت عدد من الدوافع والمفاهيم الدينية، خاصةً تلك التي توجد في تاريخ الخلاص.[xlvii]
لا يمكن فهم الشبكة المعقدة للتراث فقط بما ينسجم مع تاريخ الوجود، كما زعم هيدجر.[xlviii] المفاهيم الإغريقية مثل "الاستقلال" و"الفردية" أو المفاهيم الرومانية مثل "التحرر" و"التضامن" مضى عليها زمن طويل منذ أن تم تزويدها بمعاني من أصل يهودي ــ مسيحي.[xlix] ولقد وجدت الفلسفة بطريقة متكررة في مواجهاتها مع التقاليد الدينية محفزات تجديدية، بما في ذلك التقاليد الإسلامية، إذا نجحت في تحرير المادة المعرفية من غلافها الدوغمائي في مصهر الخطاب العقلاني. وأفضل مثالين على ذلك هما كانط وهبجل. وتوفر لنا مواجهة أبرز فلاسفة القرن العشرين مع كاتب ديني مثل كيركجارد دليلاً إضافياَ، كيركجارد الذي يفكر بطريقة ما بعد ميتافيزيقية ولكن ليست ما بعد مسيحية.
بعض التقاليد الدينية ستبدو، حتى ولو كانت تحتل المسرح في زمنها كآخر العقل الغامض، باقية في الحاضر بطريقة أكثر حيوية من الميتافيزيقيا. لن يكون معقولاً أن نرفض بدون سبب فكرة أن أديان العالم ــ الأثر الوحيد الباقي من الثقافات البعيدة للإمبراطوريات القديمة ــ قد ضمنت لنفسها مكاناً في المعمار المتمايز للحداثة إذ أن مادتها المعرفية لم تتضاءل بعد. لا يمكننا على أي نحو استبعاد فكرة أنها ما تزال تحمل إمكاناً سيمانطيقياً يحرر طاقة ملهمة لكل المجتمع بمجرد أن تطلق محتواها من الحقيقة الدنيوية.
باختصار، الفكر ما بعد الميتافيزيقي مهيأ لأن يتعلم من الدين، ولكن يظل غير ديني في هذه العملية. فهو يصر على الإختلاف بين يقينيات الإيمان، من جهة، وصلاحية المزاعم التي يمكن أن يتم انتقادها في المجال العام، من جهة أخرى؛ ولكنها تمتنع عن الإفتراض العقلاني بأنها يمكنها بنفسها أن تقرر الجزء العقلاني من المذاهب الدينية والجزء غير العقلاني منها. المحتويات التي يمتلكها العقل بواسطة الترجمة يجب ألاّ يفقدها الإيمان. وعلى أية حال، فإن الدفاع عن الإيمان بوسائل فلسفية ليس هو مهمة الفلسفة الحقة. وفي أفضل الأحوال، تحدد الفلسفة اللب الغامض للتجربة الدينية عندما تتأمل في المعنى الداخلي للإيمان. هذا اللب يجب أن يظل غريباً إلى أقصى حد عن الفكر الخطابي كما هو لب التجربة الجمالية، التي وبطريقة مماثلة يمكن فقط أن يتم تحديدها لا النفاذ إليها عن طريق التأمل الفلسفي.
السلوك المتناقض للفكر ما بعد الميتافيزيقي تجاه الدين يتطابق مع السلوك المعرفي الذي يجب أن يتبناه المواطن العلماني، إذا كان عليه أن يتهيأ لتعلم شئ ما من المساهمات الدينية للمواطنين المتدينين في المناقشات العامة، شئ ما يمكن أيضاً أن يتم التعبير عنه بلغة متاحة بطريقة عامة. الإمتلاك الفلسفي لأصول العقل يبدو أنه يلعب دور التأمل الذاتي للعلمانية كما تلعب أعمال إعادة بناء اللاهوت دور التأمل الذاتي للإيمان الديني. العمل المطلوب لإعادة البناء الفلسفية تمضي لترينا أن أخلاق المواطنة الديمقراطية تفترض أن المواطنين العلمانيين يعكسون ذهنية أقل تطلباً من الذهنية المطابقة لزملائهم المتدينين. ولهذا السبب فإن العبء المعرفي الملقى على الجانبين لاكتساب السلوك المعرفي المناسب، على أي نحو هو موزع بطريقة غير متساوية.
