المسألة القومية في سياقها التاريخي
حافظ عليوي
2005 / 10 / 28 - 12:56
أصل المسألة القومية
يعود أصل القضية الفلسطينية الى الاجتياح الصهيوني الاول لارض فلسطين ، وبالتحديد الى اليوم الذي انتزعت فيه الصهيونية الوعد باقامة كيان قومي لليهود في فلسطين من الوزير البريطاني بلفور . ومع ان القضية الفلسطينية بدأت في مستهل القرن العشرين ، الا ان فهم سيرتها يقتضي العودة الى نهاية القرن الثامن عشر الذي شهد اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 . وكانت اهمية الثورة الفرنسية انها جسدت مبدأ الدولة القومية ومفهوم الامة في شكل تجمع يشمل اناسا من انتماءات عرقية ودينية مختلفة على اساس عنصرين رئيسيين : الاقليمي والثقافي - اللغوي .
وبينما عارض النظام الاقطاعي الفكرة القومية ، وفضل الوحدات الزراعية كاساس اقتصادي ، فان الطبقة البرجوازية الناشئة سعت للوحدة الاقليمية ومزجت بين الشعوب المختلفة لتكون قومية واحدة . وكان هدف البرجوازية تسهيل العلاقات التجارية وانشاء السوق القومية لتوزيع منتجاتها . الفكر القومي هو اذن فكر الطبقة البرجوازية ، وجوهره اقتصادي بحت . ويعتبر النظام الرأسمالي المتمركز في المدن الصناعية الكبيرة ، شكل النظام الاقتصادي الذي خلف النظام الاقطاعي الزراعي .
الحركة الصهيونية جزء من المرحلة الاستعمارية للحركة القومية
صّدرت الثورة الفرنسية الفكر القومي من خلال حروب نابليون الى شتى انحاء العالم ، وزعزعت بذلك الامبراطوريات الاقطاعية في اوروبا خلال قرن من الزمان ، من عام 1789 وحتى توحيد المانيا في 1871 . وتميز الفكر القومي آنذاك بالصبغة الثورية ، حتى ان الاشتراكية تبنت نضال الشعوب من اجل بناء الدول القومية بهدف دحر بقايا النظام الاقطاعي .
ولكن تجدر الاشارة الى ان الحركة الاشتراكية ميزت بين عهدين للبرجوازية : الديقراطي والامبريالي الاستعماري .
وتعتبر الحركة الصهيونية التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر جزءا لا يتجزأ من العهد الاستعماري للبرجوازية ، فقد نمت في صفوف الطبقة البرجوازية الصغيرة اليهودية في شرق اوروبا ، وراحت تبحث عن رقعة ارض لتحقيق طموحاها القومية .
وهنا تجدر ملاحظة الفرق الكبير بين الفكر القومي الصهيوني الذي عكس التطور الاجتماعي والاقتصادي الكبير في اوروبا من جهة ، وبين انعدام الوعي القومي العربي وتغلب الانتماء الديني ، الذي عكس الجمود الاجتماعي والاقتصادي في ظل الحكم العثماني من جهة اخرى . وقد عملت الصهيونية على توحيد يهود الشتات المنتمين لاعراق وقوميات مختلفة من خلال إحياء اللغة العبرية لتصبح بذلك اللغة الموحّدة . ولم تكتف الصهيونية بتبني الفكر القومي العلماني بل أسست اقتصاجا رأسماليا متطورا ، الامر الذي سهّل عليها التغلب على مقاومة المجتمع العربي الزراعي والمتخلف اقتصاديا .