إن حقيقة "الاستخدام العمومي للعقل" (في الفهم الذي قدمته له) الذي يعتمد على الشروط المعرفية التي تتطلب عمليات تعلم لها نتائج لافتة ولكنها غامضة. فهي تذكرنا أولاً، أن الدولة الديمقراطية الدستورية، تلك التي تعتمد على شكل تدبري من السياسات، هي شكل متمايز معرفياً من الحكومة، وكما كانت، حساسة تجاه الحقيقة. "ديمقراطية ما بعد الحقيقة"، مثل تلك التي رأتها النيويورك تايمز في الأفق أثناء الإنتخابات الرئاسية الأخيرة، لن تكون أبداً ديمقراطية. أضف إلى ذلك، يجذب شرط الذهنيات المركبة انتباهنا إلى ضرورة وظيفية مشكوك في أن الدولة الليبرالية تستطيع أن تقابلها بصعوبة بتوظيف وسائلها. الاستقطاب بين رؤيات العالم في مجتمع منقسم بين معسكرين علماني وأصولي، يرينا، مثلاً، أن هنالك عدد غير كافٍ من المواطنين ينسجمون مع المبدأ الأساسي للاستخدام العمومي للعقل ومن ثم يهدد التكامل السياسي. مثل هذه الذهنيات هي ذهنيات سابقة على السياسي في الأصل، على أية حال. وهي تتغير تدريجياً وبطريقة غير مرئية استجابةً للشروط المتغيرة للحياة. عملية طويلة الأجل من مثل هذا النوع تتسارع في أفضل حالاتها في وسط الخطابات العامة بين المواطنين أنفسهم. هل هذه عملية معرفية تراكمية في جميع الأحوال، عملية يمكن أن نصفها كعملية تعلم في المقام الأول؟
7
النتيجة الثالثة أكثر إقلاقاً من الجميع. لقد إفترضنا، إلى الآن، أن مواطني الدولة الدستورية يستطيعوا أن يكتسبوا الذهنيات المطلوبة بالشروع في "عمليات تعلم متكاملة". الاعتبار التالي يرينا أن هذا الإفتراض ليس غير إشكالي: فمن أي منظور يمكن أن نزعم أن تجزء المجتمع السياسي، إذا سببه اصطدام المعسكرين العلماني والأصولي، يمكننا أن نرده إلى "عجز تعليمي"؟ دعنا نستحضر في عقلنا هنا التغير في المنظور الذي أحدثناه حين تحركنا من التفسير المعياري لأخلاقيات المواطنة إلى البحث الإبستمولوجي في الشروط المعرفية للتوقعات العقلانية بأن المواطنين قادرين على الوفاء بالإلتزامات التي تخص كل منهم. وهو تغيير في السلوك المعرفي يجب أن يقع في الوعي الديني ليصبح تأملياً وللوعي العلماني ليتجاوز محدداته. ولكننا نستطيع أن نبرر هذه التغيرات في الذهنيات كـ"عمليات تعلم" متكاملة فقط من وجهة نظر فهم ذاتي للحداثة خاصة وممتلئة بالمعيارية.
الآن، وجهة النظر هذه يمكن الدفاع عنها في إطار نظرية اجتماعية تطورية. وبعيد تماماً من الموقف الجدلي الذي تتخذه هذه النظريات داخل أنظمتها الأكاديمية ذاتها، ومن وجهة نظر النظرية السياسية المعيارية لا يجوز لنا في أية لحظة أن نفرض على المواطنين توقعنا بأن يصفوا أنفسهم طبقاً، مثلاً، لنظرية التطور الديني، أو حتى يقيمون أنفسهم كرجعيين معرفياً. المشاركون فقط ومنظماتهم الدينية هم الذين يستطيعون أن يحلوا مسألة إذا ما كان إيمانهم "الذي تم تحديثه" ما يزال هو الإيمان الحقيقي أو لا. وإذا ما سينتصر أو لن ينتصر في النهاية، من الجهة الأخرى، ذلك الشكل من العلمانية المبرر علموياً على المفهوم الأكثر شمولاً للعقل والمدرك على أساس بعض الفكر ما بعد الميتافيزيقي وهو، في الوقت الراهن، نقطة خلافية بين الفلاسفة أنفسهم. على أية حال، إذا كان على النظرية السياسية أن تترك بدون إجابة مسألة إمكانية أن يتم اكتساب الذهنيات المطلوبة وظيفياً من خلال عملية التعلم، فإن على المنظرين السياسيين أن يقبلوا بإمكان أن يظل المفهوم المبرر معيارياً مثل "الاستخدام العمومي للعقل" ولأسباب جيدة ممتحناً بالضرورة بين المواطنين أنفسهم. لأن الدولة الليبرالية مسموح لها أن تواجه مواطنيها فقط بالواجبات التي يمكن أن يدركوها كتوقعات معقولة؛ وهذه ستكون الحالة فقط إذا اكتسبنا بدورنا السلوك المعرفي الضروري على بصيرة، أي من خلال "التعلم".
يجب ألاّ يتم تضليلنا بأن نصل إلى الاستنتاجات الخاطئة من هذه النظرية السياسية المحددة لنفسها. نحن، كفلاسفة وكمواطنين، نستطيع أن نقتنع تماماً بأن القراءة القوية للأسس الليبرالية والجمهورية للدولة الدستورية يجب أن ونستطيع أن ندافع عنها بنجاح في المجال الخاص وفي المجال السياسي. على أية حال، هذا الخطاب فيما إذا كان الدستور الليبرالي وأخلاق المواطنة الديمقراطية صحيحة وإذا ما كنا نفهمها فهماً صحيحاً يقودنا حتماً إلى المجال الذي لن تكون فيه الحجج المعيارية كافية. ويمتد الجدال أيضاً إلى السؤال المعرفي عن العلاقة بين الإيمان والمعرفة، الذي يلمس هو نفسه العناصر المفتاحية لفهم الحداثة الأساسي لنفسها. ومن المثير للإهتمام بدرجة كافية أن الجهود اللاهوتية والفلسفية لتعريف العلاقة بين الإيمان والمعرفة تولد أسئلة عميقة عن أصول الحداثة.
دعونا نعود لسؤال رولز: "كيف يكون ممكناً لأهل الإيمان، وكذلك اللا دينيين، أن يصادقوا على نظام علماني يمكن أن لا تزدهر مذاهبهم الشاملة تحت ظله أو حتى تنحسر؟"[l] في التحليل النهائي، السؤال لا يمكن الإجابة عليه بالرجوع إلى التفسيرات المعيارية للنظرية السياسية. دعونا نأخذ مثال "الأرثوذكسية الراديكالية"،[li] ذلك المذهب الذي يأخذ المقاصد والأفكار الأساسية للاهوت السياسي لكارل شميث ويطورها بأدوات التفكيكية. فإذا كان لاهوتيي هذا التقليد ينكرون على الحداثة أي حق داخلي[lii] بقصد أن يوفروا مرة أخرى تجذيراً وجودياً وفق قواعد معينة للعالم الحديث في "واقع الرب"، فإن الحوار يجب أن يتم في ميدان الخصم المقابل. بكلمات أخرى، الافتراضات اللاهوتية لا يمكن مواجهتها بحجج لاهوتية، والافتراضات التاريخية والابستمولوجية لا يمكن مواجهتها بحجج تاريخية وابستمولوجية.[liii]
ونفس الشئ ينطبق على الجانب الاخر. سؤال رولز يطرح بالتساوي على الجانبين معاً، الجانب الديني والجانب العلماني. والحوار المتمايز للقضايا الفلسفية الأساسية هو بالتأكيد ضرورة لا محيد عنها إذا كانت رؤية العالم الطبيعية تكشف رصيد المعرفة العلمية الصحيحة. لا يمكن أن يكون هناك اشتقاق للمطلب العمومي بأن تنحي المجتمعات الدينية جانباً بعد طول انتظار المقولات التقليدية عن وجود الرب و، أو، الحياة الأبدية من وجهة نظر علم الأعصاب الحديث في إعتماد كل العمليات العقلية على العمليات الدماغية، وبدون أن ننتظر حتى تتضح الأمور، من وجهة النظر الفلسفية، المعنى التداولي لمقولات الإنجيل التي يتم افتراضها في سياق مذهب المجتمعات الدينية وممارستها.[liv] وسؤال الكيفية التي يرتبط بها العلم من هذه الزاوية بالمذهب الديني يلمس مرة أخرى أصول فهم الحداثة لنفسها. هل العلم الحديث ممارسة يمكن فهمها فهماً كاملاً وفقاً لأسسها هي نفسها، بحيث تستطيع أن تقيم مقاييس كل حقائقها وأخطائها؟ أو يجب أن نفسر العلم الحديث كنتيجة لتاريخ العقل الذي يشمل أديان العالم؟