ان الاستنتاج من ذلك هو ان الفكر القومي لا يأتي بالاساس لخدمة الشعوب المضطهّدة ، بل لخدمة برجوازية الدول الرأسمالية المتطورة . الامر الذي يفسر تحفظ الماركسيين ، وعلى رأسهم ماركس وانجلز ولينين ، من الحركة القومية ، رغم تبنيهم المبدئي لحق الشعوب في تقرير مصيرها . فقد أدرك ماركس وانجلز الطابع الجماهيري الثوري للحركات القومية التي زعزعت اوروبا في فترة " ربيع الشعوب " (1848) . وعلى خلفية هذه الثورات ومشاركة العمال فيها ، كتب ماركس " البيان الشيوعي " وهو البرنامج العمالي الاول ، وفيه وضع برنامجا مستقلا للطبقة العاملة وعين الخط الفاصل بين المصالح الطبقية للبرجوازية ومصالح العمال ، وحدد انه ليس للعمال وطن ، واختتمه بندائه المشهور " يا عمال العالم اتحدوا ! " .
الموقف الماركسي من المسألة القومية
وقد يبدو للوهلة الاولى وجود تناقض ضمني بين دعم الماركسيين للحركات القومية التي تقودها البرجوازية لتأسيس الدول القومية ، وبين اصرارهم على ان القومية ليست فكرا عماليا وانه ليس للعمال وطن . ولكن اذا نظرنا للمسألة في سياقها التاريخي ، وجدنا ان التناقض يكمن في طبيعة الظاهرة القومية المتغيرة ، وليس في الفكر الماركسي .
لقد نظر الماركسيون بشكل ايجابي للتطور الرأسمالي والنهوض القومي الذي رافقه ، لانهما مزّقا النظام الاقطاعي الرجعي والمتخلف . وأدّى نمو الطبقة البرجوازية الى نمو مماثل للطبقة العاملة . وبما ان الرأسمالية هي مرحلة لابد منها نحو بناء النظام الاشتراكي ، كان من مصلحة الطبقة العاملة ان تدعم نضال البرجوازية ضد النظام الملكي القديم . ولكن هذا الدعم لم ينقذ العمال من المذابح المتتالية التي اقترفتها بحقهم البرجوازية مرة تلو الاخرى مع انتهاء الثورة ، وكانت الثورة الفرنسية ابلغ مثال على ذلك .
وقد وصلت مرحلة النهوض التي ميّزت الحركات البرجوازية القومية الى نهايتها ، بعد ان نجحت باستبدال الحكم الملكي وبلغت مرحلة الدولة الرأسمالية . وتفرغت البرجوازية منذ تلك الفترة لاستغلال العمال واستعمار آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية . واصبحت المشاعر القومية اداة رجعية بيدها تستخدم في منافستها مع برجوازية البلدان الرأسمالية الاخرى ، وتحرض من خلالها عمال بلد على عمال بلد آخر باسم الدفاع عن الوطن ، تحقيقا لمصالحها . لذا فقد حذّر ماركس العمال من الوقوع في فخ النزعات القومية ، وعلّمهم ان البرجوازية موحدة في عدائها للاشتراكية ، وفي سعيها لمنع الطبقة العاملة من الوصول للحكم ، وهو الذي اثبتته لاحقا التحالفات الاستعمارية الغربية ضد الاتحاد السوفيتي .
موقف لينين من حركات التحرر الوطني
في فترة لينين برزت حركات قومية تحررية في صفوف الشعوب المضطهدة ، مختلفة في جوهرها عن الحركات القومية التي ميزت القرن التاسع عشر . كانت هذه حركات شعوب المستعمرات التي خضعت لاستغلال الدول الرأسمالية المتطورة .
وكانت الرأسمالية حينها قد وصلت الى اعلى مراحل تطورها ، وهي مرحلة الامبريالية التي تخرج فيها البرجوازية من حدود الدولة القومية سعيا لتأسيس اقتصاد على مستوى عالمي ، وذلك من خلال إخضاع شعوب المعمورة لحكمها واستغلال موادها الخام مثل النفط والايدي العاملة الرخيصة ، وتحويلها الى سوق لاستيعاب المنتجات المصنعة في مراكزها الغربية المتطورة .