طور رولز "نظريته في العدالة" إلى "ليبرالية سياسية" لأنه أدرك بطريقة متزايدة الأهمية التي لا تقاس لـ"حقيقة التعددية". لقد أدى خدمة عظيمة للأجيال القادمة بالتفكير منذ وقت مبكر في الدور السياسي للدين. ومع ذلك فإن هذه الظواهر وعلى نحو دقيق يجب أن تكون سبباً في نظرية سياسية مفترضة لها موقف حر وواعية بحدود الحجج المعيارية. بعد كل ذلك، فإن أمر قبول الاستجابة الليبرالية للتعددية الدينية بواسطة المواطنين أنفسهم كإجابة وحيدة صحيحة يعتمد ليس أخيراً على ما إذا كان المواطنين المتدينين والعلمانيين، كل من زاوية منظوره، مستعدين للشروع في فهم العلاقة بين الإيمان والمعرفة فهماً يمكنهم أولاً من السلوك بطريقة متأملة ذاتياً تجاه بعضهما البعض في المجال العام السياسي.[lv]
Jürgen Habermas
Johann-Wolfgang-Goethe Universität
Grüneburgplatz 1
D 60629 Frankfurt/M
Germany
هذا المقال مترجم عن الترجمة الإنجليزية التي قام بها جيرمي قاينس Jeremy Gaines التي تم نشرها أولاً كفصل خامس من الكتاب "بين المذهب الطبيعي والدين" الذي هو أصلاً ترجمة عن الألمانية لنفس الكتاب.
First published in English as chapter 5 of Between Naturalism and Religion (Cambridge: Polity Press, 2006). Originally published in Zurischen Naturalismus und Religion (Frankfurt: Suhrkamp Verlag, 2005).
--------------------------------------------------------------------------------
[i] Cf. Berger (ed.) 1999.
[ii] Cf. Buruma and Margalit 2004.
[iii] Cf Norris and Inglehart 2004: Ch.4.
[iv] Cf. Habermas 2004.
[v] Norris and Inglehart 2004: Ch. 10
يدافعان عن النظرية الكلاسيكية التي تقول بانتصار العلمانية بقدر تحسن شروط الحياة الاجتماعية والاقتصادية وهي تنشر أيضاً الشعور بـ"الأمن الوجودي". إلى جانب الافتراض السكاني بأنخفاض معدلات الخصوبة في الدول المتقدمة، تفسر هذه النظرية أولياً لماذا تمسك العلمانية كلياً بجذور الغرب. الولايات المتحدة تشكل استثناءً، بشكل أساسي بسبب حقيقتين. أولاً، الرأسمالية المتوحشة لها آثار لا تخففها دولة رفاه اجتماعي ومن ثم تعرض السكان في المتوسط لدرجة عالية من عدم اليقين الوجودي. وثانياً، معدلات الهجرة العالية من المجتمعات التقليدية حيث معدلات الخصوبة العالية تفسر استقرار النسب العالية نسبياً من المواطنين المتدينين.
[vi] Wills 2004.
[vii] Goodstein and Yardley 2004.
60% من الناخبين الأمريكان الذين يتحدثون الأسبانية صوتوا لجورج بوش الإبن و67% من البيض البروتستانت و78% من الأنجليكانيين أو الذين ولدوا مرة أخرى مسيحيين. وحتى وسط الكاثوليك الذين كانوا يميلون إلى التصويت للديمقراطيين قلب بوش الأغلبية التقليدية على عقبيها. وحقيقة أن رجال الدين الكاثوليك قد دعموا بوش هي حقيقة مدهشة إذ ارتبطت فقط بكل ما وقع في مسألة الإجهاض، خاصةً إذا وضعنا في اعتبارنا موقف الإدارة الأمريكية الذي لا يتفق مع موقف الكنيسة في الدفاع عن عقوبة الإعدام ووضع عشرات الآلاف من حياة الجنود الأمريكان والمدنيين العراقيين تحت الخطر بسبب الحرب العدوانية التي انتهكت القوانين الدولية وقدمت أسباب مشكوك فيها لتبريرها.
[viii] Forst 2003.
في "مفهوم الاحترام" أنظر إلى تلك الدراسة التي تغطي مدى تاريخياً واسعاً ومع ذلك هي مقنعة بنظاميتها في
[ix] Rawls 1971: §§ 33f.
[x] Forst 2003.