وقد دعم لينين حق الشعوب في تقرير مصيرها ، الا انه اشترط ان يكون في تحقيق هذا الحق خدمة لنضال الطبقة العاملة نحو الاشتراكية . وحذّر الطبقة العاملة من تبني الفكر القومي الذي يبثّ الفساد في صفوفها ، ووصف مبدأ القومية في مقدمة كتابه " حق الامم في تقرير مصيرها " ، بالكلمات التالية :
" مبدأ القومية امر حتمي تاريخيا في المجتمع البرجوازي ، ونظرا لهذا يعترف الماركسيون بالحتمية التاريخية للحركات الوطنية . ولكن كيلا يتحول هذا الاعتراف الى دفاع عن القومية ، فمن الضروري حصره ، بدقة وصرامة بالغتين ، ليشمل فقط العناصر التقدمية في الحركات الوطنية - وذلك حتى لا يقود هذا الاعتراف الى طمس الوعي العمالي وتغلب الفكر البرجوازي " .
في المقدمة نفسها حدد لينين طبيعة الدعم الذي على الطبقة العاملة ان تمنحه للحركاة الوطنية : " القضاء على كل ظلم اقطاعي ، كل اشكال الاضطهاد القومي ، وامتيازات امة على امم اخرى او لغة على سائر اللغات - هو واجب الطبقة العاملة بصفتها قوة ديمقراطية ، ولكن مساندة القومية البرجوازية في امور خارج هذا النطاق معناها خيانة العمال ودعم البرجوازية . هذا هو الخط الفاصل الذي يكون احيانا رفيعا جدا " .
اليسار الفلسطيني - الفكر القومي يتغلب على الطبقي
يتضح اليوم ، بعد انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية ، ان الخط الفاصل الرفيع الذي تحدث عنه لينين قد تلاشى تماما في العلاقات ما بين الاحزاب اليسارية الفلسطينية وبين البرجوازية الفلسطينية المتمثلة بحركة " فتح " . وقد غلب الفكر الوطني القومي على الفكر الطبقي ، وكانت الثقافة الوطنية اقوى بكثير من الثقافة العمالية الاممية ، الامر الذي زاد نفوذ البرجوازية الوطنية في صفوف الطبقة العاملة الفلسطينية .
وعُرفت " فتح " بمقولتها ان الشعب الفلسطيني هو شعب واحد لا يعرف الطبقات او الصراع الطبقي ، وان من يقسم الشعب الى طبقات انما يضعف وحدته الوطنية . واصبحت الوحدة الوطية كلمة السر والشرط الذي لا بد منه للتخلص من الاحتلال ، وهو الامر الذي انصاع له اليسار دون ادنى تحفظ .
لقد تميزت البرجوازية الوطنية الفلسطينية في عهدها الاول بصفات ثورية واستعدادات للتضحية من اجل بناء دولة فلسطينية واقتصاد فلسطيني مستقل ، الا ان هذا العهد وصل نهايته مع تغيير موازين القوى العالمية والاقليمية في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وهزيمة العراق في حرب الخليج . وقد دفع الفكر البرجوازي والمصالح الطبقية بالبرجوازية نحو البحث عن مكان لها في النظام الرأسمالي الجديد الذي تقوده امريكا .
وكانت نتيجة هذا التحول في موقف البرجوازية انقلابها على برنامجها الوطني الكفاحي ، واخضاع الطبقة العاملة الفلسطينية الى ابشع انوع الاستغلال المزدوج الذي تمارسه اسرائيل والبرجوازية الفلسطينية التابعة لها ، وذلك بموجب اتفاق اوسلو الذي ربط اقتصاد الضفة الغربية وغزة باسرائيل ، وحصر دور السلطة في قمع الحريات الديمقراطية وحق الطبقة العاملة في النشاط المعارض لها ، مراعاة ًللمصالح الامنية الاسرائيلية .
ان انهيار المشروع القومي الفلسطيني لم ينجم عن انتقال البرجوازية الى معسكر الاستعمار والصهيونية فحسب ، بل عن انهيار البرنامج اليساري المعارض لاوسلو . فقد فشلت المنظمات الفلسطينية اليسارية ، وتحديدا الجبهتان الديمقراطية والشعبية في الخروج عن الاجماع القومي ، وطرح بديل طبقي للطريق المسدود الذي انتهت اليه البرجوازية المتمثلة بالسلطة الفلسطينية .
ورغم كل التحولات البنيوية التي طرأت على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، والتحاق الانظمة العربية القومية بالنظام الامريكي الجديد وتخلي البرجوازية الفلسطينية عن برنامجها الوطني ، يواصل اليسار الفلسطيني اعتماده على استراتيجية الوحدة الوطنية مع السلطة الفلسطينية كما لو ان شيئا لم يحدث ، او ان ما حدث كان سطحيا وبالامكان التغلب عليه من خلال مشروع " الحوار الوطني " واقناع السلطة بالعدول عن مواقفها .
واذا كان ماركس ولينين قد دعما الحركات الوطنية ، فلم يغب عن ذهنهما قط الهدف الاساسي الثوري للطبقة العاملة ، وهو الوصول الى السلطة وبناء النظام الاشتراكي . وكان واضحا للماركسيين ان الاساس الاجتماعي والاقتصادي الموافق للبرنامج القومي الوطني هو النظام الرأسمالي الذي يعزز مكانة الطبقة البرجوازية وثقافتها . وبما انهم ادركوا ان هذه مرحلة لا بد منها في الطريق نحو تحقيق الاشتراكية ، فقد رأوا ضرورة لتربية الطبقة العاملة على الثقافة الاشتراكية الثورية ، من خلال ابراز الفوارق بينها وبين الثقافة الوطنية البرجوازية . وقد مكّنت هذه التربية البلاشفة الروس بقيادة لينين من الحفاظ على استقلاليتهم والوصول الى السلطة وتأسيس الاتحاد السوفيتي ، هذا في حين انخرطت سائر الاحزاب السياسية الاشتراكية ، ومن بينها المناشفة الروس ، في برنامج الجمهورية البرجوازية ، وانضمت الى معسكراتها في حربها ضد النظام الاشتراكي السوفيتي لاحقا .
اما اليسار الفلسطيني فقد سلك الاتجاه المعاكس حين رهن النضال التحرري بالتحالف مع البرجوازية ، على قاعدة ما يسمى بالقواسم المشتركة . وتبعا لذلك اصبح التناقض الطبقي امرا ثانويا ، بينما اصبح التناقض مع العدو الصهيوني امرا رئيسيا ، الامر الذي فتح المجال امام تحقيق الائتلاف الواسع بين مختلف التيارات في اطار منظمة التحرير الفلسطينية ، وادى من جهة اخرى الى تغلغل الفكر البرجوازي البراغماتي في صفوف جماهير الطبقة العاملة الفلسطينية التي رأت في نفسها كتلة وطنية واحدة ، وفقدت تماما وعيها الطبقي المستقل .
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي استعجلت احزاب شيوعية كثيرة في العالم بالتخلي عن الجوهر الثوري للبرنامج الماركسي المتمثل بدكتاتورية البروليتاريا التي تعني قضاء الطبقة العاملة على الطبقة البرجوازية ، ومصادرة مقاليد الحكم والاقتصاد منها . وقد اصاب هذا التراجع الفكري اليسار الفلسطيني فأفقده برنامجه الفكري الثوري ، وابقاه مع برنامج البرجوازية الوطني الذي تقادم عليه الزمن بعد انقلاب البرجوازية نفسها عليه .
بعد ان فضّلت البرجوازية الفلسطينية الحالف مع اسرائيل على حساب الطبقة العاملة الفلسطينية ، وحلّت بذلك التناقض بينها وبين الاحتلال ، سقط مبرر اليسار الفلسطيني للحالف معها ، وتحول التناقض بين اغلبية الشعب والطبقة العاملة من جهة وبين وبين السلطة الفلسطينة من جهة اخرى اخرى الى تناقض رئيسي .