في مفهوم التسامح كإحترام متبادل أنظر
[xi] See Habermas 1996: Ch. 3.
[xii] See Rawls 1997: 769:
"مثالياً يجب أن ينظر المواطنون إلى أنفسهم وكأنهم هم المشرعين ويسألوا أنفسهم أي المواد الدستورية، مدعومة بأي حجج من تلك التي تلبي مبدأ التبادلية، يعتقدون أنها أكثر معقولية ليصادقوا عليها."
[xiii] Rawls 1993: 217.
[xiv] see Rawls 1997: 773f.
يتحدث رولز عن "أسرة من المفاهيم الليبرالية للعدالة" يمكن أن يرجع إليها الاستخدام العمومي للعقل عندما يفسر المبادئ الدستورية.
[xv] Rawls 1997: 786.
[xvi] See Forst 1994: 199–209.
في تخصيص المطالبة بالحجج في لغة متاحة على نحو عام.
[xvii] Rawls 1997: 783f.
هذا يرتقي إلى مراجعة المبدأ المصاغ على نحو ضيق في Rawls 1994: p. 224f. رولز يحدد شروط القضايا المفتاحية التي ترتبط بـ"الأسس الدستورية"؛ أنا أعتبر هذا التحفظ غير واقعي بالنسبة إلى الأنظمة القانونية الحديثة التي تطبق فيها الحقوق الأساسية في التشريع والقضاء معاً مباشرةً على مواد دستورية بعينها ومن ثم يمكن إعادة تعريف كل القضايا القانونية الجدالية تقريباً بحيث تصبح قضايا مبدأ.
[xviii] Rawls 1997: 777:
"إنهم ليسوا عرائس يتم تحريكها من وراء المشهد بواسطة المذاهب الشمولية"
[xix] Rawls 1997: 781.
سأعود إلى هذا الاعتراض لاحقاً
[xx] in Audi and Wolterstorff 1997: 3f., 76f. and 167f.
أنظر إلى النقاش بين روبرت أودي ونيكولاس ولترستورف
[xxi] Cf. Birnbaum 2002.
[xxii] See the influential study by Bellah, Madsen, Sullivan, Swidler and Tipton 1985. On Bellah’s decisive publications in this field see the festschrift: Madson, Sullivan, Swindler and Tipton (eds.) 2003.
[xxiii] On this empirical argument see Weithman 2002: 91:
"أحاجج بأن الكنيسة ساهمت في الديمقراطية في الولايات المتحدة برعايتها للمواطنة الديمقراطية المتحققة. فهي تشجع أعضائها لقبول القيم الديمقراطية كقاعدة للقرارات السياسية الهامة ولقبول المؤسسات الديمقراطية كمؤسسات مشروعة. ومساهمتها تتم بوسائل، تشمل تدخلها في الحجج المدنية والمناقشة السياسية العامة، تؤثر على الحجج السياسية التي قد يميل أعضاؤها إلى استخدامها، الأساس الذي عليه يصوتون، وتخصيص مواطنيتهم التي تتحدد بها هويتهم. وهي تشجع أعضاءها على أن يفكروا في أنفسهم باعتبار أنهم مقيدين بقيم أخلاقية معطاة قبلياً يجب أن تتسق معها النتائج السياسية. إن تحقيق المواطنة بواسطة أولئك المؤهلين قانونياً للمشاركة في اتخاذ القرار إنجاز ضخم للديمقراطية الليبرالية، إنجاز ضخم لعبت فيه مؤسسات المجتمع المدني دوراً حاسماً".
[xxiv] Audi and Wolterstorff 1997: 25
[xxv] Audi and Wolterstorff 1997: 29
[xxvi] This distinction also prompts Paul Weithman to differentiate the argument in line with his modified proviso; see Weithman 2002: 3.
[xxvii] بينما روبرت أودي يقدم النظير المقابل لمبدأ التبرير العلماني: "في الديمقراطيات الليبرالية، المواطنون المتدينون لديهم إلتزام من الدرجة الأولى بأن لا يدافعوا عن أو يدعموا أي قانون أو سياسة عامة تحدد السلوك الإنساني، إلاّ إذا كان لديهم، أو يرغبون في توفير، أسباب مقبولة دينياً بدرجة كافية لهذا الدفاع أو الدعم" (Audi 2005: 217). هذا المبدأ للتبرير الديني يقصد به بطريقة واضحة فرض فحص ذاتي نقدي على المواطنين الذين تتزود معارف تفكيرهم بأسباب دينية.
[xxviii] On the Augustinian distinction of fides quae creditur and fides qua creditur see R. Bultmann 1984: 185 ff.
[xxix] Wolterstorff in Audi and Wolterstorff 1997: 105.
[xxx] Weithmann 2002: 157.
[xxxi] هذا يؤدي بنا إلى السؤال المثير عن المدى الذي يمكن أن يصل إليه المرشحون في الانتخابات في الاعتراف أو الإشارة إلى كونهم أشخاص متدينون. مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة يمتد بالتأكيد إلى المنصة أو البيان أو الخطوط التي يوعد الحزب السياسي ومرشحوه بتحقيقها. إذا نظرنا إلى هذا الأمر معياريا، فإن القرارات الانتخابية التي تنحدر إلى أسئلة شخصية بدلاً من قضايا البرنامج تثير إشكالات على أية حال. والأكثر إثارة للإشكالات هو أن يأخذ الناخبون قرارات تصويتهم من التمثيل الذاتي الديني للمرشحين. أنظر في هذه النقطة إلى الأفكار التي وضحها ويثمان Weithman 2002: 117-20 : "سيكون أمراً جيداً أن يكون لدينا مبادئ تقول لنا ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين عندما يتم تقييم المرشحين وفقاً لما يمكن أن نسميه ‘قيمهم التعبيرية‘ ــ قدرتهم على التعبير عن القيم التي كونتهم ... والأكثر أهمية لتذكره بخصوص هذه الحالات، على أية حال، هو أن الانتخابات لا يجب أن يتم التقرير بشأنها أو التصويت فيها كلياً أو أولياً على أساس القيم التعبيرية المختلفة للمرشحين".
[xxxii] Schmidt 2001.
[xxxiii] Schmidt bases his objection on Gaus 1966.
[xxxiv] بالمناسبة، هذه الحالة الخاصة تمنع تمثل المعتقدات الدينية في المفاهيم الدينية، كما يقترح فورست Forst (1994: 152-61) الذي يعطي، من منظور النظرية السياسية المعيارية، الفرق بين الحجج الدينية والحجج العلمانية مقعداً خلفياً لأولوية الخصائص الإجرائية على الخصائص الجوهرية للتبرير. أننا نعلم فقط من المعتقدات الدينية المتنافسة أنه من باب أولى أن الإجماع المبرر لا يمكن الوصول إليه. وفي كتابه الأخير Forst (2002: 644-47) يتعرف فوستر على الحالة الخاصة لهذه الفئة من المعتقدات.
[xxxv] Habermas 2003: 256ff.
[xxxvi] Weithman 2002: 3:
"مواطنو الديمقراطية الليبرالية يمكن أن يقدموا حججاً في المناقشة العامة السياسية التي تعتمد على حجج مستقاة من رؤيتهم الأخلاقية الشاملة، بما يشمل رؤيتهم الدينية، بدون أن يجعلوها صالحة بتقريبها من الحجج الأخرى ــ بشرط إعتقادهم في أن حكومتهم لها الحق في تبني الإجراءات التي يفضلونها ومع استعدادهم للإشارة إلى ما يفكرون فيه كتبرير لتبني هذه الإجراءات".
[xxxvii] Habermas 1991.
[xxxviii] Weithman 2002: 121 (my italics).
[xxxix] Audi and Wolterstorff 1997: 117f.
[xl] Rawls 1994: 137:
"ممارستنا للسلطة السياسية تكون صحيحة بالكامل فقط حين نمارسها بالتوافق مع الأسس الدستورية التي يتوقع أن يصادق عليها بطريقة عقلانية كل المواطنين الأحرار والمتساويين في ضوء المبادئ والنماذج المقبولة من عقلهم الإنساني العام".
[xli] Wolterstorff 1997: 160.
[xlii] أن لي مراسلاتي مع توماس م شميث لأشكره على تمييز فلسفة للدين لا تتم متابعتها من الجانب الإلحادي: فهي تهدف إلى تنوير ذاتي للدين، ولكنها لا تتكلم، مثل اللاهوت، باسم وحي ديني، ولا كـ"ملاحظها" فقط. أنظر أيضاً Lutz-Bachmann 2000. في الجانب البروتستانتي لعب فردريك شليرماخر دوراً نموذجياً. فهو يميز بحرص بين دور اللاهوتي ودور فيلسوف الدين النادم (الذي لم يعتمد على التقليد الأكويني وإنما بدلاً عن ذلك اعتمد على مثالية كانط الترانسندنتالية) ومن ثم ركبهما الأثنين معاً في شخصه هو نفسه. أنظر إلى مقدمته في شرح المذهب المسيحي في Schleiermacher 1830-1: §§ 1–10.
[xliii] بهذا المعنى، يتكلم فورست Forst (1994: 158) بالمثل عن "الترجمة" حينما يطالب بـ"أن الشخص يجب أن يكون قادراً على ترجمة (تدريجية) [التأكيد منه] لحججه / حججها إلى حجج مقبولة على أساس قيم ومبادئ العقل العام". على أية حال، هو يعتبر الترجمة ليس كمشروع مفصلي في البحث عن الحقيقة، التي يجب أن يشارك فيها المواطنون العلمانيون حتى إذا حصر الجانب الآخر نفسه في المقولات الدينية. صاغ فورست المطلب بنفس الطريقة التي صاغه بها رولز وأودي، كواجب ديني للشخص المتدين، أيضاً. بالمناسبة التعريف الإجرائي الخالص لفعل الترجمة برؤية "للتبرير المتبادل غير المحدد" لا يكون عادلاً بالنسبة إلى المشكلة السيمانطيقية لنقل محتوبات الكلام الديني إلى أشكال تمثيل ما بعد دينية وما بعد ميتافيزيقية. ونتيجة لذلك، يضيع الاختلاف بين الخطاب الديني والخطاب الأخلاقي. أنظر، كمثال لذلك، أرينز Arens 1982، الذي يؤول الاستعارات الانجيلية كأفعال كلام تجديدية.
[xliv] في دراسته المتمكنة لتاريخ فكرة التسامح، أطلق راينر فورست على بيير بايل اسم "المفكر الأعظم في التسامح" لأن باير وفر بطريقة مثالية تحديداً ذاتياً تأملياً للعقل في العلاقة بالدين.
On Bayle see Forst 2003: § 18 as well as §§ 29 and 33 on the systematic argument.
[xlv] لفت ولترستورف انتباهنا إلى كل التمييز المشوش في أغلب الأحيان بين الحجج الدينية التي يعنى بها التفسير، والرؤية العلمانية للعالم والتي لم يقصد بها التفسير. See Audi and Wolterstorff 1997: 105: "في أكثر الأوقات إن لم نقل في أغلب الأوقات نستطيع أن نميز الحجج الدينية من على بعد ميل ... وبكيفية ما، تمر المنظورات العلمانية الشاملة، المطابقة، بدون أن نلحظها".
[xlvi] Geyer (ed.) 2004; Pauen 2004.
[xlvii] Lutz-Bachmann 1992.
[xlviii] See the sketches to a history of Being in Heidegger 1989.
[xlix] See the interesting discussions in Brunkhorst 2002: 40–78.
[l] See footnote 19.
[li] Milbank 1990; Milbank, Pickstock, and Ward (eds.) 1999.
[lii] On the opposite position see the early work of Hans Blumenberg (1985).
[liii] Schmidt 2005.
[liv] See the final comment by W. Detel in his marvelously informed article Detel 2004.
[lv] شكري لراينر فورست وتوماس م. شميث لتعليقاتهما البصيرة، وكلاهما قد أصدر العديد من الأعمال المستنيرة في هذا الموضوع. وأنا أيضاً ممتن لمليسا ييتس للمراجع المفيدة والنقاشات المحفزة.
المراجع
· Arens, E. (1982), Kommunikative Handlungen. Düsseldorf: Patmos Verlag.
· Audi, R. and Wolterstorff, N. (1997), Religion in the Public Sphere. New York: Rowman and Littlefield.
· Audi, R. (2005), ‘Moral Foundations of Liberal Democracy, Secular Reasons, and Liberal Neutrality Toward the Good’, Notre Dame Journal of Law, Ethics, & Public Policy, 19: 197–218.
· Bellah, R., Madsen, R., Sullivan, W. M., Swidler, A. and Tipton, S. M. (1985). Habits of the Heart. Berkeley. First published in English as chapter 5 of Between Naturalism and Religion (Cambridge: Polity Press, 2006). Originally published in Zurischen Naturalismus and Religion (Frankfurt: Suhrkamp Verlag, 2005): University of California Press.
· Berger, P. L. (ed.) (1999), The Desecularization of the World. Washington, DC: Ethics and Public Policy Center.
· Birnbaum, N. (2002), After Progress. Oxford: Oxford University Press.
· Blumenberg, H. (1985), Legitimacy of the Modern Age, tr.Wallace R. M. Cambridge, MA: MIT Press.
· Brunkhorst, H. (2002), Solidarität. Frankfurt/Main: Suhrkamp.
· Bultmann, R. (1984). Theologische Enzyklopädie, Annex 3: Wahrheit und Gewissheit. Tübingen: Mohr Siebeck.
· Buruma, I. and Margalit, A. (2004), Occidentalism. The West in the Eyes of its Enemies. Harmondsworth: Penguin.
· Detel, W. (2004), ‘Forschungen über Hirn und Geist’, Deutsche Zeitschrift für Philosophie, 6: 891–920.
· Forst, R. (1994), Kontexte der Gerechtigkeit. Frankfurt/Main: Suhrkamp.
· ----------- (2003), Toleranz im Konflikt. Frankfurt/Main: Suhrkamp.
· Gaus, G. F. (1966), Justificatory Liberalism. New York: Oxford University Press.
· Geyer, C. (ed.) (2004), Hirnforschung und Willensfreiheit. Frankfurt/Main: Suhrkamp.
· Goodstein, L. and Yardley, W. (2004). ‘President Bush Benefits from Efforts to Build a Coalition of Religious Voters’, New York Times, Nov. 5, 2004, A 19.
· Habermas, J. (1996), Between Facts and Norms, tr. Rehg William. Cambridge, MA: MIT.
· ----------------- (1991), ‘Vom pragmatischen, ethischen und moralischen Gebrauch der praktischen Vernunft, Abschnitt IV’, in his Erla¨uterungen zur Diskursethik. Frankfurt/Main: Suhrkamp, 112–5.
· ----------------- (2003), ‘Glauben und Wissen, in his Zeitdiagnosen. Frankfurt/Main: Suhrkamp, 249–263.
· ----------------- (2004), Der gespaltene Westen. Frankfurt/Main: Suhrkamp.
· Heidegger, M. (1989), Beiträge zur Philosophie (Vom Ereignis). Frankfurt/Main: Klostermann.
· Lutz-Bachmann, M. (1992), ‘Hellenisierung des Christentums?’, in C. Colpe, L. Honnefelder and M. Lutz-Bachmann (eds.), Spätantike und Christentum. Berlin: Wiley, pp. 77–98.
· ------------------------- (2002), ‘Religion-Philosophie-Religionsphilosophie’, in M. Jung, M. Moxter and T. M. Schmit (eds.), Religionsphilosophie. Würzburg: Echter, 19–26.
· Madson, R., Sullivan, W. M., Swindler, A. and Tipton, S. M. (eds.), Meaning and Modernity: Religion, Polity, and Self. Berkeley, CA: University of California Press.
· Milbank, J. (1990), Theology and Social Theory: Beyond Secular Reason. Oxford: Oxford University Press.
· Milbank, J., Pickstock, C and Ward, G. (eds.) (1999), Radical Orthodoxy. London and New York: Routledge.
· Norris, P. and Inglehart, R. (2004), Sacred and Secular, Religion and Politics Worldwide. Cambridge: Cambridge University Press.
· Pauen, M. (2004), Illusion Freiheit? Frankfurt/Main: Fischer Verlag.
· Rawls, J. (1971), A Theory of Justice. Cambridge, Mass: Harvard University Press.
· ----------- (1993), Political Liberalism. New York: Columbia University Press.
· ----------- (1997), ‘The Idea of Public Reason Revisited’, The University of Chicago Law Review, 64: 765–807.
· Schleiermacher, F. (1830–1). Der christliche Glaube; reprinted Berlin: De Gruyter, 1999.
· Schmidt, T. M. (2001), ‘Glaubensu¨ berzeugungen und säkulare Grunde’, Zeitschrift für Evangelische Ethik, 4: 248–61.
· ------------------- (2005), ‘Postsäkulare Theologie des Rechts. Eine Kritik der radikalen Orthodoxie’, in M. Frühauf and W. Löser (eds.), Biblische Aufklärung—die Entdeckung einer Tradition. Frankfurt/Main: Knecht, 91–108.
· Weithman, P. J. (2002), Religion and the Obligations of Citizenship. Cambridge: Cambridge University Press.
· Wills, G. (2004). ‘The Day the Enlightenment Went Out’, New York Times, Nov. 4/2004, A 31.